بدأ المبعوث الشخصي للامين العام للأمم المتحدة الى الصحراء، ستافان دي ميستورا زيارة للمنطقة، للتشاور مع الاطراف الاقليمية المعنية بالنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وذلك بقصد بعث العملية السياسية التي توقفت باستقالة المبعوث السابق هورست كولر في مايو 2019، وتعتبر زيارة دي ميستورا للمنطقة الاولى من نوعها، منذ تعيينه من طرف الأمين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريس، ممثلا خاصا مكلفا بملف الصحراء، وتأتي هذه الزيارة في ظل "متغيرات" في الموقف الدولي من النزاع، توج باعتراف الولاياتالمتحدةالامريكية بسيادة المغرب على الصحراء، وسياق اقليمي يزداد توترا على خلفية قرار الجزائر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، في مقابل تنامي عدد الدول العربية والافريقية التي فتحت تمثيليات دبلوماسية في الصحراء. فإلى اي حد ستؤثر هذه العوامل على جهود دي ميستورا ، في اجتراح كوة في جدار النزاع، تفضي الى بناء الثقة بين اطرافه؟ وماهي فرص المبعوث الاممي الجديد في احداث اختراق في هذا الملف الشائك؟ وهل يفلح حيث فشل سبعة مبعوثين سابقين؟ حدود مهام المبعوثين الخاصين يتولى الأمين العام للأمم المتحدة اختيار المبعوثين الأمميين الخاصين في النزاعات والأزمات التي يشهدها العالم، لكنه "ملزم" بعرض اختياره على مجلس الأمن، ورغم أن هذا الأخير لا يصوت على الشخص الذي اختاره الأمين العام، فإن وجود اعتراض من دولة أو أكثر من دول مجلس الأمن على اختياره، يحول في الغالب دون تعيينه، وكذلك رفض أطراف النزاع لاختيار الأمين العام قد يحول دون تسمية الشخص الذي اختاره، وغالبا ما تحول المصالح والصراعات والأجندات المختلفة للدول الكبرى دون الاتفاق على مبعوث بذاته. وهنا تبرز أولى الصعوبات ليس في تعيين المبعوثين الخاصين فحسب، وإنما في مهامهم التي لا تنفك عن حسابات الدول الكبرى. وبالرغم من أن دور المبعوثين الخاصين يكمن أساسا في تسهيل التفاوض بين الأطراف، وبناء سلام دائم، فإن مهامهم في هذا غير "مطلقة"، إذ غالبا ما يكون عملهم مؤطرا بتفويض من مجلس الأمن، بمقتضى قرار صادر عن هذا الأخير، أو ب"تعليمات" صادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة، ويتوجون مهامهم بتقديم "تقرير" أو "إحاطة" لمجلس الأمن، الذي يتولى مناقشته، وفي خضم ذلك، تحاول كل دولة من دول المجلس ممارسة تأثيرها على المبعوث الأممي في الاتجاه الذي يخدم مصالحها، أو الطرف الذي تدعمه، وهنا تأتي شخصية المبعوث الأممي، ومدى استقلاليته ونزاهته إزاء الدول الكبرى، ناهيك عن أطراف النزاع، وعند هذه النقطة تحديدا، تختلف بصمات المبعوثين الأمميين، بين من يتشبث باستقلاليته ولا يزايد عليها، وآخرين لا يجدون غضاضة في رهن استقلاليتهم لخدمة مصالح ومواقف قوى وأطراف ودول. أي مبعوث يكون دي ميستورا؟ تعاقب حتى الآن سبعة ممثلين خاصين للأمين العام للأمم المتحدة على ملف النزاع حول الصحراء المغربية، وذلك منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 1991، دون أن يفلح أي واحد منهم في إحداث اختراق حقيقي في مسار هذا النزاع الذي عمر لأزيد من أربعة عقود، ولعل من أهم هؤلاء المبعوثين الذين تركوا أثرا في إدارتهم للمفاوضات، وأبانوا عن إلمام واسع بتفاصيل وتعقيدات هذا النزاع، يحضر اسم بيتر فالسوم، الدبلوماسي الهولندي، الذي عينه الأمين العام كوفي عنان في يناير 2005 ممثلا له في قضية الصحراء المغربية، وبعد ثلاث سنوات من الإشراف على المحادثات، خرج فالسوم بنتيجة مهمة، يفترض أن يرجع لها كل مبعوث بعده، ومؤدى هذه النتيجة أن خيار استفتاء تقرير المصير الذي تطالب به جبهة البوليساريو، هو "أمر تجاوزه الزمن"، كما أن خيار الاستقلال الذي تصر عليه هذه الجماعة الانفصالية وحاضنتها الجزائر، هو "خيار غير واقعي". لماذا توقفنا عند فالسوم ولم نتوقف عند غيره؟ ببساطة، لأن بعض المبعوثين لم يتركوا أثرا ذا أهمية، ومروا مرور الكرام خلال تولي مهامهم، مثل جوهانس مانس، الذي بقي في مهمته سنة واحدة (1990-1991)، وزادة يعقوب خان، (1992-1994)، فيما ارتضى مبعوثون آخرون العمل ك"موظفين لدى دولهم أو جهات أخرى" من خلال الدفاع عن مواقف تخدم أجندة هذه الدول والجهات، في سياق الصراع الجيواستراتيجي في المنطقة، أكثر من كونهم مبعوثين أمميين مستقلين ومحايدين، منذورين لخدمة قضايا السلام والأمن والاستقرار، وبذلك أبانوا عن انحيازهم وعدم جديتهم. "نجاح" مهمة دي ميستورا مرتهن بتقييم شامل لمسار القضية يظل دي ميستورا )"مؤهلا" من جميع النواحي للاضطلاع بمهمته، وإحداث اختراق في ملف النزاع الإقليمي حول الصحراء، في حدود الصلاحيات المخولة له طبعا، لكن شرط أن يقوم بتقييم شامل لفشل المبعوثين السابقين، واستحضار المسار الأممي لهذا النزاع منذ سنة 2007 على الأقل، وتمثل المتغيرات الإقليمية والدولية، وتلك الحاصلة على أرض الصحراء المغربية، ليؤسس وساطته وفق أسس واقعية تتجاوز جمود طرفي النزاع، الجزائر والبوليساريو، عند مطلب الاستفتاء، نظرا لعدم واقعية هذا الخيار وتجاوز الأحداث والتطورات له، وخاصة عندما يصر طرفا النزاع آنفي الذكر، على ربط الاستفتاء ب"تقرير المصير" المفضي إلى الاستقلال، بينما مبدأ تقرير المصير في السياق الإقليمي للنزاع حول الصحراء المغربية كما في أدبيات وممارسات الأممالمتحدة، والقرارات الأممية ذات الصلة بالصحراء المغربية، يحيل إلى صيغ أخرى، ليس بينها الاستفتاء والاستقلال، ولعل أقرب هذه الصيغ إلى تقرير المصير وأكثرها واقعية، هي صيغة الحكم الذاتي كما هي مطبقة في العديد من الدول (إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا)، وهو توجه يساير إرادة المجتمع الدولي، كما يحظى بدعم الكثير من الخبراء والساسة عبر العالم، كونه يتيح لأبناء الصحراء ممارسة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتدبير شؤونهم في إطار ديمقراطي بإقرار هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية محلية، مع إبقاء مهام السيادة والدفاع والخارجية بيد السلطات المركزية، فهذا هو التوجه الواقعي والبراغماتي الذي يفترض أن يستقطب الجهود والمساعي والمفاوضات المقبلة، لا سيما بعد فشل المسارات السابقة وبلوغها الباب المسدود، وذلك باعتراف الأممالمتحدة نفسها، لذلك، فإن التحدي الذي يواجهه دي ميستورا في مهمته الجديدة، هو بناء الثقة بين الأطراف، وإقناعها بضرورة تحري نهج الواقعية، والابتعاد عن التعنت والتشبث بالأوهام، والبدء في إثراء أرضية الحكم الذاتي، باعتباره حلا وسطا، واستنباط صيغة توافقية من مضامينه تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف. انعكاس