أصبحت الجهوية -منذ الخطاب الملكي الأخير- الموضوع الرئيس في النقاش السياسي المغربي إن على المستوى الأكاديمي أو الإعلامي أو الحزبي. لكن ما لم يناقش بما فيه الكفاية هو ما معنى أن تكون الجهوية مغربية مغربية؟ هل ستكون نموذجا خاصا بالمغرب؟ هل هي مغربية في الأسس؟ في الآليات؟ في الأهداف؟ أم في ماذا؟ مبدئيا يجب التأكيد من أنه لا يوجد نموذج وحيد وموحد للجهوية، لكن ذلك يجب ألا ينفي وجود قواسم مشتركة بين نماذج الجهويات في عدد من الدول. وبالنسبة إلى الخطاب السياسي والأكاديمي والإعلامي المهتم بالجهوية لم يحسم في التمييز بين مفهومي الجهورية الموسعة والجهوية المتقدمة وإن كانت المؤشرات تشير إلى أن المغرب سينتقل من جهوية إدارية إلى جهوية سياسية، أي جهوية تدعم اللاتمركز عبر انتخاب ممثلين على مستوى الجهات ومنحهم بعض الصلاحيات لتدبير بعض الملفات تحت وصاية مركزية. وقد جاء الخطاب الملكي واضحا في هذه المسألة حينما تحدث عن جهوية موسعة مغربية-مغربية للحفاظ على وحدة الدولة في إطار من التضامن والانسجام الوطنيين. وهو ما يعني أن المغرب لن يستنسخ التجربة الإسبانية أو الألمانية أو الفرنسية... لكونها نماذج تؤسس لحكم فيدرالي يمنح الجهات الاستقلال المالي والدستوري والتشريعي والإداري، وهذا لن تقبله المؤسسة الملكية التي لن تتنازل عن الشق الدستوري والتشريعي لإيمانها بأن هذه النماذج قد تضعف النظام ومؤسساته المركزية ويمكنها تعزيز مطالب انفصالية، وهنا تكمن الإشكالية، لأنه من أهم أبعاد الجهوية الموسعة المقترحة التي أعلن عنها الخطاب الملكي هو تعزيز وصون وحدة المغرب الترابية، لذلك فإن دور السلطات المركزية سيبقى حاضرا –بقوة- في تدبير القضايا الحساسة والكبرى. وعلى هذا الأساس فإن اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الجهوية لن تستنسخ نموذج إسبانيا (دستور 1978)، أو نموذج ألمانيا (دستور1949) أو نموذج إيطاليا (دستور 1948)، أو النماذج الفرنسية أو البلجيكية التي تشجع على الانفصال عبر إضعاف النظام المركزي ومؤسساته المركزية. والأكيد أن هذا اللاتمركز قد يؤدي إلى التخفيف من عبء السلطات المركزية دون إلغاء الطابع المركزي للدولة. ذلك أنه إذا كنا نتحدث عن الجهوية السياسية بالمعنى الدقيق فإن ذلك سيتطلب إصلاحات دستورية جوهرية وليس شكلية، وهذا النوع من الجهويات هو النموذج الأرقى والموجود في عدد من الدول الديمقراطية. وفي هذه الحالة تمثل الجهوية سلطة سياسية حقيقية متميزة عن سلطة الدولة، وتتشكل بصفة ديمقراطية وبموارد بشرية لا تتوفر على اختصاصات إدارية فقط لتدبير الشأن المحلي، وإنما أيضا على اختصاصات تشريعية وتنظيمية محددة دستوريا. وعليه، فالجهوية بمعناها السياسي الدقيق سلطة لها إطارها القانوني وطرق عملها وقد تتقاسم مع السلطة المركزية الوظائف السياسية، خاصة في الميدانين التشريعي والتنظيمي. وعلى هذا الأساس، فالانتقال الحقيقي إلى دولة الجهات لا يعني إقامة مجموعة من الجهات