لعلهااللعنة السيئة، أو القدر الحزين، أو لا أدري ماذا، ذلك الذي جعلني أحل بمكناس بعد طول غياب عنها السبت الماضي بالتحديد. وجدت المدينة لا تتحدث إلا عن الجريمة المروعة التي عرفتها ذلك اليوم، والتي ذهب ضحيتها الصغير البريء رضا البالغ من العمر فقط تسع سنوات، على يد أحد المجرمين المرضى الذي اختطف الصغير واغتصبه ثم شنقه وتركه جثة هامدة المكناسيون، الذين ارتاحوا قليلا لإلقاء القبض على المجرم الكريه، عادوا لكي يطرحوا ذلك السؤال الذي لطالما طرحوه عن مدينتهم منذ قضية مجينينة الشهير الذي طاف أرجاء العاصمة الإسماعيلية وهو يحمل في كيسه رأس غريم له، قبل أن يدخل إلى إحدى بارات المدينة الشهيرة، ويحتسي ماشاء له هواه المريض أن يحتسي، وحين طلبت منه النادلة أن يؤدي ثمن ماشربه، استل الرأس المقطوع من الكيس، وقال لها "هاهو اللي غادي يخلص". ذكرى تلك الجريمة البشعة لازالت تسكن أذهان المتقدمين في السن قليلا أو كثيرا، الذين كلما عبروا قرب البار المشهور في المدينةالجديدة "حمرية" إلا وسرت قشعريرة خاصة في مسامهم وهم يتذكرون هول تلك اللحظة الخاصة من نوعها في تاريخ مكناس. السبت،كل الذين تحدثت إليهم من سكان المدينة كانوا ينتقلون دون رابط منطقي بين تلك الجريمة القديمة وبين جريمة أول أمس، وهم يتساءلون "من أين يأتي بعض من يقطنون هذا المكان بكل هاته القدرة الحيوانية على أفعال لايمكن للذهن السوي أن يتخيلها فأحرى أن يقوم بها؟" لا أحد يريد اتهام ذلك المكان الفاضل الشريف ذي الروحانيات المتعددة الثابتة لوحده بأنه أسوأ من الأمكنة الأخرى. فالجرائم البشعة تقع في كل أنحاء العالم، وهذا الكوكب المريض مليء بالمرضى والمعتوهين وحاملي الأعطاب النفسية الذين قد يغيرون مسارات عائلات بأكملها مثلما وقع لعائلة الصغير رضا الحزينة التي انقلبت حياتها رأسا على عقب منذ الجريمة المهولة. لكن لا مفر من طرح السؤال عن هذا الإجرام المستشري، وعن بشاعته، وعن وصول بعضنا إلى هذه الدرجة من انعدام الإنسانية حد اقتراف هذا الذي يقترفونه بهذا الشكل المرضي الخطير الذين يتحدثون عن المدينة يكادون يجدون في تدهور أحوالها بعض التفسير لكثير الكوارث التي تقع. والذي يزور المدينة الإسماعيلية بعد غياب طويل أو متوسط الأمد عنها، سيلاحظ أن الشيء الوحيد الذي ازداد فيها وتكاثر عدده بشكل ملحوظ وجد مثير للانتباه هو عدد "الصناكات" أو محلات الأكل السريع التي أضحت تجاور بعضها البعض في مشهد مضحك ومبكي في الوقت ذاته لمدينة كانت تاريخية ذات يوم وعلى مايبدو قرر لها من يسيرونها أن تصبح مطعما متنقلا مفتوحا لملء البطون لا أقل ولا أكثر. الملعب الشهير إياه مقفل دوما وأبدا لأن "الكوديم" في الهواة، ولا أحد يستحق أن يدخله اليوم. القاعات السينمائية التي كانت تمتد من "مونديال" إلى "الأطلس" إلى "أبولو" على امتداد أمتار قليلة في روامزين كلها مقفلة. دور الشباب أصبح لها دور آخر غير الذي عرفته في القديم، والفعل الثقافي يكاد يكون مقتصرا على بعض الموسميات والمواسم وكفى.. حتى تلك المنصة الصغيرة الموضوعة في الهديم ذلك السبت لنشاط للمجلس العلمي، وقربها خيمة للحث