إننا نذكر ومنذ ستة عشر عاما عندما القى احد المفكرين الأمريكيين (صمويل هنتنجتون) محاضرته حول صراع الحضارات وتناولتها وسائل الإعلام على نطاق واسع وكان رد الفعل من لدن الكثيرين سريعا وتصدى لها الكثيرون بالنقد كما تناولها الآخرون في سياق الاحتراس من هذا العالم الإسلامي وما يمثله بتحالفه مع بعض الحضارات الأخرى من خطر على الحضارة الغربية السائدة لأن العالم لا يحتمل التساكن بين حضارات متناقضة القيم مع ما عرفه تاريخ العلاقات بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، لقد اخذ الكل الأمر بجد، وحاول كل من موقع معين ان يعبر عن موقف من هذه الحرب التي وضع هذا المفكر الأساس الإيديولوجي والتاريخي والحضاري لها، وهكذا تحرك العالم وتحركت المؤسسات الثقافية والفكرية وهيأة الأممالمتحدة لتنظيم الندوات واللقاءات والمؤتمرات للتبشير بعالم تكامل الحضارات وتنوع الثقافات إلا ان الأحداث كانت متسارعة في اتجاه التخندق في مواقع الصراع بدل الخندقة في مواقع التكامل والتنوع، ولم يلبث الأمر حتى كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 هذه الأحداث التي كانت ذريعة لإعلان الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين ويخرج العالم الغربي في كثير من الدول ان لم يكن الكل للتنديد بالخطر الإسلامي الذي هيأت وسائل الإعلام الأرضية الضرورية للتخويف منه، ورغم ان بعض الباحثين والمفكرين تصدوا للهجمة العنيفة والضارية ضد الإسلام والمسلمين و توضيح المبالغة والاختلاق في التداعي لصد الخطر الإسلامي المحدق بالغرب وحضارته و رغم ان العالم الإسلامي لم يكن مهيأ ولا في نيته الصراع مع الغرب أو مع حضارته وان مجرد وضع قطعة من ثوب فوق رأس فتاة مسلمة أو إرسال لحية من طرف شاب يقيم الدنيا ولا يقعدها في الغرب وهكذا ظهر في الغرب مرض (فوبيا الإسلامية) وتحركت طوابير إشعال الفتنة وإيقاد الحروب ورأينا صحفا تتهجم على المقدسات الإسلامية وتهاجم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم وتستفز مشاعر المسلمين لتؤكد مقولة خطر الإسلام والمسلمين على الغرب وحضارته وعليه فما على الغرب إلا أن يطرد هؤلاء الدخلاء الذين يعتبرون قنبلة موقوتة إذ كل مسلم أو عربي مشروع إرهابي إن لم يكن إرهابيا بالفعل إلى أن يثبت العكس وهكذا تحركت الأجهزة هنا وهناك وقدم لها بعض الناس المحسوبين على الإسلام المبررات بأفعالهم لان الإسلام لا يبيح في أي حال من الأحوال قتل الأبرياء الآمنين الساعين على عيالهم في مجمعات تجارية أو في وسائل السفر وغير ذلك. تصرفات تعطي المصداقية..؟ ان تلك الأفعال من الأطراف كلها أعطت في الواقع جزء من المصداقية لما اسماه (هنتنجنتون) صدام الحضارات شئنا أم أبينا وتغذى هذا كله بما قامت به القوة الكبرى في العالم من احتلال للعراق وقتل للأبرياء بمآت الألوف ونفس الشيء في أفغانستان وباكستان وغيرهما وكل ذلك معزز بتقارير إستراتيجية تستهدف تمزيق العالم الإسلامي وتقسيمه إلى دويلات يقاتل بعضها بعضا مما يستنزف وقت وجهد الجميع وما يذهب بعائد الثروات المعدنية التي تتوفر عليها دول العالم الإسلامي وفي غمرة هذا الواقع المأساوي والذي شنت فيه الدولة الصهيونية حربا لا تزال مفتوحة على لبنان وأخرى على غزة ومحاصرة الشعب الفلسطيني في هذا القطاع دون أدنى وسيلة للعيش لعله في سياق هذا كله جاء خطاب الرئيس (اوباما) ليحاول إيقاف عجلة مسيرة القطيعة النهائية. فلذلك لا نستغرب إذا وجدنا الكثيرين يتحفظون نحو الخطاب ومضمونة إذ كثيرا ما خالف القول الفعل، هكذا حدثنا التاريخ ووقائعه فالثورة العربية الكبرى أو ما سمي بذلك والتي لعبت فيها مخابرات الغرب دورا غير نظيف وغير شريف والتي اندفع فيها العرب بإخلاص إلى قتال ضار بجانب الحلفاء وضد دولة مسلمة هي الدولة العثمانية في هذا الوقت بالذات كان الاتفاق مع الصهيونية لإعطاءها فلسطين، وكان الاتفاق كذلك على تقسيم بلاد الغرب والمسلمين بين فرنسا وانجلترا وعندما أعلن الرئيس الأمريكي (ولسن) نقطه الأربعة عشر كان مشروع