خلال بداية الخمسينيات من القرن الماضي، عاش المغرب لحظات تميزت بأحداث دموية واسعة النطاق، خاصة بعد إقدام الإدارة الاستعمارية الفرنسية على نفي الملك الراحل محمد الخامس إلى خارج الوطن. وخلال هذه المرحلة، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على السياسة القمعية للمستعمر الفرنسي منذ التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912. وفي هذا الحوار، يرسم لنا المقاوم البيضاوي «عبد القادر بهيج» بعض الأحداث الدموية التي حملت توقيع «الهلال الأسود»، وكيف ساهمت في الضغط على المستعمر وكل من كان يتعاون معه، حتى يغير من سياسته والتعامل مع الوضع الجديد. وتطرق عبد القادر بهيج إلى ظروف وملابسات اعتقاله واغتياله رفقة العديد من أفراد التنظيم السري «الهلال الأسود».
*كيف جاء انخراطك في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي بالمغرب؟ **كنت أشتغل بمعمل للدباغة، قريب جدا من الوحدة الصناعية «كارنو» المتخصصة في التعليب المعدني بالدار البيضاء. وخلال فترة الاستراحة الزوالية، يجتمع العمال في ساحة واسعة من أجل تناول غذائهم والاستمتاع بقيلولة قصيرة قبل العودة إلى مواصلة عملهم. وذات يوم، جاءني (فلان) الذي لم تكن تربطني به أية قرابة عائلية أو صداقة.. جلس (فلان) قريبا مني، ينتظر الفرصة المناسبة ليشاركني الحديث.. لم أعره، في بداية الأمر، أي انتباه لأني ظننته واحدا من العمال الذين يشتغلون في واحد المعامل التي كانت تضمها هذه المنطقة الصناعية. غير أن (فلان) سرعان ما تجرأ علي، وجعل المسافة الفاصلة بيني وبينه ضيقة جدا. قال لي إنه يرغب في أن يتحدث إلي على انفراد وبعيدا عن مسامع كل من يوجد في الساحة. ودون أي تردد، سألته عن الموضوع الذي يرغب في أن يحدثني عنه..؟ كان جوابه أكبر من سؤالي، حيث شرع في وصف الحالة التي تعيشها بلادنا خاصة بعد نفي الملك محمد الخامس إلى خارج أرض الوطن، وأن الوضعية صعبة جدا ولا تبشر بالخير، وبالتالي نحن مطالبون بالنضال والمقاومة والتضحية من أجل عودة الملك وتحقيق الاستقلال... مرة أخرى، وجدتني أطرح على محدثي (فلان) سؤالا ثانيا لا يختلف عما سبقه: «ما المطلوب مني شخصيا؟.. وكيف تريدنا مواجهة المستعمر الفرنسي ونحن لا نملك سلاحا..؟». كان جوابه سريعا وجاهزا ولا يحتمل الشرح أو التفسير: «كل شيء موجود، فقط أنت مطالب بالانخراط في تنظيمنا السري إلى جانب خمسة أشخاص آخرين أبدوا استعدادهم لذلك». حاولت أن أعرف من (فلان) كيف استطاع الوصول إلي ودعوتي لهذه المهمة التي بدت لي خطيرة منذ الوهلة الأولى.. رد علي بأنه يسكن قريبا من منزل عائلتي بدرب السلطان، ويعرف كل الشبان الذين يجاورونني واحدا واحدا... بعد مرور فترة وجيزة من هذا اللقاء الأول، حضرت اجتماعا سريا بمنزل السيدة فاطمة التهامي خلال بداية الخمسينيات من القرن الماضي (1953).. وأذكر جيدا أن هذا الاجتماع حضره السيد «عبد الهادي»، الذي كان قياديا في حزب الشورى والاستقلال ومنخرطا في الكشفية.. هذا الأخير ألقى أمامنا خطابا لجعلنا أكثر حماسة في هذه «المهمة الوطنية»، ثم طلب منا، بعد الموافقة المبدئية على الانخراط في التنظيم السري، أن نجعل القرآن الكريم عقدا بيننا.
