لا يكاد يختلف اثنان في كون الرئيس التركي الأستاذ رجب طيب أردوغان ظاهرة فريدة، وعلامة مميزة، ومنارة شاهقة تضيئ ظلمات السياسة والسياسيين في العالم الإسلامي. ولا جدال في كون الرجل أنجح سياسي مسلم في العصر الحديث، بكل مقاييس ومعايير النجاح المتعارف عليها عالميا. ولئن جاز اختزال شخصية وتجربة الرجل في عنوان أو عبارة جامعة، فلن تكون إلا "اقتران السياسة بالأخلاق"، و"التدبير بالمبدأ"، و"الشهامة بالحكمة"، أو بالتعبير القرآني: "اجتماع القوة والأمانة" الوارد في وصف ابنة شعيب لنبي الله موسى: ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ): (القصص، الآية: 26) أو "اقتران الحفظ بالعلم" الوارد على لسان نبي الله يوسف: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55). 1- العظماء لا يخجلون من ماضيهم: أردوغان ابن الشعب التركي، ينحدر من أسرة فقيرة ماديا ثرية قيميا ومعنويا، ولأن الرجل يحمل غير قليل من شرف الكبار وتواضع العظماء، لم يتنكر لوسطه الذي نشأ وترعرع فيه، ولم يدر ظهره لضعف الحال وقلة ذات اليد التي عاشها في طفولته، كما يفعل كثير من صغار الأحلام وضعيفي النفوس، ولذلك نرى الرجل يتحدث عن كفاح الطفولة في مناظرة تلفزيونية بينه وبين دنيز بايكال رئيس الحزب الجمهوري التركي، في عز الانتخابات البرلمانية، حيث يقول: "لم يكن أمامي غير بيع البطيخ والسميط (نوع من الخبز التركي) في مرحلتي الابتدائية والإعدادية، كي أستطيع معاونة والدي، وتوفير قسم من مصروفات تعليمي، فقد كان والدي فقيرًا". وقد ظل الأتراك يتناقلون كلامه وصدقه بكثير من الإعجاب، فقد دلهم على رجولة مبكرة وكفاح نادر، أهلا الرجل لتحمل المسؤولية، والإحساس بهموم الشعب، وفقه الواقع التركي من كثب. 2- الحال قبل المقال والإنجازات قبل الشعارات. فاز أرودغان برئاسة بلدية اسطنبول في العام 1994، فوضع خطة شاملة للنهوض بالمدينة، وعمل على تطوير البنية التحتية، وبناء السدود، ومعامل تحلية مياه الشرب، وقام بتطوير أنظمة المواصلات بالمدينة بإنشاء شبكة مواصلات قومية عصرية، كما قام بتنظيف الخليج الذهبي (مكب نفايات سابقا)، فحوله إلى معلم سياحي كبير، وبذلك استطاع أرودغان تحويل مدينة اسطنبول إلي وجهة سياحية عالمية، فانتشل بلدية اسطنبول من ديونها التي بلغت ملياري دولار إلى أرباح واستثمارات ونسبة نمو بلغت 7%، بفضل عبقريته ونظافة يده وقربه من الناس، لاسيما العمال الذين رفع من أجورهم ومكنهم من التغطية الصحية والاجتماعية، الأمر الذي أكسبه شعبية كبيرة في أنحاء تركيا
3- الأوراش الاقتصادية الكبرى والمصالحات التاريخية. بعد توليه لرئاسة الوزراء، عمل على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخي، وكذلك فعل مع اليونان، وفتح جسورا بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدد من الدول العربية ورفع تأشيرة الدخول، وفتح أبوابا اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مع عدد من بلدان العالم، وأصبحت مدينة إسطنبول عاصمة للثقافية الأوروبية عام 2009، وأعاد لمدن وقرى الأكراد أسماءها الكردية بعدما كان ذلك محظورا، وسمح رسميا بخطبة الجمعة باللغة الكردية. عندما تسلم حزب العدالة والتنمية التركي السلطة سنة 2002، كانت نسبة النمو الاقتصادي تساوي 