التقسيم والانتداب آخذا طريقة نحو التنفيذ، وكان مؤتمر السلام لعبة من لعب السياسة الدولية فضحها الكثيرون من غربيين وشرقيين، واذكر في هذا الصدد كتابين احدهما لكاتب أمريكي بعنوان: (سلام ما بعده سلام) تحدث فيه عن المؤامرة الكبرى ضد الشرق العربي والآخر لسياسي وباحث تركي »احمد رضا« بعنوان (الخيبة الأدبية للسياسة الغربية) تحدث فيه عن دناءة الغرب وسوء أخلاقه السياسية ومكيابليته المتناهية الخبث هذا دون ان نتحدث عن كيفية تطبيق ما سمي بالميثاق الأطلسي أثناء الحرب العالمية الثانية وكيف أطلقت يد الدول الاستعمارية لذبح وتقتيل سكان من مواطني المستعمرات وهم الذين كانوا وقود الحرب طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية إنها تجارب مريرة عرفتها علاقات الشرق الإسلامي بالغرب خلال القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي دون أن نرجع إلى ما قبل ذلك من تاريخ الصراع الدموي الذي تجاوزه ونسيه المسلمون بما جبلوا عليه من صفح وتسامح وما لا يزال الغرب يحييه ويغذيه بالأبحاث والدراسات والتصرفات في مختلف لظروف والأحوال. خطاب (هنيني نهنيك) ان خطاب الرئيس الأمريكي «أوباما» لامس هذا التاريخ في مقدمة خطابه ليؤثر للدعوة إلى تجاوزه ولعل المسؤولين السياسيين في العالم الإسلامي أكثر الناس استعدادا للتجاوب مع هذا لأنهم بالأساس في الأغلب الأعم سياسة أكثرهم ما يعبر عنه في المقولة الشعبية المغربية بمقولة (هنيني نهنيك) فلسان حالهم يقول: دعنا من حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة وحقوق المرأة والأقليات العرقية والمذهبية أو الطائفية وما ابتكر تموه من هذه الأمور لشغلنا وتهديدنا ونحن نساعد في تصفية ما تريدون تصفيته من الناس الذين يزعجونكم بما يثيرونه من مشاكل في وجه سياستكم وما يثيرونه لنا من متاعب بدعوتهم للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فهناك نقط التقاء بين بعض الساسة في العالم الإسلامي وبين الساسة في الغرب ورغم هذا كله فإن ما يتميز به المسلم من خلق التسامح والاغضاء عمن أساء يجعل الناس وليس الساسة فقط ينظرون بروح ايجابية إلى ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي في جامعة القاهرة وذلك لأنه: 1 - يسجل اعترافا بحقيقة تاريخية طالما تجاهلها الساسة في الغرب وتجاهلها كثير من الباحثين الذين يحاولون باستمرار إلقاء اللوم والتبعة على الجانب الإسلامي فيما يحدث من صراع أو سوء تفاهم ولم يفته ان يسجل ما يلقي الصراع في القرون الماضية والحقبة الاستعمارية من اثر سلبي على الواقع الراهن بين المسلمين والغرب وذلك حين يقول: إننا نلتقي في وقت يشوبه توثر كبير بين الولاياتالمتحدة والمسلمين حول العالم وهو توثر تمتد جذوره إلى قوى تاريخية تتجاوز أي نقاش سياسي راهن وتشمل العلاقة ما بين الإسلام والغرب قرونا سادها حسن التعايش والتعاون، كما تشمل هذه العلاقة صراعات وحروبا دينية، وساهم الاستعمار خلال العصر الحديث في تغذية التوتر بسبب حرمان العديد من المسلمين من الحقوق والفرص، كما ساهم في ذلك الحرب الباردة التي عوملت فيها كثير من البلدان ذات الأغلبية المسلمة بلا حق كأنها مجرد دول وكيلة لا يجب مراعاة تطلعاتها الخاصة وعلاوة على ذلك حدا التغيير الكاسح الذي وافقته الحداثة والعولمة بالعديد من المسلمين إلى اعتبار الغرب معاديا لتقاليد الإسلام. 2 - يحدد بدقة انه جاء للبحث عن علاقة جديدة بين بلاده والمسلمين قوامها ».... والاحترام المتبادل، وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والإسلام لا يعارضان بعضهما البعض، ولا داعي أبدا للتنافس فيما بينهما، بل ولهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها، ألا وهي مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان«. وهو هنا يسجل كذلك إن قيم الإسلام ليست مبنية على الإرهاب والعنف ولكنها قيم العدل والكرامة الإنسانية والحرية للجميع. 