* ما هي العملية الأولى التي قمت بها؟ بعد الاجتماع الأول والثاني والثالث... بدأ التنظيم السري في التحضير لتنفيذ عمليات اغتيال بعض الأشخاص «الخونة»، الذين كانوا يمثلون سندا للسلطة الاستعمارية بالدار البيضاء، ويساعدونها على تطبيق سياستها القمعية تجاه المغاربة ولاسيما المقاومين والحركيين. أول عملية اغتيال قمنا بها خلال الأشهر الأولى من ميلاد التنظيم السري، تمثلت في اغتيال أحد مفتشي الشرطة بدرب السلطان، نظرا لأنه كان شخصا مكلفا بمهمة من طرف الإدارة الاستعمارية.. كشف لنا «عبد الهادي» عن خطة تجريد مفتش الشرطة من مسدسه واغتياله دون إثارة الانتباه. وفعلا كنت واحدا ممن شارك في تنفيذ هذه العملية الأولى إلى جانب أعضاء من التنظيم السري. بعد نجاح العملية، اجتمعنا مرة أخرى بمنزل المولدة فاطمة التهامي، حيث التحق بنا في الاجتماع شخص كان يلقب ب«حسن» ذو خبرة عسكرية طويلة.. هذا الأخير سيشرف على تلقيننا مجموعة من القواعد العسكرية التي يجب أن نتسلح بها خلال تنفيذنا لعمليات الاغتيال.. وكانت الدروس الأولى خاصة بمعرفة استعمال السلاح سواء كان بندقية أو مسدس. *أين كانت تتم اجتماعات تنظيمكم؟ كانت اجتماعاتنا تتم في جل الأوقات ليلا وبعيدا عن أعين الجواسيس والإدارة الفرنسية، بل إننا كنا حريصين كل الحرص على كتمان الأسرار وعدم مخالطة الأماكن العمومية أو الحديث عن التنظيم وأفراده. إذا كان منزل السيدة فاطمة التهامي قد احتضننا في بداية ولادة التنظيم السري، فإن منطقة «لارميطاج» ستصبح هي الجهة الجديدة التي نعقد فيها اجتماعاتنا ولقاءاتنا قبل وبعد كل عملية نقوم بها. *ما هي العمليات الأخرى التي شاركت فيها؟ ستتواصل اجتماعاتنا في أماكن سرية للغاية تحت إشراف مؤطري التنظيم السري.. وفي أحد الاجتماعات، أخبرنا بضرورة الاستعداد لتنفيذ عمليات جديدة تستهدف شخصيات لها علاقة بالإدارة الاستعمارية، حيث تم تحديد خمسة أهداف تشترك كلها في خيانة الوطن[أغلبهم رجال شرطة].. ويتعلق الأمر بكل من: (..) و(..) و(..) و(..) و(..).. وهنا لابد لي من الإشارة إلى أن بعضهم استطاع أن يبقى على قيد الحياة [يمتنع عبد القادر بهيج ذكر أسماء مفتشي الشرطة المستهدفين]. كما أننا قمنا بوضع خمس قنابل يدوية الصنع في كل من: إدارة التبغ، إدارتين للأمن (السابعة والثامنة) ومدير إدارة التبغ والأخيرة كانت بدر الشرفا حيث استهدفنا بها مفتشا للشرطة. إضافة إلى قنبلة سادسة وضعناها بسوق «الجميعة» القريب من منطقة الأحباس، وقنبلة سابعة بناحية «بوسبير». * ماذا تعرف عن تنظيم «الهلال الأسود»؟ **إن هذا التنظيم الذي قررت الانخراط فيه، حمل في البداية اسم «النصيح» قبل أن يتحول إلى اسم «الهلال الأسود».. إنه امتداد لتنظيم «اليد السوداء»، الذي يعتبر بمثابة المنظمة الأم لكل التنظيمات السرية إبان الاستعمار الفرنسي. تأسس «الهلال الأسود» سنة 1954 من طرف مجموعة من الأشخاص على رأسهم: محمد الحداوي، عبد الله الحداوي، لحسن الكلاوي، المهدي الناموسي، أحمد شفيق، عمر ماكري، إضافة إلى أسماء أخرى... وضم التنظيم في صفوفه عددا كبيرا من الشبان الذين كانوا لا يؤمنون إلا بالعمل المسلح من أجل طرد المستعمر الفرنسي واستقلال المغرب وعودة الملك محمد الخامس إلى عرشه. وأعتقد أن لحسن الكلاوي هو صاحب فكرة اختيار «الهلال» و«البندقية» رمزا للتنظيم.. كما أنه لا بد لي من الإشارة إلى أن أغلب أفراد «الهلال الأسود» كانوا يشتغلون في القاعدتين العسكريتين الأمريكيتين بالنواصر والقنيطرة. * ما هي مصادر تزويد تنظيمكم بالأسلحة؟ ** كنا نحصل على السلاح من مصادر متعددة ومتنوعة.. فبالإضافة إلى الأسلحة التي نستحوذ عليها بعد استهداف حامليها، استطعنا التزود بأسلحة من طرف بعض تجار «الكيف» الموجودين بشمال المغرب، والذين كانت لهم القدرة على تهريب أي شيء من هذه المنطقة الخليفية. وسيلاحظ القارئ أن الأسحلة التي اعتمدنا عليها في بداية تنفيذ العمليات كانت تقليدية الصنع، حيث كان يساعدنا أحد البيضاويين الذي يقطن بدرب الكبير، على تركيبها بعد الحصول على كل المواد الضرورية في ذلك. * ما هو الدور الذي كنت تقوم به داخل هذا التنظيم السري؟ **أنا واحد من الأسماء التي انخرطت في «الهلال الأسود» وعمري لم يتجاوز العشرين سنة. وكما سبق لي أن شرحت لكم ظروف انخراطي هذا، فإنني أصبحت عنصرا أساسيا واكتسبت ثقة لدى مؤسسي التنظيم، حيث كنت أحافظ على أسرار الاجتماعات وخطط العمليات و تأطير الشباب وإقناعهم بالانضمام إلينا.. لم تكن هذه المهام بالسهلة في ظل الظروف التي كنا نعيش فيها خاصة وأنني أقطن بمنطقة مكتظة بالسكان ومراقبة من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية بمعية «الخونة» ومختلف الجواسيس. ومن المهام التي أنيطت بي آنذاك هي حمل القنابل من مصادر تصنيعها إلى منفذي العمليات. وكانت دراجتي الهوائية الوسيلة الوحيدة التي تساعدني على تحقيق هذا الهدف، أحمل القنبلة من درب الكبير إلى درب السلطان متجاوزا المراقبين العسكريين والأمنيين، وحتى المخبرين الذين كانت أعينهم تراقبنا ليل نهار. وفي كثير من المناسبات، حولت منزل الأسرة إلى مخزن سري لهذه القنابل والأسلحة، مع العلم أن أسرتي لم تكن على علم بنضالي داخل «الهلال الأسود».. فالسرية والإيمان بالقضية الوطنية هما سلاحي في ضمان سلامتي وسلامة التنظيم السري نفسه.
* ما هي ظروف وملابسات اعتقالك؟ ** قرر التنظيم السري تنفيذ عملية واسعة بمنطقة الملاح وسط المدينة القديمة بالدار البيضاء، بعد أن امتنع التجار عن إغلاق محلاتهم التجارية ذات يوم جمعة كما جاء في منشور سري وزعه عليهم التنظيم السري. كانت الخطة تقوم على وضع أربع قنابل في أمكنة مختلفة بالمنطقة وفي ساعة محددة، لكن أن فردا من التنظيم سارع إلى وضع القنبلة قبل الموعد مما أدى إلى انفجارها وفشل العملية برمتها. ألقي القبض على واحد منا فكان سببا مباشرا في سقوط كل الأفراد الآخرين واحدا تلوى الآخر.. أما بالنسبة لي، فلم تمض أربعة أو خمسة أيام حتى حاصر الجنود الفرنسيون منزل والدي ليلا من أجل إلقاء القبض علي باعتباري من المتهمين الأساسيين في حادثة «الملاح». لم أبد أية مقاومة تجاه العناصر العسكرية، بل استسلمت لهم ونفذت كل ما كانوا يطلبونه مني. وهنا أتذكر جملة قالها أحد أعوان المستعمر: كيف لهذا الصغير أن يقوم بمثل هذه العمليات..؟ مارست علينا العناصر الأمنية والعسكرية أبشع مظاهر التعذيب والتنكيل خلال وأثناء وبعد الاستنطاق والتحقيق.. أما كبار السن منا، فكان نصيبهم أكبر وأشد عنفا وضراوة. ومن الصعب جدا أن أصف لكم هذه اللحظات التي عشتها أثناء اعتقالي، وإذا ما استطعت أن أبقى على قيد الحياة فذلك أمر رباني...