التصعيد الجزائري تجاه المغرب على المفاوضات تميزت الفترة الأخيرة، بتصعيد غير مفهوم من جانب الجزائر تجاه المغرب، بدأ بسحب السفير الجزائري من الرباط، ثم الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية، وأخيرا وليس آخرا، إغلاق المجال الجوي في وجه الطائرات المغربية، وأكيد أن هذا التصعيد سينعكس بشكل أو بآخر على المفاوضات بين أطراف النزاع، ويزيد من تعنت البوليساريو، بالاستمرار بترديد سردية "تقرير المصير" عبر تنظيم الاستفتاء، وهذا ما أظهره مؤخرا وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين طالب بتنظيم الاستفتاء ل"تقرير المصير" في الصحراء المغربية، مكررا نفس الطرح الذي درجت عليه الجزائر منذ أيام الحرب الباردة، دونما اعتبار للتوجه الأممي الذاهب باتجاه البحث عن حل سياسي، واقعي، عملي، دائم ومتوافق بشأنه، كما استبقت الجزائر استئناف المبعوث الأممي الجديد لصيغة الموائد المستديرة كآلية مناسبة للتفاوض بمشاركة كافة الأطراف، حيث بعثت رسالة إلى مجلس الأمن عشية انعقاد جلسته في 29 أكتوبر الماضي، للتصويت على مشروع قرار التمديد لولاية البعثة الأممية في الصحراء "المينورسو"، أعلنت فيها انسحابها من المشاركة في هذه الموائد، بل ومن العملية السياسية برمتها، وذلك إمعانا في معاكسة جهود الحل السلمي، والضغط على مجلس الأمن، عساه "ينقض غزله" الذي ظل يغزله على مهل منذ عام 2007، تاريخ تقديم المغرب لمقترح الحكم الذاتي، الذي طرح صيغة واقعية للحل في الصحراء.
وبالرغم من أن الجزائر قد لا تجرؤ على الانسحاب من المشاركة في المفاوضات، فبالأحرى من الموائد المستديرة المقبلة، خشية أن ينكشف تناقضها أمام المجتمع الدولي بين دعوتها المتكررة إلى تعيين مبعوث جديد للصحراء من أجل استئناف العملية السياسية، وتنصلها من مسؤوليتها في قضية الصحراء كطرف داعم ومحتضن لجبهة البوليساريو، خاصة وأن قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2602، أكد على استئناف العملية السياسية والموائد المستديرة بترتيباتها والمشاركين الأربعة فيها، وهم: المغرب والجزائر وموريتانيا والبوليساريو، وذلك ك"إطار وحيد وأوحد للتسوية"، مع التأكيد على ضرورة انخراط الجزائر في هذه الدينامية، فإنها - أي الجزائر- ستعمل كل ما في وسعها من أجل عرقلة مهمة دي ميستورا، ودفعه إلى إعلان الفشل، وهو الوضع الذي سيختبر "جدية"و"مصداقية" المبعوث الخاص في إنتاج التوصيات اللازمة، وترتيب الخلاصات الواقعية والعملية للدفع بهذا النزاع الإقليمي المفتعل نحو آفاق الحل الواقعي.. وبالرغم من أن مهمة المبعوث الخاص تتحدد أساسا في رعاية المفاوضات، وتقريب وجهات النظر ودفع مسار التسوية نحو آفاق الحل، فإنه يمكن لخلاصاته التي يضمنها في تقريره، أو بالأحرى "إحاطته" التي يقدمها الى مجلس الأمن، أن تعزز التوجه الدولي العام بخصوص قضية الصحراء المغربية، والذي لم يفتأ يتبلور منذ 2007، تاريخ تقديم المغرب لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء، الذي يلقى ترحيبا من الدول كما من الخبراء والساسة، باعتباره "صيغة" عملية لتطبيق مبدأ تقرير المصير كما أضحى متعارفا عليه في القانون الدولي العام.. فهل سيبصم دي ميستورا على دور فاعل في هذا الاتجاه، ويسهم بالتالي في تعزيز الجهود الدولية لتسوية هذا النزاع المفتعل؟