3 - انه يسجل باعتراف مبني على دراسة التاريخ ما حمله الإسلام من نور العلم والمعرفة إلى الإنسانية، ولابد أن نتذكر هنا ونذكر ان الرجل السياسي هنا يبذ رجل الدين «البابا» في إدراكه لحقائق التاريخ العلمي والحضاري فهو لا ينكر على الإسلام دوره العلمي والحضاري والعقلي كما فعل كبير الكنيسة الكاثوليكية في محاضرته المشهورة والتي سجل فيها التاريخ على كبير الكنيسة الجهل والتجاهل والتعصب المقيت ضد الإسلام وحضارته. وذلك حين يقول: إنني أدرك بحكم دراستي للتاريخ ان الحضارة مدينة للإسلام الذي حمل معه في أماكن مثل الأزهر نور العلم عبر قرون عدة، الأمر الذي مهد الطريق أمام النهضة الأوروبية وعصر التنوير، ونجد روح الابتكار الذي ساد المجتمعات الإسلامية وراء تطوير علم الجبر وكذلك البوصلة المغناطيسية وأدوات الملاحة وفن الأقلام والطباعة بالإضافة إلى فهمنا لانتشار الأمراض وتوفير العلاج المناسب لها، حصلنا بفضل الثقافة الإسلامية على أروقة عظيمة وقمم مستدقة عالية الارتفاع وكذلك على أشعار وموسيقى خالدة الذكر وفن الخط الراقي وأماكن التأمل السلمي وأظهر الإسلام على مدى التاريخ قلبا وقالبا الفرص الكامنة في التسامح الديني والمساواة ما بين الأعراف. 4 - يسجل الرجل كذلك دور الإسلام في قصة أمريكا وإذا كان قد ذكر دور المغرب في كونه أول دولة اعترفت بنشوء الدولة الجديدة في 1776م فإن دور المسلمين في قصة أمريكا يشمل كذلك وجود قيمه وثقافته في التراث الأمريكي مما حمله معه المهاجرون اختيارا أو قهرا كالعبيد وهو ما يشير إليه ضمنا في هذه الفقرة من خطابه وذلك حين يقول: اعلم كذلك ان الإسلام كان دائما جزءا لا يتجزأ من قصة أميركا، حيث كان المغرب هو الدولة الأولى التي اعترفت ببلدي وبمناسبة قيام الرئيس الأمريكي الثاني جون أدامس عام 1796 بالتوقيع على معاهدة طرابلس فقد كتب ذلك الرئيس أن »الولاياتالمتحدة لا تكن أي نوع من العداوة تجاه قوانين او ديانة المسلمين أو حتى راحتهم« ومنذ عصر تأسيس بلدنا، ساهم المسلمون الأمريكيون في إثراء الولاياتالمتحدة. لقد قاتلوا في حروبنا وخدموا في المناصب الحكومية ودافعوا عن الحقوق المدنية وأسسوا المؤسسات التجارية كما قاموا بالتدريس في جامعاتنا وتفوقوا في الملاعب الرياضية وفازوا بجوائز نوبل وبنوا أكثر عماراتنا ارتفاعا وأشعلوا الشعلة الاولمبية وعندما تم أخيرا انتخاب أول مسلم أمريكي إلى الكونغرس، فقام ذلك النائب بأداء اليمين الدستورية مستخدما في ذلك نفس النسخة من القرآن الكريم التي احتفظ بها أحد أبائنا المؤسسين، توماس جيفرسون في مكتبته الخاصة. هذه هي الفقرات التي رأيت ان اضمنها حديث الجمعة لهذا الأسبوع وهي كما نرى فقرات ليست سياسية بالدرجة الأولى ولكنها سرد للواقع وللوقائع، غير أن ما أثارني في خطاب الرجل هو إشادته بالأزهر ودوره وهي إشادة في محلها، حيث تساءلت لو لم يكن الأزهر بالقوة العلمية التي هو عليها الآن هل كان يكون للإشادة به معنى؟. لا أظن ذلك إذ الأزهر يضيف إلى مكانته التاريخية مكانة حاضره في المجال العلمي بقوة وقد دفعني هذا إلى التساؤل عن جامعة القرويين وحاضرها المؤلم لأنها لم تعد تلك الجامعة التي لها دور الريادة بل ليست لها الآن حتى دور المنافس مع أنها في الوقت الذي أشار إليه المتحدث لم يكن الأزهر يقوم بالدور العلمي في المستوى الذي كانت فيه القرويين فإلى حدود القرن السادس الهجري كان الأزهر يلعب دورا محدودا من الناحية العلمية فدوره كان محصورا في تدريس الفقه على طريقة الفاطميين في الوقت الذي كانت القرويين ملتقى العلماء من الأندلس ومن الشرق والغرب واليها لجأ الأوروبيون لأنها الأقرب ولأنها المؤهل آنذاك كجامعة أكثر من غيرها. وحتى بحكم التأسيس فالقرويين أقدم من الأزهر بما يزيد عن قرن من الزمن وان المرء ليعجب ويتساءل إلى متى ستبقى جامعة القرويين على الهامش؟ ان الشعور بهذا الغبن هو ما دفع الزعيم علال إلى الدعوة باستمرار بالعناية بالجامعة وما دفع مرشحي حزب الاستقلال في الانتخابات الحالية إلى تضمين برنامجهم العناية بالجامعة في أول اهتماماتهم لإعادة ما كان لها من دور علمي وحضاري.