بوريطة في منتدى تحالف الحضارات: تحت قيادة جلالة الملك لم يقتصر المغرب على الإشادة بالحوار بل جسده على أرض الواقع    فرنسا: نتانياهو يحظى "بالحصانة" بعد مذكرة الجنائية الدولية بتوقيفه    اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل يدخل حيز التنفيذ    منتخب التايكوندو يتوجه إلى هونغ كونغ للمشاركة في بطولة العالم للبومسي    غرفة الجنايات بطنجة تصدر أحكامها في قضية مقتل الطالب أنوار    تنسيق أمني يحبط محاولة بيع مجموعة من الحيوانات البرية والزواحف بشكل غير مشروع    درك الحسيمة يضبط 300 كيلوغرام من الحشيش في سيارة    احتفال عالمي بالتراث في الناظور: 3 أيام من الأناقة والثقافة بمشاركة الجالية وإسبانيا    المغرب واليابان يوقعان مذكرة تعاون في مجال تعزيز الاستثمار    خالد لحلو يترأس دورة المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بمكناس    فريق دونالد ترامب يوقّع اتفاقا مع البيت الأبيض لمباشرة عملية انتقال السلطة    بدء سريان وقف إطلاق النار بين "حزب الله" اللبناني واسرائيل    مباحثات مغربية أمريكية لتعزيز التعاون العسكري المشترك    من أطلق الشرعي؟    حركة سعيد شعو تدين لقاء الجزائر وتكشف خفاياه    دوري أبطال أوروبا: إنتر يتصدر والأتلتيكو يكتسح والبايرن يعمق جراح سان جرمان    بعد اتهامات ثقيلة..أوزال رئيس الرجاء الأسبق يودع سجن عكاشة    نتائج مباريات الجولة الأولى من مجموعات دوري أبطال أفريقيا    أداء إيجابي في تداولات بورصة الببضاء    البنك الدولي يمنح المغرب 250 مليون دولار لدعم برنامج جمع النفايات الصلبة في المدن        السجن يستقبل رئيس الرجاء السابق    الذهب يصعد مع تراجع الدولار قبل صدور بيانات التضخم الأمريكية    كدمات في رأس ووجه بيب غوارديولا بعد نهاية المباراة أمام فينورد بالأبطال    صاحب الجلالة يؤكد على ضرورة التوصل إلى الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار بقطاع غزة    انتخاب الاستقلالي الفخاري رئيساً لغرفة الصناعة التقليدية بجهة فاس - مكناس    ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء السياحي المصنفة تسجل ارتفاعا بنسبة 4 في المائة    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل ورش تعميم الحماية الاجتماعية وتنفيذ سياسات اجتماعية منصفة ومستدامة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    كيوسك الأربعاء | إجراءات زجرية ضد مروجي الأخبار الزائفة بمواقع التواصل الاجتماعي    قضاء الرباط يقرر عدم تسليم الدكتور الإمام لمصر    استثمارات ضخمة.. شركة الطرق السيارة بالمغرب تبدأ أشغال توسيع عقدتي عين حرودة وسيدي معروف        تركيا تعلق الدراسة في عدد من الولايات بسبب العواصف الثلجية    نادي الدفاع الحسني الجديدة لكرة الطائرة بالجديدة منتشه بانجازاته المتميزة خلال السنوات الاخيرة    المؤبد والسجن النافذ لمرتكبي جريمة قتل شاب في حي المطار بالجديدة    نقص حاد في دواء السل بمدينة طنجة يثير قلق المرضى والأطر الصحية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات        سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    حوار مع جني : لقاء !    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من درر "مغرب الأمس" الوطني .. المقاوم الشهيد محمد الزرقطوني
نشر في هسبريس يوم 15 - 06 - 2020

حدث وطني بوقْعٍ رمزي جمعي رفيع يحتفي به المغرب والمغاربة في ثامن عشر يونيو من كل سنة "اليوم الوطني للمقاومة"، ومن خلاله احتفاء بملحمة كفاح وزمن فداء من أجل الاستقلال هي بموقع خاص في ذاكرة البلاد والعباد، حظيت بالتفات وعناية معبرة خلال العقدين الأخيرين عبر ما حصل حولها ومن أجلها من نقاش وسؤال وبحث ودراسة وجمع وتجميع وتوثيق وتنوير وصيانة، وكذا من جدل بين باحثين ومؤرخين ومهتمين.
