كلما اقترب شهر الغفران إلا وكثر الحديث هنا وهناك عن شهر الصيام، وحق لشهر عظيم أن يكون له من الاهتمام ما يفوق غيره، أفليس هو شهر القرآن؟ إذن فلا عجب أن يتصدر ذكره المجالس واللقاءات، وأن يعاد النظر في البرامج والمواعيد والمناسبات، وإن كان ذاك كله سيكون راجح في ميزان أولي النهى، إن كان حقا تخطيط وتنظيم استمد نهجه من الروح: من القرآن، فكانت الاختيارات فيه تناسب وتليق بشهر العتق من النيران. حينها فقط كثيرة هي الأشياء التي نحرص عليها في الغالب وجعلنا لها مكانا في أولى الأولويات، سيكون موضعها التأخير، إن لم يكن الحذف والنسيان، وقد يحتاج الأمر في بعضها إلى توبة واستغفار آناء الليل والنهار؟ وغيرها مما لحقها التأخير سيكون النظر فيها بميزان القرآن أن تأخذ مكانا لها في الواجهة تفكيرا وتدبيرا وتطبيقا، وهذا أمر أنتم أعلم به مني فلا يحتاج لتفصيل وبيان، وإنما إلى قوة عزم وإرادة وتصالح مع الذات بالبعد بها عن النقائص والغوص بها جميعا دون استثناء في شهر السلم والصفاء والعطاء ... ولا سبيل لذلك إلا بصيام يكون فيه الإمساك عن ما يفطر الروح أولى، أو أقل الاحتمال، مساو لما هو مفطر للجسد مما يعرف سبيل تحقيقه بالإمساك عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروبها. وإنه لمن العيب أن يكون هذا هو مفهوم الصيام، فأستأذن منكم وإن كنت لست أهلا لرد تعريفات الأئمة لأقول إنه لمن سوء الفهم أن يعرف الصيام بذاك ويغفل عن ما يفطر الروح ويفقرها من سوء القول والنظر والفعل... فإذا كان أكل اللقمة مفطر ومضيع للصيام، فإن قول غير الحق من قول زور وافتراء على الناس لأدهى وأمر، فهل تنبه أهل الشأن والاختصاص لهذا فلا يتم التحذير من سوء ذاك وكفى، ولكن يتم إنزاله منزلة المفطر المضيع للصيام ويظهر ذلك في التشريع والأحكام فيترتب عنه إعادة أو قضاء وكفارة وغير ذلك من حكم من أفطر في رمضان. قد يقال أن لا تشريع ولا أحكام في أمور العبادات إلا فيما نص عليه الوحي كتابا وسنة، فنلتزم بما فيهما دون زيادة ولا نقصان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد النورانية: "كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله"، وفي الموسوعة الفقهية "والأحكام التعبدية لا يقاس عليها لعدم إمكانية تعدية حكمها إلى غيرها". أجل مثل هذا كثير، لكن أليس في آيات وأحاديث الصيام ما يجعل المقصد والعلة واضحة بينة، أليس لها من القوة ما يجعلها مصدرا لذاك فيقاس عليها غيرها ؟ أليس في قوله تعالى ''كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون '' إشارة إلى الغرض من الصيام وهي حصول التقوى، وهو أمر له تعلق بالروح أصالة وابتداء، أليس في قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في إن يدع طعامه وشرابه" ما يجعل أن لا صيام دون إمساك أيضا عن المفطرات المعنوية، وأختم هذه الاستشهادات -ولم أهدف لعدها واستقرائها فهي كثيرة لكن كما يقال يكفي من القلادة ما يحيط بالعنق- بقول الرحمة المهداة للعالمين عليه أزكى الصلاة والتسليم ''رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش'' فالنص صريح أنه ما أكل وما شرب لكن ما كان من الصائمين... فيا ليت قومي يعلمون فيبتعدون مما يفطر من سوء القول والنظر والفعل كما يبتعدون عن الأكل والشرب حينها فقط يصح صيامهم فيفيدون ويستفيدون وتعم الخيرات والبركات وتتحقق فينا معاني الصيام فيكون رمضان حقا شهر التغيير، شهر الإبداع والتميز، شهر الحب والجمال، شهر القرب من الجنان، شهر الاستظلال بالقرآن...