بحلول العشرين من شهر يونيو الجاري، نكون قد قضينا ما مجموعه ثلاثة أشهر من حالة الطوارئ الصحية التي ألزمتنا بالبقاء "أسرى" تدابير الحجر الصحي، وهي مساحة زمنية "شاقة" و "غير مسبوقة"، لا يمكن الجدل أو الاختلاف حول تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية، وخاصة "النفسية" على أفراد المجتمع، في ظل ما فرضته الجائحة من طقوس ومن أنماط عيش جديدة خلف الجدران، وإذا كنا ككبار سن، لا نتردد في التعبير عن مشاعر القلق والتوجس والبوح بأحاسيس الملل والتذمر والمشقة النفسية، فيمكن أن نتصور واقع حال الملايين من الأطفال الذين فرض عليهم واقع الجائحة الكورونية، التواجد "رهن الاعتقال" بين جدران المنازل وحيطان البيوتات منذ العشرين من شهر مارس الماضي، لا خروج ولا دخول ولا لعب ولا منتزهات ولا ممارسة الرياضة...، باستثناء "تعليم عن بعد" بالقدر ما ضمن ما سمي بالاستمرارية البيداغوجية، بالقدر ما عمق الفوارق الاجتماعية والمجالية، وأثقل كاهل أولياء الأمور ماديا ونفسيا، وكرس تلاميذ، باتوا أكثر من أي وقت مضى "رهائن" الهواتف الذكية والحواسيب واللوحات الإلكترونية، بكل ما يحمله ما تداعيات نفسية وصحية. ومحاولة مقاربة التداعيات النفسية للجائحة على الأطفال، قد لا تتطلب رأي أطباء وأخصائيين نفسانيين يطلقون العنان للنظريات والتحاليل الفضفاضة، لأن ما نشعر به - نحن الكبار - من ملل وترقب وانتظار ورتابة وتقهقر نفسي يزداد تعمقا يوما بعد يوم، يكفي لنستوعب حجم المعاناة النفسية التي يعيشها الملايين من الأطفال وراء الجدران، بعد أن سلبت منهم الجائحة، الحق في الخروج والتنقل والتجول والتنزه واللعب وممارسة الرياضة وزيارة الأهل والأحباب، بل و الحق في "التعليم الحضوري" الذي غاب ذات يوم، وحضر محله "تعليم عن بعد" رفع من منسوب المعاناة النفسية والصحية للتلاميذ، بعد أن أرمى بهم على حين غفلة، في أحضان الهواتف الذكية والحواسيب والألعاب الإلكترونية، التي باتت "الملاذ الآمن" لأطفال في "سجون" غير السجون" و"اعتقال" غير الاعتقال، غير العادات والممارسات، وزحزح منظومة النوم والتغذية، وكرس الإحساس الجماعي بالقلق والعزلة والكآبة والرتابة والإحباط والخوف والتوتر والانتظار ... وفي هذا الصدد، فإذا كان التمديد الأخير لحالة الطوارئ الصحية، قد خفف من حجم المعاناة على ساكنة منطقة التخفيف رقم (1)، وخاصة على فئة "الأطفال" الذين فكت قيودهم ولو بشكل تدريجي، ومنحوا وذويهم فرصة الخروج واللعب، والتنقل إلى المنتزهات و مراكز المدن والأسواق وممارسة الرياضة في الفضاءات العامة، فإن أطفال منطقة التخفيف رقم (2) لازالوا معتقلين داخل المنازل والبيوتات، يترقبون خلف الجدران، أن يزف لهم قريبا، خبر "الإفراج" عنهم والتخفيف من أزمتهم على غرار ما تم القيام به في منطقة التخفيف رقم (1)، وفي هذا المستوى من النقاش، لا مناص من التأكيد أن التداعيات النفسية للجائحة على الأطفال، تتجاوز واقع الحجر الصحي وما يرتبط به، من تقييد للتحركات وإلزام المكوث بالمنازل، وترتبط بمعطيات أخرى، من قبيل مدى استقرار الأسرة وتماسكها ومدى تأثر وضعيتها المادية والاجتماعية بسبب الجائحة، ومدى توفر وسائل ومستلزمات العيش ومدى جودة السكن، وكلها معطيات، قد تخفف من الأزمة أو تعمقها، وفي هذا الإطار، نحن نناقش الوضعية "النموذجية"، التي يتحمل فيها أولياء الأمور مسؤولياتهم التربوية كاملة، في مراقبة أبنائهم وإلزامهم بالمكوث بالمنازل، التزاما بحالة الطوارئ الصحية وما يرتبط بها من حجر صحي. أما الحالات التي يحضر فيها التراخي الأسري، أو تضعف فيها سلطة أولياء الأمور، وينتهك فيها الأطفال والشباب حرمات الحجر الصحي ويخرجون إلى الشوارع بدون حسيب أو رقيب وأحيانا بدون كمامات، فيصعب الحديث عن أية تداعيات نفسية للحجر الصحي الذي لم يعد قائما بحكم الواقع، لكن بالمقابل، نستطيع توجيه البوصلة نحو التداعيات التربوية لأي تراخي أو عنف أسري أو تهور أو لامبالاة، على الأطفال والشباب، لأن جائحة "كورونا"، هي أكبر من أزمة صحية تقتضي التقيد بقواعد الصحة والسلامة، هي اختبار في المواطنة والالتزام والانضباط والصبر والامتثال لسلطة القانون والإحساس بالمسؤولية ونبذ الأنانية المفرطة، وهي "وضعيات اختبارية"، لا بد وأن يتلمسها الأطفال في سلوكات وممارسات الكبار (أولياء الأمور) باعتبارهم القدوة والنموذج، ففي الحالات التي تخرج فيها ربة الأسرة أو رب الأسرة بدون قيد وبدون قيد