وعيا بقيمة الحدث الوطني وبما ينبغي من إنصات لذاكرة وطنية غنية برجالاتها ووقائعها وملاحمها ونبل أهدافها، وعرفانا بتضحيات وشهادة أعلامها وصناعها، وإجلالاً لأبطال ملحمة استقلال مليئة بعِبر، ومن أجل تلاقح أكثر وأهم بين أجيال وقيم مجتمع، ولجعل تاريخ البلاد الوطني ذي دور تأطيري وتعبئة في خدمة مواطنة ووطنية معاً، وتحسيساً بواجب ومسؤولية الجميع كل من موقعه تجاه صيانة وحماية إرث رمزي وكيان وشواهد وهوية وأمجاد، وعملاً بقول الله تعالى في سورة الذاريات "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"؛
من أجل كل هذا وذاك، ارتأينا إنجاز ورقة بمناسبة "يوم المقاومة" الوطني الذي يصادف ثامن عشر يونيو من كل سنة، والذي يؤرخ أولاً لاستشهاد أحد أبطال ملحمة الكفاح المسلح والفداء من أجل الاستقلال "محمد الزرقطوني" رحمه الله سنة 1954، وثانياً لوقفة تاريخية رمزية بأبعاد ودلالات معبرة على قبره من قِبل السلطان محمد بن يوسف بعد عودته من المنفى رضوان الله عليه في نفس هذا اليوم من سنة 1956 قائلاً: "لقد كنا في منفانا يشهد الله نتلهف شوقاً الى أخبار مقاومة أبطالنا، فكانت هي أنيسنا في نهارنا وسمرنا في ليلنا وكان يقيننا راسخاً في تلك المقاومة، وكنا أول من حمل مشعلها لتستفحل يوماً بعد يوم حتى تستأصل جذور الباطل، وها نحن اليوم نستظل بدوحة الحرية التي غرسناها وسقاها فدائيون بزكي دمائهم".
ولا شك أن كفاح المغاربة المسلح سنوات خمسينات القرن الماضي الأولى شملت كل جهات البلاد عبر عمل اتصال وتواصل تنظيمي كان يديره وطنيون بسبل وأساليب دقيقة محكمة، ما أفرز علاقات وأفكارا بين أفراد خلايا هنا وهناك بين مدن وبوادي من أجل هدف واحد أوحد لا غير "الاستقلال"، ولعل ما كان عليه هذا الهدف من وضوح بين وطنيين وفدائيين هو ما جعل هذه المرحلة من زمن مغرب المقاومة وهذه الملحمة بتميز وتنظيم واشعاع وأثر كبير.
وغني عن الإشارة ما طبع العلاقات المغربية الفرنسية زمن الحماية من توترات، اشتدت إثر عريضة مطالبة المغاربة بالاستقلال في 11 يناير 1944 وتأزمت أكثر مع خطاب طنجة بعد ثلاث سنوات، وهي التطورات التي انتهت إلى عزل سلطان البلاد ونفيه في غشت 1953. ومن ثمة ما حصل من ردود فعل وكفاح وفداء استهدف المستعمِر ومصالحه ورموزه، عبر توزيع مناشير ودعوات المقاطعة وتصفية المتعاونين وتفجير القنابل هنا وهناك لزعزعة الإدارة الاستعمارية وإدخال الرعب في جاليتها، فضلاً عما كان من أثر بليغ لعملية تفجير قطار بعد خروجه من نفق محطة الرباط باتجاه سلا، ولعملية قنبلة سوق مركزي بالدار البيضاء في دجنبر من السنة نفسها، ما خلف خسائر بشرية كبرى أربكت سلطات الحماية. ناهيك عن محاولتي اغتيال تعرض لهما ابن عرفة (سلطان معين)، الأولى قام بها الشهيد علال بن عبد الله الجرسيفي في شتنبر من نفس السنة بالرباط، والثانية، التي لم يكتمل هدفها بمراكش في آخر لحظة، هيأتها خلية فدائية من الدار البيضاء خلال مارس من السنة الموالية، وكان ضمنها الشهيد محمد الزرقطوني.
