مرة أخرى، يثبت حراك الريف أن ثمة أزمة حقيقية في آليات الوساطة والتأطير السياسية والاجتماعية، وتتمثل هذه الأزمة تحديدا في فشل هذه الآليات (أحزاب ،نقابات ، هيئات مدنية الخ..)في تأطيرالمواطنين،وتمثل مطالبهم وتصريفها عبر الآليات والقنوات المؤسساتية ،وعدم تركها تنزاح خارج السياقات والأطر الطبيعية التي يفترض أن تشكل فضاء لتمثيل وتصريف مطالب المجتمع ، وذلك نظرا لما لذلك من خطورة على تماسك المجتمع والدولة معا ، إذ إن ضعف هذه الهيئات في الاضطلاع بدورها يدفع بالمجتمع والدولة إلى التناطح مباشرة بدون وسائط، في مشهد يستدعي الى الأذهان بانوراما الاحتراب اليومي في سوريا واليمن وليبيا ،حيث تغيب الوسائط بين الدولة والمجتمع ،وتنتشر الفوضى والعنف واحتلال الفضاء العام في غياب أي تأطير مؤسسي للمطالب والاحتجاجات.
صحيح أن المغرب ليس مثل هذه الدول، إذ راكم إصلاحات دستورية وسياسية واجتصادية وشيد مؤسسات مختلفة طيلة العقود الستة الماضية، لكن فشل بعض هذه المؤسسات في الاضطلاع بأدوارها ،لاسيما المؤسسات التي تنهض بدور الوساطة بين المجتمع والدولة (الأحزاب، النقابات ، الهيئات المدنية الخ..) أصبح يهدد كل هذا التراكم، وهذا الذي يسميه البعض ب "الاستثناء المغربي"..
فالأحزاب والنقابات والمجتمع المدني ،إنما وجدت لتلعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة، تحتضن مطالب المجتمع وتمثل انتظاراته ،وتدافع عنها في إطار المؤسسات الدستورية والسياسية مانعة إياها من الانزياح خارج سياقاتها الطبيعية، فهي تضطلع-إذن- بدور هام في استتباب الأمن والاستقراروالرخاء في المجتمع ،لكن شرط أن تكون مؤسسات ديمقراطية حقيقية متشبعة بقيم التمثيل السياسي والاجتماعي والمصلحة العامة ،وليست مجرد هياكل شكلية تستغل لغايات غير الغايات النبيلة التي خلقت من أجلها في الدول والأنظمة الديمقراطية ..
ورغم أن المغرب من الدول السباقة ضمن محيطها العربي والإفريقي والعالم ثالثي إلى إقرار نظام التعددية الحزبية والنقابية والمدنية ،فإن هذه المؤسسات الوسيطة التي تساهم في تأطير المواطنين وتعزيز انخراطهم في الحياة العامة ما تزال تتعثر في الوفاء بهذا الدور كما يلزم،إن لم تكن قد زاغت عنه إلى أدوار منتحلة،وأصبحت أقرب إلى تجمع مصالح ولوبيات تلتف حول حماية أشكال من الفساد السلطوي والمصالح الضيقة، منها آليات ديمقراطية لتأطيرالمواطنين وتمثيل المجتمع ،حيث تعاني فشلا فادحا في أداء وظيفة التأطير والتمثيل التي هي من صميم مهامها الدستورية والقانونية والسياسية ،وشكلت أحداث الريف محكا حقيقيا عرى عن هذا الفشل وأظهرها في حالة انفصام ، أو بالأحرى في حالة خصام مع مطالب حراك شبابي يفترض أن يحظى بالتأطير والمرافقة اللازمة من الأحزاب، لتلافي عواقب انزياحه في الشارع وخروجه عن الأطر المؤسسية.. وساهم موقفها من الحراك ،ولاسيما موقف أحزاب الأغلبية المبني على "نظرية المؤامرة" والتخوين في تأجيج الحراك ،وإظهار المحتجين رفضهم لكل أشكال الوساطة المفترضة ،(الحزبية،أو الحكومية أو غيرها) ،موجهين رسائلهم مباشرة إلى المؤسسة الملكية ،رافضين وساطة الأحزاب والحكومة ،والهيئات المنتخبة ، وهو ما يعكس "الدرجة الصفر" من الثقة في هذه الهيئات ،مع العلم أن وجودها لاغنى عنه لمأسسة الاحتجاج والمطالب وتصريف التوترات، وإرساء الاستقرار والرخاء في المجتمع. لكن شرط أن تكون هذه الهيئات الوسيطة منسجمة مع وظيفتها المعيارية ،المتمثلة أساسا في تأطيرالمواطنين، وتمثيل المجتمع (مفهوم التأطير هنا يرادف مفهوم المأسسة- institutionnalisation (والتعبير عن مطالبه والاستجابة لانتظاراته،والحؤول دون انفجارها في الفضاء العام.
