شهدت الفلسفة الإسلامية تاريخا حافلا بأعلام أصحاب المذاهب، الذين أنشأوا أنظمة فكرية استندت على التراث اليوناني من ناحية - عن طريق الترجمة - والتراث الفكري الإسلامي من ناحية أخرى، ونتج عن هذا التأثير المزدوج، مُرَكَّبٌ فكري خاص، يمتاز بالأصالة إذا ما قارناه بسائر التيارات الفكرية في تاريخ الإنسانية، ومن هنا كان من الواجب أن يُدْرَسَ هذا الفكر قائما بذاته، بوصفه إسهاما خاصا في الفكر العالمي. إن المتأمل في تاريخ الفلسفة الإسلامية سيجد أن الدراسات التي تهتم بهذه الفلسفة قليلة وقليلة جدا، وهذا ما حال بين تقديم دراسة شاملة لتاريخ تلك الفلسفة، مع العلم أن الدراسات النقدية التي ظهرت في هذا المجال إنما اتكأت على المنهج التاريخي في مقاربتها النقدية للمذاهب الكلامية والفلسفة الإسلامية بشكل عام.
وقبل أن نتطرق إلى دراسة النموذج الإعتزالي من زاوية منشئه ومبادئه وأسسه الفكرية التي استند عليها، لا بد أن نضع ولو تعريفا للفرق الكلامية، كمقدمة ندخل من خلالها إلى دراسة المذاهب الفكرية التي ظهرت في مرحلة معينة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وكإفراز لجملة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفها المجتمع الإسلامي آنذاك.
وكما جاء في كتاب "كشاف اصطلاحات الفنون" ل: المولى محمد بن علي التهانوي" ما يلي: "علم الكلام ويسمى باسم أصول الدين أيضا، وسماه أبو حنيفة – رحمه الله - بالفقه الأكبر. وفي كتاب "مجمع السلوك" يسمى بعلم النظر والاستدلال أيضا، ويسمى أيضا بعلم التوحيد والصفات."
وفي كتاب "شرح العقائد" ل: التفتازاني: "العلم المتعلق بالأحكام الفرعية، أي العلمية، يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية؛ أي الاعتقادية: أي علم التوحيد والصفات".
وهو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير، بإيراد الحجج ودفع الشبه، فالمراد بالعلم معناه الأعم، أو التصديق مطلقا، ليتناول إدراك المخطئ في العقائد ودلائلها. يمكن أن يراد به المعلوم، لكن بنوع التكلف بأن يقال: علم أي معلوم يقتدر معه، أي مع العلم به، ... وفي صيغة الاقتدار تنبيه على القدرة التامة.
لقد اغتنى الفكر الفلسفي الإسلامي في القرن الثاني والثالث للهجرة، مما أدى إلى ظهور هذه الفُرُقِ الكلاميةِ التي تحاول أن تأسس لإشكالية العقل والنقل ووضع الأسس العلمية بين الفلسفة والدين، حتى إنها ناقشت الذات الإلهية. هذا مع العلم أن هذه الفرق إنما ظهرت نتاجا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عرفها المجتمع العربي-الإسلامي آنذاك، حيث إنه عرف ظهور عدة طبقات اجتماعية منها الطبقة الارستقراطية
والبرجوازية العربية والتي احتكرت السطلة السياسية، وبفعل الصراع الطبقي وواقع التناقضات برزت هذه الفُرُقُ بغية الوصول إلى السلطة السياسية. ومن بين هذه الفرق نذكر: التيار الإعتزالي والذي ظهر بدورها كنتاج للتفاعل المعرفي مع الفُرٌقِ الكلاميةِ الأخرى، وبالأحرى ظهرت هذه الفلسفة فيما يخص مسألة مرتكب الكبيرة، وكما جاء في كتاب "الروية البيانية عند الجاحظ" ل: "إدريس بلمليح" ما يلي: "ولعل أشهر رأي في القضية ما أورده أولئك الذين اعتمدوا بشكل كبير على ما جاء في "الملل والنحل" ل: (الشهرستاني)، من أن رجلا دخل على الحسن البصري سائلا إياه: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا.
فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء، أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا، ولا كافر مطلقا، بل هو في منزلة بين المنزلتين...". وهناك من يرى بأن الفكر الإعتزالي ظهر مع واصل بن عطاء، مع العلم أن روايات كثيرة تذهب إلى أن أبو الهاشم عبد الله بن الحنفية على يده ظهر الفكر الإعتزالي.