وبتأملنا في خريطة وقائع وتطورات وتنظيم كفاح المغاربة المسلح من أجل الاستقلال، يمكن القول إن محمد الزرقطوني شكل بحق عنوان مسار ومرحلة قائمة الذات تخص ملحمة وطن قبل أزيد من ستة عقود، وكانت وطنية شهيد الاستقلال هذا قد استمدت روحها من طبيعة نشأة وتنشئة اجتماعية وفكرية وأسرية، فضلاً عما انفتح عليه خلال فترة طفولة من أحداث وطنية جعلته بوعي مبكر وطاقة انخراط وتعبير عبر سبل عدة ومبادرات استهدف بها توسيع قاعدة الحس الوطني وتعبئة الشباب، في أفق ما يجب من ردود فعل ومقاومة للمستعمر.
وفي علاقة بملحمة كفاح المغاربة المسلح هذا من أجل استقلال البلاد، يبقى السؤال مطروحاً ومفتوحاً معاً حول كيف بدأ العمل من أجل الفداء بالدماء؟ ومن الذي أوحى به بهذا الأسلوب؟ وما الجهة التي انطلق منها؟ وكيف تسرب بدافع الحماس إلى جهات أخرى من البلاد؟ وهل كان التنظيم من وحي تخطيط شخص أو أشخاص أم جماعة؟ وهل ظروف البلاد الأمنية كانت تسمح بما حصل؟
أسئلة وغيرها ما تزال بحاجة إلى مزيد من التأمل والبحث والدراسة والتوثيق والتدقيق من أجل حقيقة تاريخية وطنية تنويرية أهم وأفيد.
ولا شك أن الدار البيضاء كانت ببيئة مشجعة على كفاح وطني مسلح، لِما كان بها من خلايا عمل فدائي وفدائيين، وكذا لِما كان بها من نشاط وتنشيط وطني قوي بين العمال منذ عدة سنوات عندما تم تأسيس حزب الاستقلال، بواسطة دروس محو الأمية بين هؤلاء وفي الأوساط الشعبية، علماً أنه وفق ما جاء في مذكرات معاصرين لوقائع وطنية وتفاعلات في ظرفية حرجة، كان عبد الرحمن اليوسفي رحمة الله أول من بدأ هذا الورش التعبوي الاجتماعي بعدما طرد من ثانوية مولاي يوسف بالرباط عام 1944 بسبب نشاطه الوطني. فضلاً عما أسهم به محمد الزرقطوني أيضاً في هذا المجال، بحيث كان له فضل في تقاسم هذه المهمة بالمدينة القديمة بالدار البيضاء.
وبحسب ما هناك من بحث وتوثيق وما ترتب من وثيقة شفوية، فإن ما حصل من عمل فدائي خلال هذه الفترة الدقيقة والحرجة من زمن المغرب الراهن، ارتبط بالسلاح والتنظيم معاً كخيار وسياق وتطورات أقلقت المستعمر، إنما بعيداً عما هو حزبي بل ومن غير أن يعرف بذلك رجالات الحزب، خاصة بعد 20 غشت 1953، علماً أن ما حصل من فداء وتدبير كفاح قام على أساس جماعتين بدأ عملهما بشكل مبكر، فهل كانت هناك مساحة تنسيق بين الجماعتين أم لا؟ ليس هناك ما يثبت ذلك اللهم ما كان يجمع من الصدفة والتربية والوطن والوطنية استمدت قوتها وروحها من النشأة والتنشئة والأسرة، فضلاً عن ظروف المعاناة في زمن حماية كانت عامل ربط بين هاتين الجماعتين اللتين ظهرتا في ميدان الكفاح المسلح، لعلهما جماعة مراكش من جهة، ومنظمة اليد السوداء بالدار البيضاء من جهة ثانية.