تتمتع باستقلالية عن المركز في بعض المجالات المحددة أو تلك المفوضة لها من قبل السلطة المركزية، بل منح الجهات صلاحيات وسلطات دستورية للارتقاء بنظام الجهة إلى مستوى متقدم من اللامركزية في إطار الدولة الموحدة، بمعنى الانتقال من الجهوية الإدارية المعمول بها في المغرب إلى الجهوية السياسية المحددة دستوريا. ومن المؤكد أن خيار الجهوية المعمول بها حاليا، والتي تحكمت في هندستها اعتبارات أمنية، من شأنها أن تعرف تغييرات على مستويات الأسس والآليات والأهداف وإنتاج نخب جديدة مختلفة عن النخب الحالية المحلية أو الجهوية الموزعة بين الأعيان أو تلك التي تفرزها الإدارة. إن أي خيار جهوي سيختاره المغرب سواء كانت جهوية سياسية بالمعنى الدقيق، وهي مستبعدة حسب مضمون الخطاب الملكي، أو الجهوية الإدارية فإن ذلك يستدعي إعادة النظر في وظيفة المؤسسات المحلية وأقصد الجماعة والمقاطعة ومجلس المدينة والجهة والقوانين الانتحابية ومؤسسة الوالي أو العامل ودور الأحزاب والمؤسسات الوطنية أي البرلمان بغرفتيه، الأمر الذي يتطلب عدم اعتبار الجهوية خيارا تقنيا أو تعديلا محدودا في الوثيقة الدستورية، بل تغييرا في فصل السلط والتمثيل السياسي وشكل الدولة، وهي أبعاد لا يمكن لتعديل دستوري متحكم فيه أن يجيب عنها، وهذا ما تجسد في كل التعديلات الدستورية لسنوات 92-95-96. إن الأمر يتعلق هذه المرة بتعديل دستوري عميق محتكم إلى السلطة المؤسساتية المبنية على احترام السيادة الشعبية وفصل السلط وإقرار حقوق الإنسان. وأشير بهذه المناسبة إلى أنني تابعت باهتمام النقاشات والندوات التي عقدت حول الجهوية، لكن ما أثارني في جلها هو ما يلي : 1- لم تطرح الأحزاب السياسية عامل الزمن أثناء مطالبتها بتقديم مذكراتها إلى اللجنة الاستشارية، لأنه كيف يطلب من الأحزاب أن تقدم مقترحاتها حول مسألة مصيرية للبلاد كالجهوية في سقف زمني قصير قياسي جدا. 2- لم تستشر جل الأحزاب قواعدها المحلية أو الجهوية ولم تفتح معها نقاشات، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي نظم ندوات بعدة جهات. 3- هل المدة الزمنية التي حددها الخطاب الملكي للجنة الاستشارية كافية لتقديم مشروع جهوي استراتيجي؟ 4- هل ستجد الأحزاب السياسية على مستوى الجهوي والمحلي الموارد البشرية المؤهلة لأن تكون في مستوى الجهوية خطابا وثقافة ومنهجا وفلسفة وسلوكا سياسيا وإيديولوجيا؟ هل السلطات المحلية قابلة أن تبتعد بسهولة عن السلطة بمفهومها المغربي؟ 5- ما هو مصير المؤسسات المنتخبة القائمة حاليا بعد تقديم اللجنة الاستشارية مشروعها حول الجهوية إلى جلالة الملك؟ 6- لم تتعرض إلى الإكراهات الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تعترض أجرأتها، خصوصا أن عددا من الدول التي سبقت المغرب في نهج خيار الجهوية انتظرت سنوات وسنوات قبل تطبيقها ويمكن أن نستحضر في هذا السياق التجربة الجهوية بإيطاليا التي بدأت سنة 1947 والتي لم يتم تطبيقها إلا سنة 1970.