لا يزال الإجهاض يعتبر جريمة ، فيما لا تزال الدعوة إلى حرية الإجهاض و تلك المناهضة لإباحته في جدال مستمر ، فبعضهم يعتبره حقا من حقوق المرأة ، تحت مقولة حرية المرأة في جسدها و بأن الجنين جزء منها و ملك لها ، و البعض الآخر أعلنها حربا على التنظيمات النسائية التي تنادي بحرية الإجهاض. فقد حاول شذاذ بعض المجتمعات الغربية أن يصوروا للمرأة أن الإجهاض هو حق لها ، ضمن الحقوق و الشعارات الزائفة التي تطرحها حول الحرية و المساواة ، لذلك كثر استغلال هذا الموضوع من قبل السياسيين و الجمعيات النسائية ، التي تدعي التحرر، وفيما ينظر الشرق و الغرب إلى عملية الإجهاض على أنها جريمة قتل تعاقب عليها الشرائع الإلهية و القوانين الوضعية ، تتعالى أصوات النشاز في أكثر من مكان في الأرض ، لتجعل من هذه الجريمة عملا مباحا بعيدا عن الإدانة و التجريم. لذلك سنحاول من خلال هذه الدراسة الوقوف قدر المستطاع و دون إطناب عند أكثر الحالات التي يترتب عنها الإجهاض سواء تلك التي لا تطرح إشكاليات لصراحة النص في التعامل معها أو القائمة على أسباب و مبررات هي في الأصل غير سليمة و مجانبة للصواب ، أو تلك التي طرحت و لا تزال تطرح إشكاليات إما لغياب أو غموض النص الحاسم في التعامل معها أو لكثرة الحديث عنها و جعلها الشماعة التي يلجأ إليها مؤيدون إباحة الإجهاض لتعليق مبرراتهم عليها ، وهذا كله سيكون وفق منظورين، فقهي و قانوني. أولا: الحالات التي لا تطرح الإشكال 1 _حالة الجنين المشوه يطرح الكلام عن التشوهات الجنينية إشكالا شرعيا وطبيا و خلقيا و قانونيا عويصا ، ذلك لأن وسائل الفحص و الوقوف على الخلل الجسدي أو التخلف العقلي للجنين تطورت كثيرا من جهة ، و بقيت أساليب العلاج و إصلاح العيوب محدودة جدا من جهة أخرى، فقد تمكن الطب الحديث و بخاصة علم الأجنة من إمكانية تصوير الجنين داخل الرحم عن طريق الأجهزة الطبية الحديثة ، فأصبح بإمكان الطبيب و في مرحلة مبكرة من الحمل أن يجزم بوجود تشوه ما لدى الجنين ، لكنه غالبا ما لا يستطيع أن يقدم شيئا في سبيل علاجه ، سوى أن يوضح للأبوين نوع التشوه ودرجة خطورته ، ثم يترك لهما الخيار الصعب : إما الإحتفاظ به و تحمل ما يصاحب من قلق و خوف على مستقبله ، و إما إجهاضه لوضع حد للمعاناة التي يتوقع أن يكون الولد و أهله عرضة لها. و الجدير بالذكر أن أغلب التشوهات لا يمكن فحصها و التأكد منها إلا بعد الأسبوع الثامن من الحمل ، أي بعد أن تكون الروح قد نفخت في الجنين ، فمما لا شك فيه أنه إذا كانت هذه العيوب التي أصابت الجنين ، عيوبا يمكن علاجها طبيا أو جراحيا أو لا تؤثر على حياته و استمرارها فإن هذه العيوب لا تصلح مبررا للإجهاض. لكن الإشكال الذي يطرح بالنسبة للتشوهات التي تؤثر على الجنين ، أو على أمه ، أو التي يصعب علاجها و مدى جواز الإجهاض من عدمه في هذا الحالة ؟ لم يتعرض فقهاء السلف لحكم إجهاض الجنين و هو في رحم أمه ، حيث لم تثر المسألة في عصرهم و هي تعتبر من الأمور الجديدة المستحدثة، في حين اتفق الفقهاء المعاصرون على عدم جواز إجهاض الجنين المشوه ، إذا تم نفخ الروح فيه – أي بعد مرور120 يوما – و هم في ذلك يتفقون مع فقهاء السلف في عدم جواز إجهاض الجنين بعد نفخ الروح لأي سبب من الأسباب إلا للضرورة ، وهذه الضرورة هي المحافظة على حياة الحامل بحيث إذا لم يتم إجهاض الجنين ، فإن ذلك يؤدي حتما إلى فقد الحامل لحياتها ، وهذه الحالة إن كانت لا تطرح أي إشكال فقهي ، فهي قد لا تطرح أي إشكال قانوني حيث يمكن للفصل 453من القانون الجنائي أن يستوعبها و الذي نص على أنه لا عقاب على الإجهاض إذا استوجب ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج.وهذا الاستثناء مقرون بضوابط وهو إذن الزوج وعند انعدامه وجود خطر على حياة الأم مع إشعار الطبيب الرئيس للعمالة أو الإقليم. _2 الإجهاض لأسباب اقتصادية و اجتماعية سننطلق في دراسة هذه الحالة من قوله تعالى " وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ " سورة هود و كذلك قوله تعالى "وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ " الأنعام/151 ، "وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً " الإسراء/31. و كذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم . قلت: ثم أي ؟ قال: وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلت: ثم أي ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " متفق عليه فهذه الحالة – الإجهاض لأسباب و مبررات إقتصادية و إجتماعية - لا تحتاج إلى أي اجتهاد فقهي أو إختلاف في الآراء و التوجهات ، لقطعية النص وموقف الشرع الصريح منه ، و التي لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بأسباب و مبررات في نظرنا متوقفة على نظرة إنسانية أحادية حامحدودة في التعامل مع أبجديات الحياة ، و لا يمكن أيضا بأي حال من الأحوال القيام بجرم تحت ذريعة الخشية من الإملاق - الفقر- فلا يوجد أدنى شك من عدم شرعية الإجهاض المبني على هذه الأسباب . و ما قلناه عن حالة الجنين المشوه نقوله عن هذه الحالة و التي أيضا لا تطرح أي إشكال سواء من المنظور الفقهي أو القانوني ، على اعتبار أن المسببات و المبررات غير سليمة و مجانبة الصواب ، و أي إجهاض بناء على مبررات إقتصادية أو إجتماعية هو جريمة تكتمل مختلف أركانها المكونة لها و تخضع لمختلف المقتضيات القانونية المعاقبة عليها و لا يمكن بأي حال من الأحوال السماح به أو إباحته و إزالة الصبغة الجرمية عليه. ثانيا : الحالات التي تطرح إشكاليات (حالة إجهاض المغتصبة و حالة إجهاض الجنين الناتج عن الزنا) تعتبر هذه الحالتين أكثر الحالات إثارة للإشكال في موضوع الإجهاض ، لذلك ارتأينا تناول حالتي الإغتصاب و الزنا مشتركتين لتشابههما بتفصيل أكثر. 1- من المنظور الفقهي من المعلوم أن الإغتصاب هو تلك الواقعة التي يترتب عنها مواقعة رجل لإمراة إكراها و جبرا و بدون رضاها ، فهو قد يقع فرديا كما لو وقع على امرأة بعينها- وهو ما يحدث كثيرا في الوقت الحاضر- أو قد يقع نتيجة اعتداء جماعي كما في حالة الحروب و النزاعات الأهلية و الطائفية. لذلك قد يترتب على الإغتصاب حدوث حمل و بالتالي قد يكون الإجهاض هو الوسيلة الوحيدة للتخفيف من المعاناة ، فالإغتصاب هو مخالفة شرعية و قانونية ، و الإجهاض أيضا مخالفة شرعية و قانونية على نفس الدرجة ، لذلك حصل الإختلاف في الآراء و التوجهات في مدى جواز إسقاط الجنين الناشئ عن الإغتصاب ، لكن كان من اللازم الوقوف عند الرأي الراجح و الذي يرى جواز إسقاط الجنين الناشئ عن اغتصاب ، تأسيسا على توافر حالة الضرورة إذا ثبت أن المرأة أكرهت على الفاحشة ، و منهم من يرى جواز إسقاطه على أساس دفع الصائل أي حالة الدفاع الشرعي ، على أن يكون ذلك وفق الضوابط التالية : - أن يتم الإسقاط فور زوال السبب – الإغتصاب- فإذا تأخرت المرأة كانت راضية بهذا الحمل و أقرت به؛ - أن لا يكون الجنين قد نفخ فيه الروح ، أي قبل أن يستكمل 120 يوما؛ - أن تتم عملية الإجهاض تحت إشراف طبي و بطلب من المغتصبة. أما فيما يخص حالة الزنا ، فسننطلق في دراستها من قصة معروفة في التاريخ الإسلامي ، وهي قصة الغامدية ، حيث يتضح من قصة الغامدية أن الشرع حمى الجنين حتى ولو