أو شرط أو ضرورة قصوى، وأحيانا بدون كمامات وبدون التقيد بالإجراءات والتدابير الوقائية والاحترازية، أو يتم التشكيك -أمام الأطفال- في "كورونا" أو الاستخفاف بمخاطرها المحتملة، فلا نتوقع، إلا طفلا تسيطر عليه مفردات التراخي وعدم الانضباط والاستهتار والتسيب والانفلات وعدم احترام القانون، ومع ذلك، لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على كاهل أولياء الأمور، لأن "سلطة الجوع" أكبر من أية دعوة للالتزام والانضباط والصبر والتقيد بالضوابط الوقائية والاحترازية، في غياب آليات الدعم والمواكبة والتتبع ... وعليه، فإذا كان رهان الحكومة في الوقت الراهن، هو وضع "السيناريوهات" الممكنة التي من شأنها ضمان خروج آمن من الحجر الصحي، ومعالجة التداعيات الجانبية للجائحة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فاللحظة، تقتضي توجيه البوصلة نحو ملايين من أطفال المغرب في المدن والقرى والمناطق النائية، الذين وضعوا في صلب أزمة "غير مسبوقة"، فرضت تنزيل سياسات عمومية وقائية واحترازية وتدبيرية، حكمت عليهم وهم لا يدرون، بالسجن أو الاعتقال خلف الجدران، رهن تدابير الحجر الصحي، بدون "محاكمة عادلة" أو نقل، دون الاستماع إليهم والإنصات إلى همومهم وتطلعاتهم وأحلامهم الصغيرة، في جائحة عالمية لم يسلم من تأثيرها حتى الكبار، وفي هذا الإطار، وبالقدر ما نثمن ما تم تحقيقه من إجماع وطني ومن تعبئة جماعية في إطار الحرب ضد "كورونا"، بالقدر ما ندين، غياب أية رؤية واضحة المعالم نحو أطفال "خلف الجدران"، لا يحتاجون اليوم، إلى أطباء أو أخصائيين نفسانيين يقرؤون عليهم الفنجان، بل إلى سياسات عمومية رصينة وناجعة في مجال الطفولة والشباب، تقطع مع أية سياسة مقرونة بالتردد والارتباك، مكرسة للضعف والإعاقة والانحطاط، على أمل أن يفتح نقاش متعدد الزوايا، بشأن قضية "الطفولة والشباب في زمن كورونا" لتشخيص واقع الحال (نفسيا، اجتماعيا، تربويا، تعليميا ..)، وهي دعوة لمختلف وسائل الإعلام، لتوجيه البوصلة نحو شرائح واسعة من الأطفال والشباب، ليس فقط للنبش في حفريات مدى تأثرهم بالجائحة، ولكن، أيضا من أجل تقديم مضامين رصينة ومحتويات هادفة، من شأنها الإسهام في الارتقاء بمستوى الأذواق والقراءة والقطع مع كل الممارسات المكرسة للتفاهة والانحطاط، في انتظار التخفيف من وطأة "حجر صحي" يئن بسببه "الكبار"، فكيف هو "حال الصغار".. خاصة من يعيشون في العالم القروي والمناطق النائية والجبال العالية، حيث لا يعلو صوت على صوت "الهشاشة " وأخواتها ... ونختم بالقول، إذا كان رهان الحكومة حاليا، منصبا على الوباء "الكوفيدي"، فهي تتحمل - وهي تعد خطة الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي- مسؤولياتها المواطنة، في التصدي المسؤول، لمختلف "الأوبئة" التي تعرقل حركة الوطن، وتمنعه من فرص النهوض والارتقاء، وهي مدعوة، لحسن استثمار ما تم تحقيقه من منجزات ومكاسب، وما هو متاح آنيا ومستقبليا من فرص اقتصادية وإمكانيات استثمارية، مع الحرص كل الحرص، على الاستثمار في "الرأسمال البشري" وإرساء منظومة ناجعة للحماية الاجتماعية والارتقاء بمنظومتي الصحة والتعليم والرهان على "الإدارة الرقمية" التي باتت ضرورة ملحة، لتكريس الحكامة الرشيدة والقطع مع كل ممارسات العبث والفساد والبيروقراطية والشطط في استعمال السلطة والمساس بالمال العام، والالتفاتة إلى القطاع الفلاحي الذي أبانت الجائحة أهميته في كسب أي رهان مرتبط بالأمن الغذائي، وبلورة رؤية للنهوض بواقع السياحة الداخلية والصناعة التقليدية، وتنزيل سياسات وبرامج تنموية مندمجة وشمولية من شأنها الارتقاء بواقع الطفولة والشباب، وإنعاش الشغل والتقليص من حجم الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتشجيع ثقافة الإبداع والاختراع والابتكار ..، وكلها تدخلات من ضمن أخرى، يفترض أن تحضر في صلب "النموذج التنموي المرتقب"، الذي لابد أن ينبثق من عمق الجائحة وأن يكون عاكسا لما قدمته من دروس وعبر، وما فرضته وتفرضه من تحديات ورهانات ...مع الإشارة، أن اللحظة، تقتضي المصالحة ووحدة الصف والتضامن والتعبئة الجماعية والالتفاف حول ثواب الأمة، والبعد عن "كوفيد لعصا فالرويضة" والقطع من "صراع الديكة"، فلا مصلحة فوق مصلحة الوطن ولا سياسة إلا في ظل الوطن ومن أجل الوطن ، فطوبى لمن يخدم الوطن بمحبة وصدق وتضحية ووفاء، بعيدا عن "ورم الريع" و "وباء الانتهازية والوصولية"...