* كيف استطعت الفرار من سجن «أغبيلة» بالدار البيضاء؟ ** سيناريو الفرار من المؤسسة السجنية «اغبيلة» بالدار البيضاء، طويل جدا ويحتاج إلى مساحة أكبر لسرد تفاصيله.. المهم، بعد أن قضيت حوالي أربعة أشهر خلف أسوار «أغبيلة»، توصلت برسالة تتضمن كل التفاصيل التي يجب اتباعها من أجل الفرار من السجن والتوجه نحو مدينة القنيطرة. وكان موضوع الفرار هذا لا يخصني وحدي وإنما يتعلق بسجناء آخرين ومن بينهم: لحسن الكلاوي والمهدي بودينة ومحمد بلكبير...إلخ. وبفضل حارس السجن عبد القادر لكحل، تمت عملية الفرار بنجاح حيث تم إخفاؤنا في سيارة كانت تنتظرنا خلف «أغبيلة»، فاتجهنا مباشرة إلى ضيعة فلاحية تقع شمال مدينة القنيطرة، وتحديدا بالقرب من منطقة «مولاي بوسلهام». *ما هي تفاصيل اقتحامكم للقاعدة العسكرية الأمريكيةبالقنيطرة والاستيلاء على أسلحتها؟
**خلال اليومين اللذين قضيناهما بالضيعة الفلاحية، اتصل بنا جنود مغاربة من أجل أن يلقنوننا بعض الدروس والتوجيهات والتعليمات التي سنحتاجها في المستقبل، كما أنها تنبهنا إلى ضرورة أخذ الحيطة الحذر وإلا كان مصيرنا السجن أو الموت. أول عملية تم برمجتها في مقامنا الجديد بالقنيطرة، تمثلت في الاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة الموجودة داخل القاعدة العسكرية الأمريكية، ونقلها إلى الخارج عبر شاحنات كانت في الانتظار. هذه الأسلحة المختلفة الأشكال والأنواع وزعت على جهات معينة من بينها التنظيمات السرية ل«الهلال الأسود» وجيش التحرير بالتنسيق مع كل من عبد الله الحداوي والمقاوم بلميلودي وعباس المساعدي. وقد ساهمت هذه الأسلحة في تقوية تنظيمنا السري وتحوله إلى رقم صعب في المعادلة السياسية خلال هذه الفترة من تاريخ المغرب.
*هل سبق لك أن تعرضت لمحاولة الاغتيال خلال انخراطك في «الهلال الأسود»؟
**مثل كثير من أفراد هذا التنظيم السري، تعرضت فعلا لمجموعة من محاولات التصفية الجسدية من طرف أشخاص يشتغلون إلى جانب الإدارة الاستعمارية. وهناك ثلاث محاولات اغتيال استهدفتني خلال هذه المرحلة التي قررت فيها الانخراط في التنظيم السري ل«الهلال الأسود». وفي كل مرة، كان الله عز وجل يطيل عمري وينقذني من أيادي الخونة وأذناب المستعمر الفرنسي. بل إن الانتقام من عناصر التنظيم ستستمر حتى بعد استقلال المغرب سنة 1956. وهي الفترة التي اتسمت باحتدام الصراع بين الأشقاء داخل حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال على وجه الخصوص.. وفي هذا الصدد لا بد لي من التذكير بالاغتيالات التي طالت كلا من محمد بلكبير وقاسم القنيطري، محمد بن زاكور، مصطفى السربوتي، عبد السلام الفاكتور، حسن الحداوي، عبد الله الحداوي. هكذا أصبح أفراد تنظيمنا السري غير مرغوب فيهم وتحولنا إلى أعداء يجب قتلهم أو تكليف السجن بذلك. أشكر الله على أنه أرادني أن أبقى على قيد الحياة حتى أحكي لكم هذه القصة الممزوجة بدموع الفرح تارة وبدموع الحسرة والألم تارة أخرى، لكني أغتنم هذه الفرصة للتأكيد على أن هذا التاريخ لا يمكن أن تهمله الذاكرة الوطنية وتلقي به في بحر النسيان، خاصة ونحن نعيش هذه الأيام الذكرى السابعة والسبعون لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.