عن الشهيد محمد لزرقطوني رحمه الله وعن وقعه في بدء ملحمة الفداء هذه، ورد أنه قال يوماً لعبد الكريم الخطيب في آخر سنة 1953 إن بإمكانه تجنيد فرق من مغاربة عاملين في صفوف الجيش الفرنسي والقيام بعمل عسكري للسيطرة على أطراف من مدينة الدار البيضاء. ونظرا لِما لطبيعة الفكرة من مغامرة في علاقتها بما هو أمني وتكافؤ قوة مع المستعمر، تم نصحه بعمل مقاومة في الجبال، وهو ما دعا من أجله للقاء في منزل محمد منصور حضره محمد اوجار (بونعيلات)، وعبد الله الصنهاجي الذي أورد في مذكراته أن الزرقطوني كان ذا فكر تحرري، وأن أول لقاء معه كان في مقهى بدرب القريعة خلال أبريل 1951، مضيفاً أن من جملة ما تم الاتفاق عليه تنظيم خلايا كفاح ومقاومة مسلحة في الدار البيضاء خاصة، والمغرب عامة، إنما دون اعتماد على متحزبين سياسيين يعتقدون أن الكلام كاف للتفاهم مع المستعمر.
وعن درجة حضور الحزب في تنظيمات هذه الفترة الفدائية بالمغرب، من المهم الإشارة إلى أنه لما انحصر العمل السياسي الحزبي كان هناك فريقان، واحد منهما انسحب معتبراً أن الأحزاب باتت منتهية عاجزة عن مواجهة المستعمر وأن المقاومة المسلحة بديل حقيقي، وكان يتشكل في معظمه من أطر متوسطة، منهم البصري وابن سعيد والزرقطوني.
وبالدار البيضاء كانت هناك منظمتان فدائيتان؛ الأولى عرفت بمنظمة "اليد السوداء"، ورد أن مدبر أمرها وتسييرها كان هو "الطاهر المحمدي السكوري"، وكان يعمل كهربائيا في شركة السكة الحديدية بالمدينة، أما الثانية فكانت بالمدينة العتيقة، وكان يؤطرها وينظمها "الايوبي"، وأنهما معاً تكونتا بعدما تم حل حزب الاستقلال إثر أحداث دجنبر 1952، علماً أن منظمة اليد السوداء كان يطبعها ويحكمها ويؤطرها قانون ملزم لأعضائها منذ مارس 1953.
وفضلاً عما كان لأسماء هؤلاء الأعضاء من رموز مشفرة من باب الحيطة والحذر، فإن من جملة قانون وقناعة هذا التنظيم ضرورة الابتعاد عما هو حزبي والبحث عن السلاح استعداداً لكل طارئ. بل أعضاء هذا التنظيم الجدد كانوا يؤدون اليمين على المصحف لتنفيذ أوامر دون بوح بأي سر تنظيمي وأن كل إخلال يؤدي إلى الإعدام، وكان الذي يلقي اليمين ملتحفاً من رأسه إلى قدميه بثوب كي لا يتعرف عليه هؤلاء.
وورد أن تنظيم اليد السوداء بالدار البيضاء كان بحوالي ستين عضواً بعد نفي السلطان محمد بن يوسف رحمه الله، حيث تم الدخول في مرحلة تنظيم خلايا كان عددها أربعة على كل واحدة منها رئيس، هم بوجمعة العياشي وأحمد الراشدي وابراهيم بن محمد ثم عبد الحفيظ بن محمد، علما أن تنظيم اليد السوداء كانت له خلايا في كل من فاس والرباط وسلا، وقد قام بجملة عمليات فدائية قبل أن يكتشف أمره ويحال أعضاؤه بعد اعتقالهم على المحكمة، وهو ما تم في يونيو 1954 من خلال أحكام تباينت بين الإعدام والنفي والسجن مع أعمال شاقة.