كان من زنا ، فالرسول صلى الله عليه و سلم أجل تنفيذ الحد عليها حتى تضع حملها ، بل حتى تفطمه . فقصة الغامدية دليل واضح على أن الزانية لا تملك الحق في إسقاط جنينها ، فلو كان يجوز إجهاض الجنين بقصد التستر لأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بإجهاض جنينها و لما أمرها بالإهتمام به ، حتى تتوفر له أسباب الحياة حيث أمرها بالرجوع حتى فطامه ، فإن هذا يدل على حرمة الإجهاض للتستر على الفاحشة ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. كما يمكن الاستئناس بما ذكره بعض المالكية : من جواز إقامة الحد على الزانية إذا كان حملها قبل الأربعين ، و قالوا : لا ينتظر وضع الحمل، لأنه قبل الأربعين لا حرمة له ، و نص قولهم هو : " و متى تقدم للمرأة أربعون يوما من يوم زنت ، انتظر حملها ، و إلا حدّت ، لأنه قبل الأربعين مضغة لا حرمة لها " _القرافي_ 2_ من المنظور القانوني من المعلوم أن المشرع الجنائي جرم الإغتصاب و عاقب عليه ، حيث عرفه من خلال الفصل 486 من القانون الجنائي في فقرته الأولى بأنه "مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها "، كما أن المشرع عاقب على جريمة الفساد من خلال الفصل490 و اعتبرها كل علاقة جنسية غير مشروعة قائمة بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية ، و عاقب أيضا على جريمة الخيانة الزوجية من خلال الفصل 491 ، و عليه فبالرجوع إلى المقتضيات القانونية المجرمة للإجهاض نجد أنها لا تغطي هذه الحالتين- الإغتصاب ، الزنا- و المشرع لما نص على الإستثناء الذي يسمح من خلاله بالإجهاض و يزيل عنه الصفة الجرمية ، تناول فقط حالة الضرورة للمحافظة على صحة الأم و ناقش رضا الزوج الأب وإذنه في هذه الحالة من خلال الفصل 453، فلو حتى افترضنا جدلا أن الحمل الناتج عن اغتصاب أو زنا قد يشكل ضررا على حياة و صحة الحامل ، فالإستثناء المقرون بموافقة الزوج غائب في الحالتين ، والأب الزوج في الحالتين مفقود ، لذلك يكون الرأي الفقهي هو الغالب في هذه الحالة لأنه اعتبر الأب في اصطلاح الشرع ، يطلق على من استولد إمرأة بنكاح صحيح ، فإن كان من زنا فلا يدعى أبا وذلك جزء من معنى قوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش و العاهر للحجر" _ صحيح مسلم بشرح الإمام النووي- ، و اعتبروا أيضا أن السماح للزانية بإسقاط حملها المتكون من الزنا ، تشجيع على الفاحشة و مناقضة صريحة لما تقضي به قاعدة "سد الدرائع". وإن كان النقاش الدائر هذه الأيام حول مراجعة المقتضيات القانونية المتعلقة بالإجهاض ، فإننا نميل إلى إفراد مقتضى قانوني يبيح للمغتصبة في حالة نشوء حمل عن جريمة الإغتصاب التي تعرضت لها اللجوء إلى الإجهاض، وذلك راجع لمجموعة من الإعتبارات نذكر منها : إنعدام رضا هذه الأخيرة في الواقعة التي تعرضت لها ، الإشكالية التي تطرحها حالة فرار المغتصب المتسبب في الحمل أو تنكره و إنكاره لمدة قد تطول أو عدم الموافقة على جعل العلاقة في قالب شرعي- الزواج- في الحالة التي يسمح بها القانون بذلك و بالتالي يبقى مصير الجنين في حكم المجهول ، و أيضا لتلافي الإجهاض السري المرتبط بهذه الحالة و التقليل من حالات اللجوء إليه، وهذا المقتضى ينبغي أن يكون وفق التوجه الفقهي الذي سمح بجواز الإجهاض و بتقييده بالضوابط التالية دون الخروج عنها و دون التوسع في تفسيرها و تأويلها : -أن لا يكون الجنين قد نفخ فيه الروح ، أي قبل أن يستكمل 120 يوما؛ -أن يشكل الجنين المستكمل لهذه المدة خطرا على حياة أو صحة المغتصبة الحامل؛ -أن تتم عملية الإجهاض تحت إشراف طبي و بطلب من المغتصبة.