تلعب المؤسسة الملكية دورا هاما في النظام السياسي المغربي، نظرا لمشروعيتها التاريخية والدينية ونظرا لثقلها الدستوري، يأتي خطاب افتتاح البرلمان هذه السنة تفعيلا للفصل 65 من دستور 2011 الذي يؤكد على ترأس جلالة الملك افتتاح الدورة الأولى للبرلمان خلال يوم الجمعة الثاني من شهر أكتوبر، كما أن الدستور الجديد كرس لنا ما يسميه الدكتور المنتصر السويني في إحدى مقالاته ب"الملكية المتكلمة" ،فالمشرع الدستوري المغربي لا ينطق عن الهوى ومنزه عن العبث، فقد منح للمؤسسة الملكية آلية توجيه خطاب للأمة والبرلمان بموجب الفصل 52 منه، هذه الآلية لها رمزية ودلالة قوية، فالخطاب الملكي السامي له قوة في رسم خارطة طريق واضحة للسياسة العامة للدولة،وكذا في تحديد الأهداف والبرامج، والتخطيط للإستراتيجيات، فخطاب جلالة الملك يسمو على جميع المؤسسات الدستورية بالمغرب،الخطب الملكية السامية نلاحظ أن تتسم بالرزانة وبعيدة كل البعد عن العشوائية أو الشعبوية، فالمؤسسة الملكية بالمغرب ظلت محتفظة بعراقتها وسموها الذي يبرهن عن تاريخ 12 قرنا، في حين نجد كما يقول الدكتور المنتصر السويني بأن العديد من رؤساء الدول الأجنبية تظل خطاباتهم بعيدة كل البعد عن اللغة الديبلوماسية لأنهم انخرطوا في مواقع التواصل الاجتماعي لهذا نجد أن خطابهم يكون شعبويا كما رأينا في عهد الرئيس الأمريكي السابق "ترامب" وكذا رئيس روسيا "بوتين" ، عكس المؤسسة الملكية التي ظلت بعيدة عن عالم مواقع التواصل الاجتماعي واحتفظت بلغتها الديبلوماسية وبلغتها الدقيقة التي تتسم بالرزانة حتى في الأزمات التي خاضها المغرب مع إسبانيا السنة الماضية وكذا مع الجزائر لاحظنا الخطب الملكية السامية ظلت بأسلوبها الهادئ الرزين العالي. إن الخطاب الملكي السامي للسدة العالية بالله صاحب الجلالة الملك محمد السادس أسماه الله وأعز أمره بمناسبة إفتتاح السنة التشريعية خطاب تاريخي فقد ركز على محورين أساسيين "إشكالية الماء" و"إحداث قفزة نوعية في ميدان الإستثمار" وما يمكن أن نقول عليه في البداية أنه خطاب شامل ومتكامل يغطي اهتمامات كافة شرائح المجتمع المغربي. اعتبر جلالة الملك حفظه الله أن الماء عنصر أساسي في التنمية وضروري لكل المشاريع والقطاعات الإنتاجية، وشدد جلالته بأن المغرب يمر من مرحلة جفاف صعبة، وتم اتخاذ هذه السنة تدابير إستباقية من خلال مخطط مكافحة آثار الجفاف وقد سبق لجلالته أن تحدث على هذا البرنامج في خطاب العرش لهذه السنة، كما تم تخصيص عدة جلسات عمل كللت بإخراج البرنامج الوطني الأولي للماء 2020-2027،وكما هو معلوم أن جلسات العمل تعتبر عرفا دستوريا وهي آلية بيد المؤسسة الملكية تستخدمها في الزمن المناسب، وقد لاحظنا أنه في بداية جائحة كورونا كان جلالته قد ترأس جلسة عمل رفيعة المستوى. أكد جلالة الملك بأنه تمت مواصلة بناء السدود في العهد الجديد في حدود 50 سدا وسيتم إستكمال بناء 20 سدا ليصبح العدد هو 70 سدا، وسياسة السدود تعتبر من نتاج عبقرية أبونا الروحي جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه،وأكد جلاته بأنه كيفما كان حجم التساقطات سيتم تفعيل البرنامج الوطني الخاص بالماء هنا يبرز لنا التدبير الإستراتيجي التوقعي للأزمات،فالمؤسسة الملكية مؤسسة إستراتيجية. إن مشكلة الجفاف هي ظاهرة كونية وتقتضي الإنخراط والتحلي بروح المسؤولية والوطنية من كافة المتدخلين حكومة ومواطنات ومواطنين،وشدد جلالة الملك بأن مشكل الماء لا ينبغي أن يشكل موضوع مزايدات سياسية أو مطية لتأجيج التوترات الإجتماعية وقد سبق لجلالته نصره الله وأيده في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2018 أن أكد أن المغرب بلد للفرص لا بلدا للإنتهازيين وأنه ينبغي ترك الصراعات السياسية جانبا والتفكير في مصلحة الوطن، فقد دعا جلالته في ثنايا هذا