وكانت القواعد والثكنات العسكرية مصدر سلاح الفدائيين المغاربة، فحوالي ثلاثمائة علبة متفجرة بحمولة كبرى ورد أنها اختفت من قاعدة النواصر الأمريكية بالدار البيضاء في يناير 1954، علما أنها كانت في مكان مضروبة عليه حراسة شديدة من جنود مسلحين وكلاب مدربة، ومحفوظة داخل صناديق حديدية من حجم كبير مقفلة. والشيء نفسه كان يحصل بمواقع عسكرية فرنسية بخصوص اختفاء قنابل. وفي إطار سبل توفير السلاح للفدائيين، ورد أيضاً أن فدائيا بالدار البيضاء تسلل إلى متجر سلاح واستولى على عدد منه، هكذا تعددت أساليب توفير ذخيرة الفدائيين الذين كانوا يعمدون لتخزينها في أماكن آمنة.
وكان الزرقطوني رحمه الله، الذي اشتغل لفترة بائعاً للثوب ثم في النجارة، قد انضم لأول خلية فدائية في أبريل 1951، جمعت كلاً من الحسين برادة ولحسن المختار العرائشي وسليمان رضا العرائشي والتهامي نعمان. بحيث عمل كل واحد من هؤلاء الخمسة على تكوين تنظيمات تابعة لهم، مع أهمية الإشارة إلى أن الزرقطوني كان أول أفراد هذه الخلية الأصل، الذي توفرت لديه ثلاثة مسدسات حصل عليها من مرسى المدينة. وقد تكلف الزرقطوني بمجموعة ضمت كلاً من البشير شعاجدين وسعيد ولد الحاج وامبارك الورداني وبوشعيب رغيب وسعيد المانوزي والحاج المرضي الهبطي، المجموعة التي كان لها دور هام في ضرب مصالح ومواقع عدة للمستعمر.
وحول علاقة الزرقطوني بالعمل الحزبي، ورد أنه انفتح على ما هو وطني وتعرف على ما كان قائما من تطورات سياسية عبر خلايا حزب الاستقلال، بل انتدب لمراقبة تنظيمات سرية بالدار البيضاء حتى لا تزيغ عن تعليمات الحزب، وأنه من أجل هذه المهمة زار عدداً من المدن المغربية. وبعد ما حصل من فتك بحوالي ألفي مواطن مغربي في أحداث أبريل 1947 من طرف كتيبة سينغالية أمام أعين القوات الفرنسية، قرر إنشاء خلايا مسلحة.
وفي شهادة مقاومين كانوا على علاقة به، ورد أنه كان عضوا نشيطاً في حزب الاستقلال ومنشطا لجماعة تابعة بالمدينة القديمة بالدار البيضاء. فضلاً عما كان له من دور تأطيري من خلال لجنة تزيين خاصة بالاحتفالات الوطنية والدينية، أسست الكشفية الحسنية من أجل استقطاب أكثر ونشر للوعي الوطني، وهي التي كان فيها الزرقطوني قياديا منذ 1947، علما أن حزب الاستقلال كان منقسما حول مسألة العمل الفدائي، وهي نتيجة حزب بقاعدة واسعة وفكر انتقائي وقيادة غير منسجمة، وكان أمراً طبيعياً حدوث اضطراب كهذا في ظرفية صعبة عاشتها البلاد في الفترة ما بين 1950-1955.
وجدير بالإشارة في هذا السياق إلى أنه بعد استشهاد الزرقطوني في 18 يونيو 1954، ولما بلغ الخبر القاهرة، كان الكل يسأل عنه، بمن في ذلك جماعة علال الفاسي، بحيث قيل عنه إنه جبلي ثم حياني وآخر قال إنه بيضاوي، قيل هذا في مجلس ضم علال الفاسي وأعضاء المكتب عشية إعداد النشرة التي ورد فيها خبر استشهاده، بحيث لم يتم التعرف عليه بما يكفي إلا من خلال ما أورد عنه ابراهيم الفردوس ثم محمد الدحوس.
