في الإشارة العاشرة من إشاراته على الطريق يقول الشيخ علي بن عبدالخالق القرني: من الناس من يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله؛ فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيَّعه في الحزن والتحسر. إن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا باجترار أحزان الماضي؛ إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل الكيس، وآية علو الهمة. هذا ابن عقيل الحنبلي رحمه الله، وهو في الثمانين يقول: ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي .. .. ولا ولائي ولاديني ولا كرمي وإنما اعتاد شعري غير صبغته .. .. والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم وقال غيره: فإن كنت ترجو معالي الأمور .. .. فأعدد لها همة أكبرا احمد الله على إمهاله: ألا فليحمد الله من ضيع وقصر على إمهاله له، وليعوض؛ فأيام العافية غنيمة باردة، وأوقات الإمهال فائدة؛ فتناول وعوض ما دامت عندك المائدة، فليست الساعات بعائدة: فإن تك بالأمس اقترفت إساءةً .. .. فبادر بإحسان وأنت حميد ولا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ .. .. لعل غدًا يأتي وأنت فقيد أنس بن النضر وموقفه في يوم أحد غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن وقعة بدر، فأحس بألم غنيمة ضيعها، فقال - كما روى البخاري ومسلم: {يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلتَ المشركين؛ لئن أشهدني الله مشهدًا آخر في قتال المشركين ليرين الله مني ما أصنع} فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، أقبل أنس يعتذر إلى الله مما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون، ثم يتقدم ويكسر غمد سيفه، ويستقبله سعد بن معاذ، فيقول: الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد، يقول سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، ولما انتهى من المعركة وجدوه قد قُتل ومثَّل به المشركون، به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم؛ فما عرفه إلا أخته ببنانه. إما فتى نال المنى فاشتفى .. .. أو فارس ذاق الردى فاستراح أنين وحنين: من تذكر تفريطه أَنَّ، ولتعويض ما مضى حَنَّ. هذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أسلم عام الفتح، وشعر بما قد فاته من سابقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: {والذي نجَّاني يوم بدر - يا رسول الله - لا أدع نفقة أنفقتها بالصد عن سبيل الله إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله، ولا قتال قاتلته في الصد عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله}.. ويبر عكرمة بقسمه؛ فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا خاضها معهم، ولا خرجوا إلا كان في طليعتهم، وفي يوم اليرموك، وما يوم اليرموك؟ أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادره خالد بن الوليد قائلاً: لا تفعل يا عكرمة! إن قتلك على المسلمين سيكون شديدًا، قال: إليك عني يا خالد لقد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، أما أنا وأبي أبو جهل، فقد كنا أشد الناس عداوة على رسول الله، دعني أُكَفِّر عما سلف مني، أأقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفر اليوم من الروم؟! والله لا يكون أبدًا. فلو بان عضدي ما تأسف منكبي .. .. ولو مات زندي ما بكته الأنامل ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله، فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصرًا مؤزرًا، ولقي عكرمة ربه مُثخنًا بجراحه، ولسان حاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[طه:84].. فرضي الله عنه وأرضاه: همة أخرجت حظ الدنيا من نفوسهم؛ فتاقوا إلى تعويض ما فات من ساعات في خدمة دينهم، فاقتحموا المكاره بغية المكارم، وعقدوا لله على أنفسهم عقدًا؛ فما نكثوا، وما نقضوا؛ فبادر -أخي- قبل العوائق، واستدرك ما فات؛ فلعلك بالأخيار لاحق؛ إن كنت على طريقهم، فما أسرع اللحاق بهم! إذا استدرك الإنسان ما فات من علا .. .. إلى الحزم يعزى لا إلى الجهل ينسب.