الخطاب الملكي السامي للإستعمال المسؤول والعقلاني والكف مع جميع الممارسات العشوائية والتبذير وأن تكون الإدارات والمؤسسات العمومية قدوة في هذا المجال. ودعا جلالته للتركيز على أربعة مرتكزات: *تشجيع البرامج والمبادرات والتكنولوجيات الحديثة والإبتكار في مجال إقتصاد الماء،وإعادة إستخدام المياه العادمة؛ * ترشيد استغلال المياه الجوفية والحفاظ على الفرشات المائية؛ *الماء يعتبر سياسة مشتركة تهم كافة القطاعات؛ *الأخذ بعين الإعتبار التكلفة الحقيقية للموارد المائية في كل مرحلة من مراحل التعبئة، بمعنى التدبير الأمثل للطلب بالتوازي مع ما يتم إنجازه في مجال تعبئة الموارد المائية. وتجدر الإشارة هنا أن جلالة الملك أسماه الله وأعز أمره في الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 2018 قد دعا للحفاظ على الموارد الإستراتيجية وتثمينها وفي مقدمتها الماء، فجلالة الملك منذ إعتلاءه عرش أسلافه الميامين وهو يولي عناية خاصة للسياسة المائية، فالحكم هو التوقع وجلالة الملك دائما يتميز بالتدبير التوقعي الإستراتيجي،دون أن ننسى بأن الفصل 31 من دستور 2011 قد أكد أنه من واجبات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تمكين المواطنات والمواطنين من الحصول على الماء. وبخصوص الشق الثاني فهو الإستثمار،وكما هو معلوم أن جلالة الملك لثالث مرة هذه السنة يركز على الإستثمار في خطاب العرش وثورة الملك والشعب وفي خطاب افتتاح البرلمان وهذا يعني العناية المولوية لهذا القطاع الحيوي الذي يعتبر من محركات عجلة التنمية الإقتصادية والاجتماعية، فقد اعتبر جلالته بأن الإستثمار المنتج رافعة أساسية للتنمية وإنعاش الإقتصاد الوطني وتعزيز انخراط المغرب في القطاعات الواعدة التي توفر فرص الشغل وموارد مالية لمختلف المشاريع والبرامج التنموية،في خطاب العرش 2018 وخطاب افتتاح البرلمان السنة الماضية تحدث جلالة الملك عن ميثاق الإستمثار وهذه السنة تحدث عنه أيضا وعن مميزاته من خلال خلق فرص الشغل وتعزيز جاذبية المملكة في الإستثمار قاريا ودوليا، لكن جلالته لازال ينتقد الإستمثار فبعدما خصص خطاب افتتاح البرلمان سنة 2016 لتوجيه الإنتقاد للمراكز الجهوية للاستثمار وخطاب العرش هذه السنة كذلك انتقد الطريقة التي يدبر بها الإستثمار، قام جلالته بدعوة الفاعلين والمدبرين للشأن العام برفع العراقيل التي لا تزال تحول دون تحقيق الإستثمار الوطني لإقلاع حقيقي. أكد جلالة الملك في ثنايا الخطاب بأن المراكز الجهوية للاستثمار ملزمة بالإشراف الشامل لعملية الإستثمار والرفع من جودتها وفعاليتها في مواكبة وتأطير حاملي المشاريع حتى إخراجها لحيز الوجود، وتجدر الإشارة أن هذه المراكز تعتبر سلسلة من سلسلات العهد الجديد وتعتبر ترجمة فعلية للمفهوم الجديد للسلطة، فالقانون 47.18 المتعلق بإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وإحداث اللجان الجهوية الموحدة للإستثمار الذي جاء تجسيدا للإرادة الملكية السامية المتمثلة في خطاب العرش 2018،قد نص على أنه من مهام هذه المراكز تفعيل السياسة العامة للدولة في مجال الإستثمار على الصعيد الجهوي وتحفيز وتنشيط الإستثمار ومواكبة المقاولات الصغرى والمتوسطة. إن الإصلاحات الهيكلية التي قام بها المغرب مكنته من تحسين مناخ الأعمال ودعا جلالته لتشجيع للمبادرات الخاصة وجلب المزيد من الإستثمارات الأجنبية التي ستساهم بكل تأكيد في الرفع من معدل النمو الإقتصادي. دعا جلالة الملك إلى تفعيل ميثاق اللاتمركز الإداري وكما هو معلوم أن هذا الميثاق جاء ترجمة لخطاب العرش 2018 وقد انتقل بنا من التسيير إلى التدبير العمومي ويشكل بكل صدق وموضوعية رافعة أساسية لنجاح النموذج التنموي الجديد، كما دعا جلالته لتبسيط المساطر ورقمنتها وكما هو معلوم أن المغرب سن قانونين مهمين في هذا