9.4 % تحت الصفر (-9.4)، لكن حكوماته سجلت أرقاماً نمو قياسية، جعلت تركيا تحقق في غضون 9 سنوات من الحكم، أكثر مما تحقق في السنوات ال79 الأولى من تأسيس الجمهورية التركية، إذ انتقلت نسبة النمو من 5.9 % عام 2003 إلى 9.99 % في 2004 ، قبل أن تنخفض بنحو صاعق إلى 1.1 % بسبب الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، لكن التعافي سرعان ما عاد للاقتصاد التركي، بحيث بلغ النمو 8.9 % عام 2010، ليستقر على 7 % من سنة 2010 حتى اليوم، وهي نسبة غير موجودة في أي من الدول ال27 للاتحاد الأوروبي. وأما بالنسبة للتضخم، فقد انخفض من 70.8 % في 2002، إلى 18.4 % عام 2003 ، ف 9.3 % في 2004 ، و6.4 % عام 2010، وصولاً إلى 3.99 % سنة 2011، وهو ما لم يحصل في تركيا منذ نصف قرن. وفي سنة 2009 مثلاً، كان لدى تركيا احتياطات من النقد الأجنبي أكبر بثلاثة أضعاف مما كانت عليه في العام 2002. أضف إلى ذلك أن حجم الاقتصاد التركي كان لا يتجاوز في مجموعه 250 مليار دولار أميركي في 2002، بينما تضاعف الناتج المحلي الإجمالي السنوي لتركيا اليوم حوالي أربع مرات، ليتجاوز تريليون دولار، وليضع تركيا في المرتبة 16 عالميا، ضمن لائحة القوى الاقتصادية الصاعدة. نفس الارتفاع عرفه الدخل الفردي السنوي الذي يناهز اليوم 11 ألف دولار للفرد الواحد، بينما لم يكن يتعدَّى 3300 دولار عند وصول الحزب الحاكم إلى السلطة. 4- معالجة جروح الماضي وتقوية الجبهة الداخلية. في 23 نوفمبر 2011، وخلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية في أنقرة، قدم أردوغان اعتذارا رسميا تاريخيا باسم دولة تركيا إلى الأكراد العلويين، حول الأحداث المأساوية التي وقعت بين سنوات (1936- 1939) في منطقة درسيم، والتي ارتكبتها الحكومة التركية آنذاك ممثلة بالحزب الجمهوري بحقهم في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وقوبل هذا الاعتذار بترحيب كبير من قبل رئاسة إقليم كوردستان، التي رحبت بتصريحات أردوغان وقالت: "إن هذا التصريح يدفع بعملية الانفتاح الديمقراطي في تركيا إلى مرحلة أكثر تقدما". 5- تبني القضايا العادلة ومناصرة الشعوب المستضعفة. في حرب غزة في العام 2009، كان موقف أردوغان "حازمًا" ضد خرق إسرائيل للمعاهدات الدولية وقتلها للمدنيين أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزة، فقد قام بجولة في الشرق الأوسط تحدث فيها إلى قادة الدول بشأن تلك القضية، وكان تفاعله واضحاً مما أقلق الصهاينة ووضع تركيا في موضع النقد أمام إسرائيل وحلفائها، وقال رجب أردوغان بالواضح الصريح: "إني متعاطف مع أهل غزة". وفي 29 يناير 2009، غادر أردوغان منصة مؤتمر دافوس احتجاجًا على عدم إعطائه الوقت الكافي للرد على شمعون بيريز الرئيس الصهيوني بشأن الحرب على غزة، بعد أن دافع بيريز عن إسرائيل وهاجم حماس، وتكلم عن موضوع صواريخ القسام التي تطلق على المستوطنات، وتساءل بصوت مرتفع وهو يشير بإصبعه عما كان أردوغان سيفعله لو أن الصواريخ أُطلقت على إسطنبول كل ليلة، وقال: "إسرائيل لا تريد إطلاق النار على أحد لكن حماس لم تترك لنا خيارا". رد أردوغان على أقوال بيريز بقوة، وقال: "إنك أكبر مني سناً، ولكن لا يحق لك أن تتحدث بهذه اللهجة والصوت العالي الذي يثبت أنك مذنب"، وتابع: "إن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في شواطئ غزة، ورؤساء وزرائكم قالوا لي إنهم يكونون سعداء جداً عندما يدخلون غزة على متن دباباتهم". ولم يترك مدير الجلسة الفرصة لأردوغان ليكمل رده على بيريز، فانسحب رئيس الوزراء التركي بعد أن خاطب المشرفين على الجلسة قائلا: "شكراً لن أعود إلى دافوس بعد هذا، أنتم لا تتركونني أتكلم وسمحتم للرئيس بيريز بالحديث مدة 25 دقيقة وتحدثت نصف هذه المدة فحسب"، وأضاف أردوغان في المؤتمر الذي عقد بعد الجلسة إنه: " تحدث 12 دقيقة خلال المنتدى كما تحدث الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بدوره 12 دقيقة، غير أن بيريز تحدث 25 دقيقة، ولما طلب التعقيب عليه منعه مدير الجلسة". احتشد الآلاف ليلاً في مطار إستنبول لاستقبال رجب طيب أردوغان، بعد ساعات من مغادرته مؤتمر دافوس، حاملين الأعلام التركية والفلسطينية ولوحوا بلافتات كتب عليها: "مرحبا بعودة المنتصر في دافوس"، و"أهلا وسهلا بزعيم العالم"، وعلقت حماس على الحادث بالقول: "على الحكام العرب أن يقتدوا به". وفي سنة 2010، دعم أردوغان أسطول الحرية المتجه إلى غزة لكسر الحصار عن أهلها، وهو المكون من ست سفن: ثلاث سفن تركية، وسفينتين من بريطانيا، بالإضافة إلى سفينة مشتركة بين كل من اليونان وأيرلندا والجزائر والكويت، تحمل على متنها مواد إغاثة ومساعدات إنسانية، بالإضافة إلى نحو 750 ناشطا حقوقيا وسياسيا، بينهم صحفيون يمثلون وسائل إعلام دولية، وقد قامت جمعيات وأشخاص معارضون للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ العام 2007، ومتعاطفون مع شعبه بتجهيز القافلة وتسييرها، وفي مقدمة المنظمين لرحلة أسطول الحرية مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية، وتعرض الأسطول لهجوم مباغت من الجيش الإسرائيلي، وقتل فيه عدد من المتضامنين مع غزة أغلبهم من الأتراك. ولن ينسى التاريخ لأردوغان موقفه المبدئي وقوفه المشرف إلى جانب الشرعية في مصر، بعد انقلاب العسكر على الديموقراطية واغتصابهم للسلطة، وارتكابهم لمجزرتي رابعة والنهضة، وزجهم بالرئيس المنتخب وأنصاره في السجون، حيث كان أردوغان في مقدمة المعارضين للانقلاب المنتقدين لممارساته الوحشية وأساليبه الهمجية في قمع المظاهرات السلمية وفي معاملة الخصوم السياسيين، أمام مرأى ومسمع الأممالمتحدة والمنظمات الدولية والغرب المنافق، فمثل الموقف التركي موقفا إنسانيا وأخلاقيا كبيرا أحرج الانقلابيين وأعوانهم، وخاصة عندما خاطب قادة العالم في كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة بالقول: "لا يشرف منظمة دولية كهذه أن تستقبل الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلابات".
هكذا جمع أردوغان بين الحنكة السياسية والحس الإنساني والأخلاقي، فكان بذلك نموذجا لاقتران السياسة بالأخلاق، وردا عمليا على الذين صدعوا رؤوسنا بكون السياسة لا يمكن أن تنجح وتثمر إلا بفصلها عن الدين وتجريدها من الأخلاق، فهاهو الرجل قد جمع بين القوة والأمانة، وبين الحفظ والعلم، وبين الأخلاق والسياسية، ثم هاهو يحقق الإنجازات تلو الإنجازات، والفتوحات تلو الفتوحات، والملاحم تلو الملاحم، ولقد سئل مرة عن نجاحه، فأجاب: "ببساطة لأن أردوغان لا يسرق المال العام".