ومن هنا يتبن أن تنظيم الدار البيضاء الفدائي السري كان ابن وقته ولا علاقة له بزعامة الحزب ولجنته التنفيذية، علما أن كلاً من حزب الاستقلال وسلطان البلاد كانا ضد استعمال القوة والعنف، وهو ما نشرته جريدة الأمة خلال مارس 1954، مع أهمية الإشارة أيضاً إلى أن كل المقاومين انبثقوا من صفوف هذا الحزب وإن لم تكن له سلطة على أي جماعة أو تنظيم، بل من شروط منظمة اليد السوداء بالدار البيضاء عدم الانتماء لأي حزب.
وورد أن الزرقطوني رحمه الله كان يحمل اسما مستعاراً هو "البشير"، وأنه كان يرى في العمل المسلح حلاً وحيداً لمواجهة المستعمر وأتباعه، وقد تمكن من جمع شمل جماعة من الوطنيين بالدار البيضاء تحديداً بدرب القريعة. وحصل أن تم إلقاء القبض عليه في عرباوة لما كان متجها إلى الشمال رفقة سليمان العرائشي، وتم نقلهما إلى سجن الرباط وقد عذبا عذاباً شديداً لمدة عشرة أيام، ومع ذلك لم يتم التعرف على هويتهما، علما أن الزرقطوني كان متابعاً منذ سنة 1952، حيث أطلق سراحهما وعادا إلى الدار البيضاء.
وبمناسبة رأس السنة الميلادية لسنة 1954، اقترح الزرقطوني على مجموعته قبل أكثر من شهر تفجير ثلاث قنابل رداً على مستعمر مس كرامة المغاربة بنفي ملك البلاد في عيد الأضحى، وهو ما وقع في انفجار في السوق المركزي، وآخر في مركز للبريد، والثالث في مركز آخر للبريد. وإذا كانت القنبلتان الثانية والثالثة لم تنفجرا، فإن الأولى خلفت خسائر كبيرة.
وعندما عزمت فرنسا تنصيب محمد بن عرفة، توجه الزرقطوني رفقة عبد الله الصنهاجي والحسن العرائشي إلى مراكش، حيث تم وضع متفجرات في مسجد الكتبية الذي كان سيأتي إليه ابن عرفة والكًلاوي قبل صدور أمر بإلغاء ذلك. بل من جملة ما حدث إثر هذه الرحلة، بحسب مذكرات، قرار الزرقطوني قتل العرائشي لولا تدخل الصنهاجي لكونه أفشى السر في مراكش، وعليه اختار العرائشي اللجوء إلى الشمال.
وحول آخر لقاء بين الزرقطوني وعبد الله الصنهاجي، أورد هذا الأخير في مذكراته: "في يوم السبت 14 يناير 1954، ودعت رفيقي محمد الزرقطوني وفي لحظة الفراق هذه سألني هل سنلتقي؟ إني لا أدري أنلتقي أم لا بعد هذا اليوم؟ كان هذا آخر كلام سمعته من هذا الشهيد البطل، وكأنه كان يتوقع أن يقدم نفسه فداء لهذا الوطن ولأسرار المقاومة".
وكان قد ألقي القبض على الشهيد محمد الزرقطوني في 18 يونيو 1954 من قِبل الأمن الفرنسي بالدار البيضاء، وخوفاً منه على أسرار التنظيم والمقاومة وتأميناً منه لمسار الكفاح والفداء، ابتلع قرصاً من أقراص سم حصل عليه سِراً رحمه الله. وكان قد ذكر لمجموعة فدائية تابعة له أنه إذا ألقي عليه القبض، فإن الفرنسيين لن يأخذوا معهم سوى جثة لا غير.
يبقى قول الله تعالي: "منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِر وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"، صدق الله العظيم.
ومن جملة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا السياق أن المرء حي مادام يذكر إن بالخير أو بغيره، ولن يذكر محمد الزرقطوني، شهيد وطن وعباد على مر أجيال بلادٍ، إلا بما هو خير، ذلك الذي طبَع خلقه وميز عمله الوطني رحمه الله.
*مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.