إن اسم المعتزلة ليس مأخوذا عن فكرة الانفصال عن مذهب أهل السنة والجماعة، وبالتالي لم يكن من وضع أهل السنة بقصد الذم أو السخرية من المعتزلة بوصفهم خارجين على مذهب الجماعة الإسلامية ومنشقين عنها. "وإنما اختار المعتزلة الأولون هذا الاسم، أو على الأقل تقبلوه بمعنى "المحايدين" أو "الذين لا ينصرون أحد الفريقين المتنازعين (أهل السنة، والخوارج) على الآخر في المسائل السياسية الدينية الخطيرة، مسألة الفاسق ما حكمه؛ هل هو كافر مخلد في النار كما تقول الخوارج، أم هو مؤمن يعاقب على الكبيرة بقدرها، وأمره راجع إلى الله كما تقول المرتجئة، أم هو في منزلة بين المنزلتين. وهذا الطرح الأخير هو ما دافع عنه المعتزلة، وكانت هذه المسألة التي تتمحور حول مرتكب الكبيرة من بين المسائل الخطيرة في الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة بسبب المنازعات السياسية والحروب الأهلية التي بدأت مع الصراع بين علي رضي الله عنه ومعاوية. وبالتالي فظهور الفكر الاعتزالي إذن، هو إفراز موضوعي لطاحونة الصراع الطبقي والفكري من أجل الحفاظ على المصالح الطبقية للطبقة البرجوازية الحاكمة آنذاك.
I.الأسس الفكرية لرؤية العالم والأصول الخمسة عند المعتزلة
1. الأسس الفكرية لرؤية العالم
من أجل فهم الفكر الإعتزالي لا بد أن نشير إلى الأسس الفكر لرؤية العالم عند المعتزلة والتي تقف على ثلاثة مبادئ وهي الله والعالم والانسان؛ ف "الله" كما جاء في كتاب الرؤية البيانية، يعتبره المعتزلة هو خالق الكون وموجده، وليس هو بجسم ولا عرض ولا جوهر، واحد لا يدرك بحاسة، أزلي لا بداية له ولا نهاية، ليس كمثله شيء. والمعتزلة ينظرون في مسألة خلق الله للخلق، إنما ذلك لا يجعل منه جائرا، وأنه خلق الإنسان لصالحه، وخلق العالم لمصلحة أهله، عادل حكيم غير مخل بالواجب فلا حجة للإنسان المدرك لعدله عدم اخلاله بالواجب عن طريق التأمل والنظر..
وأما "الإنسان" عند المعتزلة فهو حيوان ذو طبائع وعقل واستطاعة. وتفصيل ذلك بتعبير "إدريس بلمليح"، هو أن الله لما خلق الإنسان جبله على طبائع مختلفة وأهواء متعددة، هي ما يمكن أن نسميه بالقوى النفسية الناتجة عن الغرائز الإنسانية التي تنبع في جوهرها من طبيعته وخلقته، وهنا يقول الجاحظ: "... ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب، وطبيعة الرضا والبخل والسخاء والجزع والصبر والرياء والإخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة. والله قد منح الإنسان العقل، الذي يخرجه من حده الحيواني إلى حده الإنساني، ثم إنه حر في عمله وعالمه، قادر على الفعل وضده قبل حدوثه الفعل".
والمبدأ الثالث في هذا الصدد هو "العالم"، والعالم عند المعتزلة ينقسم إلى قسمين كبيرين: قسم نام وآخر غير نامي، فالنامي نبات وحيوان، وغير النامي حجر وتراب وماء وأفلاك وأجرام، يقول الجاحظ: "ومنافع العالم نتائج أربعة أركان: نار يابسة حارة، ماء بارد سيال، وأرض باردة يابسة، وهواء حار رطب، ليس له شيء مع مزاوجته لخلافه، إلا وهو محي مبق". ولك أن تنظر كتاب "الرؤية البيانية عند الجاحظ" لإدريس بلمليح فهو فصل في هذا.
2. الأصول الخمسة عند المعتزلة
وهذه أصول هي كالتالي:
1.التوحيد
2.العدل
3.الوعد والوعيد
4.المنزلة بين المنزلتين
5.الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي هذا الصدد نذكر ما ذهب إليه القاضي عبد الجبار في كتابه "المغني في أصول الدين" باعتبار أنه رأى أن التوحيد والعدل هما أصل واحد، وفي كتابٍ آخر له هو "مختصر الحسنى" قال: إن أصول الدين أربعة: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع، وجعل ما عادا ذلك من الوعد والوعيد والاسماء والأحكام، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر – داخلا في الشرائع". وفي كتاب "المغني" أرجع النبوات والشرائع إلى أصل العدل "لأنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعث الرسل، وأن نتعبد بالشريعة وجب أن يبعث ونتعبد، ومن العدل أن لا يُخِلَّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل، لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، فلابد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده، ومن العدل ألا يخلف ولا يكذب. وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخلة في باب العدل، لأنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في أن تعبدنا بإجراء أسماء وأحكام على المكلفين وجب أن نتعبد به، ومن العدل ألا يخل بالواجب، وكذا الكلام في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وما نستنتجه في هذه الصدد، هو أن الفلسفة الإسلامية تأثرت بالمنطق الفلسفي اليوناني، وهذا ما حتم عليها أن تتجه توجها عقلانيا، الذي يتجلى في النظر إلى الإنسان والعالم والكون والذات الإلهية، لكن وكما لا يخفى علينا، فالاصطدامات الفكرية هي نتيجة لاختلاف الواقع الطبقي وكذا هو ضرورة حتمية إما للتسلق الطبقي وتغير الواقع الاجتماعي، وإما أيضا للحفاظ على المصالح الطبقية.