ما إن بدأ إعلان النتائج الرسمية للانتخابات التي جرت في تركيا، حتى بدأت التحليلات والتأويلات المختلفة تأتي من كل المتتبعين والمهتمين، خاصة من العالم العربي، إذ أن تركيا ليس بالدولة العادية، بل أن تأثيرها ومكانتها يتجاوز حدود رقعتها الجغرافية، حتى أصبحت دول وأنظمة وشعوب في المنطقة معنية بشكل مباشر بنتائج هذه الانتخابات، ليس في المنطقة فقط بل ربما في العالم برمته، بل إن العديد تابعوا الانتخابات باهتمام بالغ وتفاعلوا مع النتائج كونها تمسه بشكل مباشر أو غير مباشر. حزب العدالة والتنمية الحاكم حصل على ما يقارب41%، وحصل ملاحقه المباشر حزب الشعب الجمهوري على نسبة 24.96٪. ثم حزب الحركة القومية على 16.29 % ،وحزب الشعوب الديمقراطي الممثل للتيار الكردي والذي حقق المفاجئة بوصوله لعتبة 10% التي تخول له دخول البرلمان، فقد تجاوز هذه النسبة وحقق 13.12%. إلى هنا تبدو الأمور عادية ومنطقية ، إلا أن الكثير من المتتبعين خاصة من التيارات المعادية والمعارضة لسياسات أردوغان والحزب الحاكم، اعتبرت الأمر بمثابة سقطة وهزيمة مدوية، بل إن وسائل إعلام هذا الطرف تفننت ربما إلى حد التشفي في وصف النتائج التي حصل عليها حزب أردوغان ، بين من وصفها بالسقوط المدوي ونهاية الحلم التركي والنكسة الأردوغانية...إلى غيرها من العناوين المتصدرة لواجهات الصحف، "فعندما يسقط الثور عادة تكثر السكاكين" كما يقول المثل وكذلك الأمر كان مع سقوط حزب أردوغان. بينما على الطرف الأخر حاول مؤيدو الحزب التخفيف من حجم الخسارة، وسعوا إلى التقليل من حجم تبعات ذلك. و رؤوا أن الأمر لا يستحق كل الضجة المثارة حوله. فهل فعلا أن هذه النتائج تعتبر نكسة وهزيمة تاريخية لحزب أردوغان كما صورتها صحافة المعارضة الداخلية والخارجية؟، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون قرصة أذن من الشعب التركي عله يتذكر أو يعيد النظر في بعض من قراراته وسياساته؟، أم أنه يجب النظر إلى هذه النتائج من زاوية مغايرة؟، وهي أن تكون النتائج من صالح كل الأطراف ، بل وحتى فئات من الشعوب العربية أيضا، على اعتبار أن تركيا كانت دائما النموذج المثالي الذي تحلم به الكثير من الشعوب في المنطقة؟. لا أحد ينكر دور أردوغان كقائد ذو كاريزما مؤثرة في النهضة الاقتصادية التركية الحديثة، كما لا ضرورة من التذكير بالمنجزات العظيمة التي حققتها تركيا خلال فترة حكمه منذ بداية هذا القرن، كما أنه يحسب لأردوغان كونه من القادة القلائل إذا لم يكن القائد الوحيد في العالم الذي جاهر بعدم شرعية الانقلاب في مصر وسمى الأسماء بمسمياتها، بعيدا عن لغة النفاق السياسي التي يفضلها معظم الحكام، رغم ما كان لذلك من تأثيرات اقتصادية على مصالح بلاده. ولا يمكن أيضا أن نتجاهل المواقف الرجولية لأردوغان حول مختلف القضايا السياسية في المنطقة، ليس فقط اتجاه شعبه وإنما اتجاه كل الشعوب العربية والإسلامية، حتى أصبح ينظر إليه الكثير من محبيه بكونه ناصر المظلومين و رمز للقائد البطل والزعيم المخلص للمسلمين من الهيمنة و التبعية. إلا أن الصحيح أيضا أن تزايد شعبية أردوغان في المنطقة جعله بشكل غير واعي يحس بنوع من جنون العظمة، للدرجة التي أصبح يتعامل مع معارضيه سواء داخل تركيا أو خارجها بنوع من التعالي وربما حتى الاستخفاف. خاصة وأن الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها في البرلمان ، كانت تخول له اتخاذ العديد قرارات والسياسات حتى وان كانت بمعارضة الأطراف الاخرى إذا أن ذلك لم يكن ذا أهمية ما دام القرار الأول والأخير بين يدي حزبه الذي منحه الجزء الكبير من الشعب ثقته فيه. كما أن الصحيح أيضا أن سياسة أردوغان الداخلية و الخارجية خلقت له الكثير من العداءات والضغائن مع الكثير من التيارات المختلفة داخليا، وأكثر من بلد على المستوى الخارجي وأصبح رأسه مطلوب أكثر من أي وقت مضى. لذلك شكلت نتائج الانتخابات فرصة تاريخية و إشفاء لغليل هذا التيار من أردوغان وحزبه، على الرغم أنها ليست بتلك الذي يجعل منها هزيمة حقيقية، بقدر ما هو تراجع وانخفاض، فنسبة 40% هي نسبة ليست بالسيئة خاصة بالنسبة لنظام انتخابي معقد كما هو في تركيا، فهذه النسبة