كما مر في تقديم موضوع التعليم، فإن أهمية الإعلام تتجلى في حدة المعارك فيه وحوله، وأيضا في قيمة الاستثمار فيه، وهذا لأنه يمثل بحق أداة صناعة الشعوب، صناعة القوة، صناعة وسائط التحكم.. ولعدة أسباب خاصة بنا نحن ناس العالم الثالث، يبقى رأس الإعلام والوسيلة الأكثر احتضانا -عندنا- هي التلفاز لغاية اللحظة.. ولهذا يكاد يركز عليه النظام أكثر ما يركز على الجانب القمعي بمختلف أجهزته الضبطية.. وفي هذا القطر، نمتلك منه ثمان قنوات مؤممة بالفعل، سبع منها مؤممة بالقوة القانونية القاهرة، تغطي كل المجالات، وتقدم كل شيء،، إلا ما ينفع الناس!!!.. وفي مجال البث التلفزي سنكتفي بإلقاء نظرة على برامج القناة الأولى، المفترض فيها أكثر رسمية، ثم نعرج على باقي الوسائل المسموعة والمكتوبة والتفاعلية.. تقدم "قناتنا" "إثم" ما يناهز اليوم من البث تتوزع ما بين نشرات الأخبار الستة بست لغات/لهجات العربية، تريفيت، تمزيغت، تشلحيت، الفرنسية، والإسبانية، وكأننا في برنامج عالمي للأمم المتحدة، لا تخبر، في مجملها، بشيء إلا إذا قدمت تفصيلا مملا عن تهاريج ومواسم ومهرجانات رسمية أو "شعبية"، تروج لمواسم الأضرحة والخطوبة والورود والتمور وحب الملوك والتوت البري... وربورتاجات تتلائم دائما مع الفصل والموسم، تحمل دائما فرح المواطنين وغبطتهم وتعلقهم بمسؤوليهم،، حتى لو كان الأمر يتعلق بسقوط المطر، حتى أن المشاهد ليتأكد أنه لا حزن في البلاد ولا هم ولا غضب ولا فقر ولا جدال ولا فسوق ولا هم يحزنون: حلول رمضان، روبورتاجات يومية عن وفرة المواد وأنواع الطعام ويوميات وملاهي الناس؛ حلول فصل الحر، تتحول الكاميرا إلى مراكز الاصطياف عموما والبحرية خصوصا، وكأن المغرب تحول إلى مصطاف كبير للأكل واللهو؛ عودة المهاجرين، عرض يومي لفروض الترحيب والخدمات المقدمة؛ هطول الأمطار معناه اللازم تردد العبارة التي يحفظها المغاربة عن بكرة أبيهم: "أمطار الخير والنماء"؛ في عيد الأضحى تختار عدستنا أجمل الأكباش وأملحها للتعبير عن وفرتها وحصول كل العائلات عليها...
إن هذه الكاميرات لا تلتقط صور أولئك الذين يبيعون أفرشتهم لشراء شبه كبش، كما لا تلتقط صور الذين يفطرون من صومهم على الخبز والشاي. ولا تلتقط حتى صور ضحايا الكوارث الطبيعية كانهيار المنازل وانزلاق التربة وفيضان الأنهار وحوادث السير...، وكأن لها موقفا من البؤس لا تتحمل رؤيته بإحساسها الرهيف... في إصرار مغال على تلميع صورة الواقع البئيس أكثر مما يفعل من هم أحسن منا حالا بسنين ضوئية.. إنه الاستغفال والاستحمار!!!..
عدا ذلك، وفي جانب الأخبار الدولية، تقدم نشراتنا صورا كأنها ثابتة، تصاحبها عناوين منقولة بأمانة عن وسائل الإعلام الأخرى، دون تمحيص أو تدقيق أو تمعن أو تصحيح، حتى لتخالها مقدمة لعرض إخباري..