المجال، القانون 54.19 المتعلق بميثاق المرافق العمومية وكذا القانون 55.19 المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية لاسيما أن جلالة الملك في خطاب العرش 2019 أكد أن القطاع العام يحتاج لثورة ثلاثية الأبعاد ثورة في التخليق وفي التبسيط والنجاعة،بالإضافة إلى كل هذا دعا جلالته حفظه الله ورعاه لتسهيل الولوج للعقار والطاقات الخضراء وكذا التوفير على الدعم المالي لحاملي المشاريع، وهذا يذكرنا بخطاب افتتاح البرلمان 2019 الذي أكد فيه جلالة الملك أنه مهما بلغ صواب القرارات المتخذة وجودة المشاريع المبرمجة إلا أنها تبقى رهينة بتوفير الوعاء العقاري والموارد المالية وكذا خطاب افتتاح البرلمان السنة الماضية الذي دعا فيه جلالة الملك لتنزيل المشاريع وتخصيص مواردها المالية. ولتقوية الأمن القانوني وتعزيز الثقة بين المستثمرين والإدارة دعا جلالته لتقوية قواعد المنافسة الشريفة ونخص بالذكر هنا الدور المحوري لمجلس المنافسة(الفصل 166 من الدستور الجديد ) الذي يعتبر دعامة أساسية للنموذج التنموي الجديد دون أن ننسى الفصل 35 من الدستور الذي يؤكد أن الدولة تضمن التنافس الحر وأن القانون يعاقب على كل الأفعال التي تخل بالتنافس النزيه بموجب الفصل 36 من دستور 2011 ،كما دعا جلالته لتقوية آليات التحكيم والوساطة لحل النزاعات، وكما هو معلوم أن قانون المسطرة المدنية ينص على هذه الآليات دون أن ننسى القانون الجديد 95.17. إن جلالة الملك أكد على إنخراط جميع القوى الحية بكل ضمير وروح المسؤولية في ميدان الإستثمار، والهدف هو أن يأخذ القطاع الخاص المكانة التي يستحقها كمحرك للإقتصاد الوطني وأن تشكل المقاولات المغربية رافعة أساسية للتنمية وريادة الأعمال، وهنا نستحضر خطاب العرش 2018 الذي دعا جلالته لتشجيع المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تشكل 95٪ من النسيج الإقتصاد الوطني، فجلالة الملك يفكر دائما في تشجيع المقاولات وهذا ما لاحظناه في فترة جائحة كورونا من خلال خطاب إفتتاح البرلمان 2020 الذي دعا فيه جلالته لإحداث صندوق محمد السادس للإستثمار لإنجاز المشاريع الكبرى بشراكة بين القطاعين العام والخاص وكذا دعم القطاعات الواعدة من بينها المقاولات الصغرى والمتوسطة. إن القطاع البنكي والمالي مطالب بدعم وتمويل الجيل الجديد من المستثمرين وهذا يذكرنا بخطاب افتتاح البرلمان 2019 الذي دعا فيه جلالته القطاع البنكي بتغيير عقليته ودعم الشباب وكذا خطاب افتتاح البرلمان السنة الماضية الذي أكد فيه جلالة الملك على تشجيع الإستثمار العمومي ،وفي ثنايا خطاب إفتتاح البرلمان هذه السنة أكد جلالته للإعتناء بإستثمارات ومبادرات الجالية المغربية وهذا الخطاب يعتبر إمتدادا لخطاب ثورة الملك والشعب هذه السنة الذي خصص فيه جلالة الملك الحيز الكبير لدعم الجالية المغربية في ميدان إستثماراتها ومبادراتها وضرورة إحداث آلية للنسيق كما دعا إليها جلالته. في هذا الخطاب تحدث جلالة الملك عن تعاقد بين الحكومة والقطاع الخاص خلال سنوات 2022-2026 سيمكن من تعبئة 500 مليار درهم من الإستثمارات وخلق 500 ألف منصب شغل، وما يميز المؤسسة الملكية أنها تتكلم بلغة الأرقام وبلغة واضحة، وفي نهاية الخطاب دعا جلالته البرلمان بإستخدام الآليات الدستورية المتمثلة في التشريع والتقييم ومراقبة عمل الحكومة لتنزيل مضامين هذا الخطاب الملكي السامي لحل إشكاليتي الماء والإستثمار والإهتمام بمختلف القضايا وإنشغالات الوطن والمواطنين. في الختام، نقول بكل صدق وموضوعية أن المغرب بماضيه وحاضره ومستقبله أمانة في أعناقنا جميعا، فعلا حققنا العديد من المنجزات ولن نتمكن من رفع التحديات وتحقيق التطلعات إلا في إطار الوحدة والتضامن والإستقرار والإيمان بوحدة المصير في السراء والضراء والتحلي بروح الوطنية الصادقة والمواطنة المسؤولة.