تبقي على العدالة والتنمية كحزب رئيسي وبعيد نسبيا على أقرب منافسيه حزب الشعب الجمهوري على نسبة تقارب 25٪. لكن إذا كانت النسبة ليست بالسيئة، فهي أيضا ليس كما أراد أو كان يطمح إليه أردوغان، إذ انه لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل بأي حال من الأحوال ما كان يرجوا إليه هذا الأخير لو حقق فوزا ساحقا كما كان يأمل بذلك. فأردوغان كان يعلق آمال كبيرة على هذه الانتخابات لتحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي، تماشيا ربما مع رغباته الشخصية أو رغبات حزبة، وليس بالضرورة كما يريد الشعب أو على الأقل جزء منه، وهذه هي الخطوة التي أثارت مخاوف جمة من اقتداء أردوغان بأقرانه من الحكام ممن يغيرون ويعدون الدساتير على حساب المقاسات و النزوعات الشخصية، أو هذا على الأقل ما هذا يراه الكثير من خصومه. وقد لا نبالغ إذا قلنا أنه كان ذلك ربما سيكون بداية لنهاية "النهضة التركية الجديدة"، كون في حال تحقق ذلك فيعني تحول تركيا من دولة مؤسسات حقيقية، إلى دولة أفراد وزعامات يشكل أردوغان الركيزة الأساسية فيها وربما الوحيدة، و كان بذلك سيكرر نفس الخطأ الذي عانى منه الشرق ولا يزال منذ التاريخ، وهو ربط كل مصالح الدولة بشخص واحد وهو الشخص القائد وزعيم الدولة، وعليه يتم شخصنة كل القرارات الإستراتيجية للدولة عوض مأسستها، فيصبح عندما يموت الأخير أو يتعرض لإكراه طارئ يمنعه من مزاولة مهامه أن تنهار معه الدولة برمتها. صحيح أنه مبدئيا قد تكون نوايا السيد أردوغان صادقة، وربما قد يكون فعلا كما كان يرى ذلك أن من مصلحة تركيا أن يكون لها نظام رئاسي وبصلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية، فإن هذه الفكرة ليست سوية على المستوى الإجرائي ، لأن ذلك ببساطة يؤسس لمنهج ونمط خاطئ في تدبير نظام الحكم، لأنه ليس هناك من يضمن أن لا يتم استغلال ذلك نحو طموحات شخصية كما كانت تتخوف منه معارضته، أو حتى يفتح المجال لشرعنة ذلك لمن يأتي من بعده، وبذلك يصبح معه كل رئيس أو زعيم مستقبلي، يعدل الدستور حسب رغباته ومقاسه الشخصي، وهذا ما قد يجعل من تركيا بعد أن كانت –النموذج المثالي – الذي تطمح له العديد من الشعوب في المنطقة تحقيقه، أن تتحول إلى دولة سلطوية مرة أخرى شأنها شأن مثيلاتها في المنطقة. لكن أيضا ألا يجب أن ننظر إلى الأمور من جانب ومعطى آخر؟، أو ألا يمكن أن يكون هذا التراجع الذي يصفه البعض بالهزيمة، من مصلحة أردوغان نفسه وحزبه بالدرجة الأولى، ومن مصلحة تركيا بدرجة ثانية؟ ولما لا أن تكون من مصلحة شعوب المنطقة أيضا. لاعتبارات عديدة ومختلفة يمكن أن يكون لهذه الخسارة وجه حسن لا يراه الكثيرون ، أولها أن هذه الخسارة النسبية لحزب العدالة والتنمية، بينت لنا مرة أخرى انه عندما تكون هناك ديموقراطية حقيقة، فالشعب هو من يقرر في الأول والأخير ما يريده وما يصلح له، وذلك عندما أحس هذا الأخير أو على الأقل جزء منه أن العدالة والتنمية لم يعد يحقق تطلعاته، فقد رأى ضرورة توبيخه كنوع من العقوبة عن ذلك فقام بالتصويت لغيره. فمن المؤكد هنا أن أردوغان ومعه حزبه سيقومان بمراجعة لسياساتهما أو على الأقل جزء منها، وسيكون من المفروض عليه الآن أن يفكر بمنطق الجماعة ومنطق التشارك، كون أطراف أخرى ستقاسمه تدبير وتسيير حكم البلاد. كما أن من حسنات هذه النتائج أن الشعب أيضا أثبت مرة أخرى بأنه الصانع الحقيقي لأردوغان ولمختلف لانجازات في عهده وليس الأخير هو من صنع تركيا كما يسعى الكثير من معجبيه تصوير ذلك.والتي لو تأيد ودعم ذلك الشعب له لما تم له ذلك. فحزب العدالة والتنمية هو في الحقيقة لم يهزم ولم يصب بأية نكسة ، وما حصل يبقى من الأشياء العادية والبديهية وحتى الضرورية أيضا في المجتمعات الديمقراطية، بل العكس من ذلك تماما فنعتقد أن مثل هذه الأمور من الظواهر الصحية للمشهد السياسي، كونها دائما تذكر الحاكم بكون الكلمة الأخيرة والحاسمة للشعب، وبما أن أردوغان ارتكب أخطاء أو هفوات و اتخذ قرارات لم ترق لكثير من الناس، فقد كان إذا من البديهي أن يتم توبيخه من الشعب والتصويت على غيره، وهي بذلك كقرصة الأذن التي يحتاجها المرء للتنبيه والعودة إلى الرشد .