الحديث عن البث التلفزي والفضاء الإعلامي عموما لا يكتمل دون الإشارة إلى الإنتاج الوطني من المجلات والبرامج، والذي له من القيمة ما يجعله يكاد ينحصر في إرشاد المرأة إلى كيفية المحافظة على بشرتها ورشاقتها، في اختزال لها في جثة كعلامة تجارية تزين السلع، يزيد ظهورها عارية على المنتوج في ثمنه ويُنقض غيابها من قيمته، وإقصاء كل دور رسالي أو إشعاعي أو تربوي أو اجتماعي قامت به سليفاتها في عصر الأنوار الذهبي.. ولا عجب إن روجت برامج تحمل عناوين لصيقة بالمرأة لمساحيق وملابس وحركات، لكن المثير للسخرية أن جل البرامج ذات الاهتمام بالأسرة أو الصحة أو العلاقات الاجتماعية إلا وتجعل من همها واهتمامها الأول البشرة والرشاقة والحلاقة والأزياء الفصلية، في تحوير لمفهوم الأسرة، وتقزيم لدور المرأة..
وتفصل بين البرامج وصلات الإشهار "الحامض".. والملفت فيه، بالإضافة إلى الخلاعة، أن جله يقدم بوصفة رقص.. فما يؤكل يقدم بالرقص، وما يشرب يقدم بالرقص، وكذا ما يلبس، وما يركب.. حتى الدفاتر تقدم بالرقص.. أضف إلى هذا فقره المذقع من حيث المعطيات المتعلقة بالمنتج المشهور!!!..
أُفردت للرياضة قناة خاصة وجعلتها رديفا لكرة القدم وكناية عنها بحيث أصبحت كرة القدم الممثل الرسمي الحقيقي للرياضة، ملكت على الناس عقولهم، وحجبت عنهم رشدهم، على اختلاف شرائحهم وأعمارهم وأجناسهم، إذ نجح الإعلام في تكريس ثقافتها، حتى أصبح غالبية الناس يعرفون عن أبطال كرة القدم أكثر مما يعرفون عن الصحابة(ض)،، يعرفون سنهم وهوايتهم وبلدانهم وتاريخهم وأرقام
أحذيتهم وماذا يفضلون في الأكل... وأدق تفاصيل التفاصيل، في حين لا يعرفون ما يجب أن يعرف من الدين بالضرورة!!!.. بل التلاميذ في المواسم الكروية لا يذاكرون ولو كانوا في أيام امتحان، والشوارع تكون خالية -خلال المباريات- وكأننا تحت حكم حظر التجوال..
الأفلام والمسلسلات لا تقل نخاسة وبذاءة وخلاعة، وقد أفردت لها بدورها قناة شأنها كشأن أخواتها أنها معول هدم قيمي وحضاري تتضافر وتراهن -ورأس حربتها القناة الثانية- على الإبقاء في القعر..
إن ما يجمع عليه المسؤولون قبل المناوئون أن البلد في أسفل سافلين، وألا سبيل للنهوض إلا بإصلاح العنصر البشري، وأن السبيل الأنجع والأسرع هو الإعلام، وأن عماده البث التلفزي بما يشكل من شعبية مسيطرة، وعليه يتأكد أن الإصلاح يجب أن ينطلق من الإعلام، لأن نتاجه آني من جهة، ولأنه الوسيلة المضمونة في بناء العقلية المستقبلية الصالحة والفعالة من جهة ثانية..
نعم هو الحل السحري لإعداد شعب مفعم بحب العمل والإخلاص والتفاني فيه، ورفع التحدي، والاعتماد على الذات، والبحث عن القوة في المشترك... وخلق جيل متشبع بقيم النخوة والعزة والكرامة والمروءة... بدل زرع الخمول والتواكل والميوعة والمجون التخنث والتبعية... كما هو سائد الآن..
ولتحقيق ذلك، يجب التركيز خلال ساعات البث على البرامج التربوية والعلمية والتعليمية والثقافية والوثائقية... برامج توثق كيف يؤدي مواطنو الدول المتقدمة وظائفهم في المكتب والمدرسة والمعمل والمزرعة والمتجر... كيف يقودون سياراتهم، ويؤدبون أبنائهم، وينظفون مدنهم... برامج تقارن كيف يقضي أولئك أيامهم بين التعليم الأكاديمي، والمطالعة الحرة، وخدمة الجسم بالتمارين البدنية، والذهاب إلى المسرح، وأخذ دروس في ما يجهلون... وكيف نقضيها نحن!!!..
