وفق ما عودنا عليه ملك البلاد محمد السادس من احترام لمقتضيات الدستور وما تحمله لنا خطبه السامية من أفكار نيرة وتوجيهات حكيمة وذات فاعلية تقوم على تحديد الأولويات بدقة متناهية، عادة عصر يوم الجمعة 14 أكتوبر 2022 ليغتنم تلك اللحظة التاريخية التي يطل منها على الشعب المغربي عبر لقائه المباشر مع نواب الأمة، بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، معتبرا أن اللقاء ليس فقط فرصة لإحياء هذه الذكرى السنوية، بقدر ما هو واجب وطني يستلزم طرح أهم القضايا الكبرى للأمة، مركزا اهتمامه على أسبقيتين أساسيتين محليتين وحساسيتين وحرجتين في الوقت الحالي، وهما إشكاليتا الماء والاستثمار. وجدير بالذكر أن البرلمان وحسب المنصوص عليه في الفصل 65 من الدستور، يعقد جلساته أثناء دورتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، وتفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل. وإذا ما تجاوزت جلسات البرلمان ثلاثة أشهر، فإنه يمكن ختمها بمرسوم، كما أنه من الممكن جمع البرلمان في دورة استثنائية، إما بمرسوم، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو بأغلبية أعضاء مجلس المستشارين. وهكذا عمل العاهل المغربي على افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة، وهي المرة الأولى منذ أن حرص المغرب قبل عامين من اليوم على فرض إجراءات احترازية ضد فيروس كورونا المستجد، التي يلقي فيه الملك خطابا توجيهيا مباشرا من داخل قبة البرلمان، بدل الاكتفاء ببثه من القصر الملكي. إذ جاء نوعيا من حيث عمق الرسائل التي يتضمنها وتتجاوز المنظور الضيق لمنطق الولاية الحكومية والتشريعية، حاملا معه رؤية استشرافية تقوم على التجديد المتواصل والتقييم غير المباشر لضعف السياسات العمومية ولاسيما في مجال الماء. فعلى عكس ما ذهبت إليه تكهنات بعض المهتمين بالشأن العام قبل حلول موعد الخطاب الافتتاحي، أبى الملك محمد السادس إلا أن يخصص خطابه الافتتاحي هذه المرة لإثارة موضوعين رئيسيين، هما ندرة الماء وإشكالية الاستثمار، واضعا لمواجهة هذه التحديات خارطة طريق، حيث أنه شدد على ضرورة تفعيل ميثاق الاستثمار الذي من شأنه تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ذي فاعلية وجاذبية للاستثمار. كما لم تفته فرصة التنبيه للمرحلة العصيبة التي تمر منها البلاد بسبب أزمة الجفاف التي تعد الأكثر حدة خلال العقود الثلاثة الماضية، واضعا المشكل في قلب الاستراتيجيات المستقبلية للمغرب، داعيا المواطنين إلى ترشيد استعمال المياه والقطع مع مختلف أشكال التبذير والاستغلال العشوائي وغير المسؤول، مؤكدا على أن "مشكلة الجفاف وندرة المياه لا تقتصر على المغرب فقط، وإنما أصبحت ظاهرة كونية، تزداد حدة بسبب التغيرات المناخية" وأوضح في هذا الإطار أنه لم يفتأ يولي أهمية كبرى لهذه المادة الحيوية التي جعل منها الله سبحانه وتعالى كل شيء حي، إذ أنه ومنذ اعتلائه العرش عرف المغرب بناء 50 سدا، ويجري العمل على إنشاء 20 سدا آخر، مما يستلزم أن يؤخذ مشكل الماء بكل أبعاده بالجدية اللازمة بعيدا عن المزايدات السياسية. وهو الخطاب الذي لقي إشادة واسعة من قبل محللين وخبراء مغاربة وتفاعلت مع مضامينه الكثير من فعاليات المجتمع المدني والهيئات السياسية والمنظمات النقابية والحقوقية وغيرها، ولاسيما في الجانب المتعلق بالنهوض بالاستثمار وخلق فرص شغل للعاطلين، إذ خلف ارتياحا واسعا لدى آلاف الشباب من حملة الشهادات العليا المعطلين وعائلاتهم، الذين سارعوا إلى التعبير عن ابتهاجهم على صفحات التواصل الاجتماعي. فقد وجه الملك تعليماته للحكومة بتعاون مع القطاع الخاص والبنكي، للعمل على ترجمة التزامات كل طرف في تعاقد وطني للاستثمار، معلنا عن تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات وخلق 500 ألف منصب شغل في الفترة الممتدة ما بين 2022 و2026، قائلا: "إننا نراهن اليوم على الاستثمار المنتج، كرافعة أساسية لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحقيق انخراط المغرب في قطاعات واعدة، لما توفره من فرص الشغل للشباب، وموارد تمويل لعدد من البرامج الاجتماعية والتنموية" يحدوه الأمل الكبير في "أن يعطي الميثاق الوطني للاستثمار دفعة ملموسة على مستوى جاذبية المغرب للاستثمارات الخاصة، سواء منها الوطنية أو الأجنبية" ومشددا في ذات الوقت على ضرورة تذليل الصعاب التي تحول دون تحقيق الاستثمار الوطني، وإشراف المراكز الجهوية للاستثمار بشكل كامل على عملية الاستثمار في كل المراحل والرفع من فعاليتها وجودة خدماتها في مواكبة وتأطير حاملي المشاريع إلى حين إخراجها للنور. الآن وقد عاد الجالس على العرش إلى رسم خارطة طريق جديدة تتلاءم وطبيعة المرحلة العصيبة، التي نعيش على إيقاعها في ظل تداعيات جائحة "كوفيد -19" والآثار السلبية للحرب الروسية الأوكرانية، فإن كسب الرهان الملكي في مكافحة معضلة الجفاف والتدبير الجيد لمواجهة ندرة المياه الصالحة للشرب والنهوض بالاستثمار قصد معالجة العديد من المشاكل الاجتماعية الحد من معضلة البطالة بالخصوص، يتوقفان بالأساس على مدى قدرة الحكومة والبرلمان ومعهما القطاع الخاص الذي ينبغي أن يفسح له المجال لاحتلال المكانة التي يستحقها في مجال الاستثمار، الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والجالية المغربية المقيمة بالخارج، على بلورة منظومة عمل مشتركة جادة ومسؤولة، تساهم بفعالية في رفع التحديات والإكراهات الداخلية والخارجية، والحرص على تعزيز أسس المنافسة الشريفة وتفعيل آليات الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، في اتجاه جذب الاستثمار وتقوية ثقة المستثمرين.