على التبرع بالدم لا تستطيعان إخفاء الفراغ الثقافي والرياضي والمعرفي والحضاري الكبير الذي أصبحت تعرفه مكناس، والذي عوضته ب"صناكاتها" الكثيرة، وبعدم حديث الرأي العام المغربي عنها إلا من الجريمة البشعة إلى الجريمة الأبشع ليس عجبا ذلك، فالمدينة التي يسيرها الغرباء عنها، سواء كانوا من مواليدها لكن لا يحملونها في العروق، أو كانوا فعلا من الوافدين عليها ممن لم يتخيلوا يوما أن تصبح مقاليدها بين أيديهم، أصبحت مقتنعة أن قدرها حزين، وأن الدعاء الشهير ضدها في القصيدة الملحونية يتحقق يوما بعد يوم، وأنه لم يكن دعاء لكنه كان رؤية حقيقية لم تسامح المدينة على ظلمها للشاعر واقتلاعها منزله، وأصبحت مثل اللعنة تلاحق كل شيء جميل هناك لكي تقتله، ولكي تقيم خرابا عمرانيا لا أثر فيه لجماليات يستعين بأضواء كثيرة مفتعلة، وبعدم تخطيط مرعب لكي يخفي عشوائية كل مايقترفه في ذلك المكان ولست الوحيد في هاته الحكاية، لكنني أعرف عددا كبيرا من عشاق المدينة الإسماعيلية الحقيقية من مواليدها ومنتسبيها والمتحدرين منها الذين لم يعودوا قادرين على زيارتها، لأن الألم الذي يحملونه كل مرة في دواخلهم وهم يغادرونها لم يعد يطاق على الإطلاق. وأعرف عددا كبيرا ممن اغتربوا خارج الوطن من أبنائها وأصبحوا حين المجيء إلى المغرب، يقصدون مكناس للترحم فقط على من ماتوا ودفنوا هناك، (حيث يكتشفون حال المقابر التي لا تسر حيا ولا ميتا لكن من لا يكترث للأحياء تراه يحمل هم الموتى ذات يوم؟) ثم يفرون إلى مدن أخرى، اقتنوا فيها عقاراتهم أو أقاموا فيها مشروعاتهم، ولسان حالهم يقول "حتي قط ماكيهرب من دار العرس". تلك المدينة التي كانت ذات يوم رمزا لبذخ تاريخي لا يتوفرالمغرب على شبيه له في أمكان آخر، والتي أغوت الفرنسيين وأغرتهم وسحرتهم حتى لقبوها فيرساي المغرب، أصبحت مدينة حزينة، مثقلة بكل هموم الكون، تتثاقل صباحا وهي تفتح عينيها لكي تفتح الصناكات ومحلات الأكل المعد على عجل وتنام الليل غير قادرة على هضم ماابتلعته ممنية نفسها بأن يهل عليها صباح جديد تكون فيه قادرة على استعادة الذي مضى، والهرولة بكل نشاط قرب السور الاسماعيلي حتى صهريج السواني، والاستمتاع بغابة الشباب التي لم تعد لأن محلات كثيرة بنيت فيها، ثم النزول إلى مسابح باب بوعماير الشهيرة التي يقال إنها أصبحت منتزهات يتنافس عليها أصحاب العقار الشره، قبل الصعود مساء إلى المركز الثقافي الفرنسي أو إلى سينما لومبير التي لم تعد أو "الملكي" أو "آ بي سي" أو مسرح "الريجان" الذي أصبح عمارة تذكر كل من عبر من هناك بأن الزمن لا يبقى على حال، أو إلى القاعة المغطاة لمشاهدة لقاء ليلي في إحدى الرياضات الجماعية التي كانت "الكوديم" تنتقل فيها من انتصار إلى انتصار... تعرف المدينة في قرارة نفسها أن هذا الأمر لم يعد ممكنا، لذلك لا تغادر فراشها. تتثاءب بكل حزن الكون، تتذكر ماضيها الجميل بألم شديد، ثم تقفل عينيها قسرا راغبة في النوم هربا من الواقع الأليم، رغم أنها تعرف أن كوابيس كثيرة ستزورها أيضا في المنام. رحم الله الصغير رضا، رحم الله معه تلك التي كانت تسمى العاصمة الاسماعيلية مكناس..