وهذا ما لاتقوم به هذه الهيئات في السياق الراهن بالفعالية اللازمة ،بل أحيانا تبدو منبتة الصلة بهذا الدور،مثلما دل على ذلك موقف الأغلبية الحكومية المتسرع والمتهافت من حراك الريف ،باتهام المشاركين فيه من الشباب والفتيان والفتيات ب "العمالة" وّ الانفصال" و" خدمة أجندة خارجية" دون تبين أو تمحيص،علما أن دورها التأطيري والتمثيلي والوسائطي كان يملي عليها - حتى على فرض حدوث اختراق للحراك - أن تعمل على تأطيره وتمحيص مطالبه لفرز المشروع من المحظور منها، وعزل المندس والمتآمر عن مجموع المطالبين بالحرية والكرامة والعيش الكريم، في نطاق الدستور واحترام المؤسسات،وتفعيل دور الوساطة بين الشارع والدولة بتصريف مطالب المحتجين عبر الآليات المؤسساتية..
والأسوأ أن تسرع أحزاب الأغلبية البرلمانية والحكومة بالتشكيك في نوايا الحراك، خلق حالة من التقاطب الحاد داخل المجتمع إزاء أهدافه ،بين من يرى فيها تعبيرعن مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة ،وبين من يشكك في نوايا المتظاهرين ،بل الأكثر سوء أنها
أحدثت حالة من المزايدة حول الولاء للمؤسسات ،التي يفترض أنها محل إجماع المغاربة قاطبة..
بينما كان يفترض أن تتعامل الأحزاب و الحكومة مع حراك الريف بما يلزم من الحكمة والاستشراف والتوقع والذكاء العمومي، مع استحضار حساسية المنطقة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا ونفسيا، والجهود التي بذلتها الدولة من أجل مصالحة المنطقة وسكانها مع الوطن والمؤسسات ، سواء في إطار هيئة الانصاف والمصالحة أو في إطار المبادرة الملكية التي بدأت منذ الأشهر الأولى لتولي الملك محمد السادس للحكم ،من أجل النهوض بهذه المنطقة اقتصاديا واجتماعيا والحاقها بركب الإصلاح الاقتصادي والسياسي والتنموي الذي انخرط فيه المغرب منذ نحو عشرين سنة على الأقل، بدل التعاطي معه بأسلوب "نظرية المؤامرة" والتخوين والاتهام بخدمة أجندة خارجية وتغذية نوازع انفصالية، ثم اللجوء الى الاعتقال في حق المحتجين وتوجيه تهم ثقيلة لهم بالمساس بالسلامة الداخلية للدولة ،وأفعال أخرى تقع تحت طائلة القانون الجنائي ،دون أن تدري أنها بهكذا اعتقالات تغذي جروح الذاكرة والتاريخ و تهدد منسوب الثقة الذي بدأ يتراكم في المنطقة منذ مجيئ الملك محمد السادس الى الحكم وبصمه على ثقافة قشيبة في إدارة الحكم قائمة على الانصات والإشراك والتفاعل في أفق انتقال ديمقراطي موعود ..
ولا غرو اليوم في ظل هذا الوضع الذي عرى عن فشل هيئات الوساطة والتأطير ،وأبان عن ضعفها وانفصالها عن الواقع، أن يطالب الجميع (الحراك ، والأحزاب ، والمجتمع المدني ، ومختلف الفاعلين..) بتدخل المؤسسة الملكية لمنع حدوث الأسوأ ،لكن هذا بقدرما يؤشر إلى أهمية دور المؤسسة الملكية ،لاسيما إزاء هكذا أزمات ، فإنه لا يعدم مخاطر،مثلما لا يلغي دور الهيئات الوسيطة التي تعاني في السياق الراهن من عجز فادح في أداء أدوارها ،وذلك لأسباب يطول شرحها ..