برامج تربوية وتثقيفية تمكن من بناء عقل مثقف موسوعي مبدع؛ برامج علمية تفتح أعين القادرين على البحث العلمي وتبعث الغيرة فيهم؛ برامج حقوقية تروم التوعية ومحاربة الفساد الإداري والممارسات اللامسؤولة من طرف المسؤولين والمواطنين على السواء؛ برامج سياسية لتوعية المواطن بموقع بلاده من الحضارة العالمية ودوره في استرجاع ما ضاع؛ برامج تربطنا بمقوماتنا وهويتنا الحضارية الأصلية الأصيلة؛ برامج بيئية تحث على النظافة والتشجير والمحافظة على المناطق الخضراء؛ برامج تفاعلية تفتح للمواطنين نوافذ للتواصل المباشر مع المسؤولين المحليين أو الجهويين أو المركزيين حول ما استشكل حله، أو اقتراح ما يفيد الناس...
ثم برامج ترفيهية ملتزمة وهادفة بالقدر اللازم، لأن الترفيه يجب أن يكون بعد العمل، أي القلة بعد الكثرة، وليس الترفيه بعد الترفيه، ثم الترفيه،، على أن يفتح فيه المجال لكل الفعاليات والاتجاهات السياسية والفكرية دون ميز أو حصار على الهوية، ولو لم تتوافق رؤية الفاعل الناقد، أو الفكاهي الساخر، أو المؤلف مع رؤية المسؤول السياسي..
ولكن، ولئن كان التلفاز لا زال يتربع على عرش سيادة وسائل الإعلام، ويستأثر باهتمام السياسيين لسوق القطيع، إلا أنه ليس الوحيد في المجال، بحيث لا زالت تنافسه بعض المحطات الإذاعية التي -على هوانها- لا تتسلم منها رخصة البث إلا المضمون ولاؤها، المؤكد انخراطها في تيار التطبيل والإفساد، ثم المارد النامي المسمى الانترنيت وخاصة شبكات تواصله الاجتماعية، على محدودية تأثيره نظرا لتكلفته، ثم لعدم تمكن كل الناس من استعماله، وأيضا لكثرة عرضه مداخله حد تيه المستعمل.. وهو أيضا لا يسلم من إنشاء مواقع عميلة وإرشاء أخرى بالإشهار وغيره من المساعدات المباشرة وغير المباشرة، وحذف المنافس منها أو التضييق عليه بالمباشر أو غير المباشر..
ومن الوسائل الأخرى تلك المكتوبة، حيث تعج الأكشاك المغربية بالصحف الحزبية و"المستقلة"، الجهوية والوطنية، اليومية وغير اليومية، لكن محتوياتها تكاد تتشابه: معالجة سطحية للأحداث مع موضوعية نسبية إذا لم يكن الأمر يتعلق بحدث له علاقة بتيار فكري معين، وأخبار متفق على الرسمي منها من حيث طريقة التقديم وصفحة النشر.. والباقي يغذي صراعات حزبية ويخضع لحسابات ضيقة وتأويلات موجهة: كل جريدة تنوه بالعمل داخل جماعة يقودها حزبها المعني، ويشوه ممارسات مجلس جماعي لحزب خصم...
إن التوجيه الإعلامي وفرض الرأي الواحد والنمط الواحد لم تسلم منه حتى المطويات الإدارية والخدمية والتجارية واللوحات الإشهارية المنصوبة في الشوارع، حيث تحتفظ برأي السلطة الحاكمة ونظرتها لنمذجة المجتمع..
لربما أهم من هذا كله ذاك الذي يتعلق بالخطب المنبرية، وسنخصص له مجالا مفصلا حينما نصل إلى باب المساجد والقيمين عليها..