من قمم مكة الثلاثة كانت هناك لقطات لايمكن للعين الملاحظة أن تخطئهاوإن أرادت ذلك: مشهد محمود عباس الرئيس الفلسطيني وهو يقول للجميع "لن أذهب إلى البحرين، إذهبوا أنتم عوضي إذا ما أردتم ذلك"، ومشهد رئيس وزراء قطر القادم إلى السعودية "غصبا عنه" يتمنى أن تمر الأيام الثلاثة بلياليا بأسرع الوقت الممكن، ومشهد أمير الكويت وهو يقول لمن يريد سماعه من قادة الخليج وبالتحديد السعودية والإمارات وقطر "حاولوا أن تتصالحوا طال عمركم"، ومشهد الرئيس العراقي وهو يزيل بجرة ممحاة تاريخية كل مافعله صدام حسين وكل سنوات الحرب ضد العدو الفارسي لكي يتنصب داخل مكة المدافع الوحيد عن الأطماع الإيرانية في المنطقة. طبعا كانت هناك كلمات المجاملة العادية التي لا تخلو منها قمة من قممنا. وكانت هناك عبارات التأكيد على التضامن الذي لم نتضامنه مع بعضنا في يوم من الأيام. وكانت هناك لقطات تبويس لحى شهيرة، ولحظات عناق بعضها صادق والبعض الآخر الله أعلم به ومع ذلك التقط الناس شرخا ما، أكبر هاته المرة من بقية الشروخ، جمع القادة ببعضهم، وجعلنا نقتنع أنها ربما واحدة من المرات الأواخر التي يجتمع فيها مثل هذا المؤتمر بهاته الصيغة وبهاته الطريقة وبهاته النهاية في صياغة البيانات بسرعة والانتهاء من الموضوع ككل، والاتفات إلى ما هو أهم المنتبه لما يقع في الاتحاد الأوربي، وهو تجمع اقتصادي وتجاري وسياسي أقوى بكثير من تجمع القمة العربية أو القمة الإسلامية، سينتبه إلى أن أوربا التي حاولت قدر الإمكان إطالة أمد بقاء هذا الاتحاد على قيد الحياة، استوعبت أن الأمر لم يعد ممكنا بالشكل الذي كان عليه سابقا اليوم التفكير حقيقي في كيفية تدبير هذا التعاون المشترك بطريقة أخرى تستجيب لمطالب الشعوب الأوربية، التي أصبحت تجاهر بالعداء للاتحاد الأوربي حد التصويت على الخروج منه مثلما وقع في بريطانيا من خلال "البريكسيت"، ومثلما هو متوقع الحصول في كل دول أوربا في أي انتخابات مشابهة أكثر من هذا، وفي انتظار التصويت على هذا الخروج الجماعي، أصبحت شعوب أوربا تمنح أصواتها لليمين المتطرف أو السيادي أو الشعبوي لكي يعلن من داخل المجلس الأوربي معارضته لتصور أوربا /الدول هذا ومطالبته بأوربا/ الشعوب فورا وحالا ودونما إبطاء. نحن في العالم العربي ومعه العالم الإسلامي بنفس المناسبة، وفي نفس السلة، نتصور أننا نمتلك فائضا من الوقت يعفينا من النظر بسرعة وحكمة إلى هذا الإشكال المطروح أمامنا. نعتقد مثلما اعتقدنا على امتداد عقود طويلة أنه من المكن الانتظار قليلا إضافيا، وأن المشاكل التي تجمعنا ببعضنا ستحل ذات يوم من تلقاء ذاتها وأننا ملزمون بالصبر الكثير والجميل وكفى اقتنع بها المغرب مع الجزائر ودام الإشكال أربعين سنة وزيادة. واقتنع بها اليمن مع السعودية، وعرفت كل بداية قرن حربا جديدة بين البلدين يساندها جمال عبد الناصر ذات ستينيات ويساندها اليوم عبد الفتاح السيسي. اقتنعت بها الدول الخليجية منذ لحظة النشأة، وهاهي اليوم تجاهر علنا بعدم الاقتناع هذا، وتطالب بالعودة إلى ماشكل الأصل الأول للخلاف بطريقة أو بأخرى، واقتنعت بها البقية الباقية، واقتنع العرب والمسلمون قبل وبعد كل هذا بأنهم سيحررون فلسطين بالشعارات الكثيرة، والمظاهرات الأكثر وبتلك الكوفيات الحزينة التي تعتلي أكتفاهم لحظة الرغبة في التصوير، وبشارات النصر المهزومة التي تورمت الأصابع منها طالما أن العقل والقلب اللذان يرفعان اليد بالشارة، هما عقل وقلب منهزمان حد الانبطاح اليوم يتم تدبير مستقبل آخر لفلسطين، ومن المحزن قولها لكنها الحقيقة: هذا المستقبل يتم تدبيره بعيدا أو رغم أنف العرب والمسلمين. العالم يطرح من خلال أمريكا /ترامب تصورا معينا ويقول إن الأوان قد حان لكتابة نقطة النهاية لهذا الفصل المزعج في تلك المنطقة المحتقنة، من خلال عرض معين، سيتم قبوله أو سيتم...قبوله أيضا.. فلسطين- بفضل الفلسطينيين أساسا وبفضل الأيدي المتدخلة الكثيرة في العملية - لم تعد فلسطينا واحدة، هي الآن فلسطين حماس وفلسطين الآخرين، لذلك يسهل التحكم في فرقتها أما العرب والمسلمون فمتفرقون منذ البدء، لذلك لا إشكال.. ومع ذلك، دعونا نتسلح بما لم يتسلح به هؤلاء منذ البدء، ودعونا نحاول العثور على فائدة ما في الموضوع كله: تدبير المرحلة المقبلة قد يكون لصالح الأذكياء الذين يعرفون أين يضعون أرجلهم، والذين يعرفون متى ينسحبون من ساحات المعارك الخاسرة والمزمنة، التي لا تمتلك إلا الشعار وكثير الكلام لترديده على الأسماع، والتي لا تمتلك فعلا حقيقيا ولا تستطيعه المستقبل ينتمي للقادرين على هذا الذكاء اليوم. المستقبل يعطي نفسه هدية لمن يعرف أن مفترق الطرق الحالي هو مفترق حقيقي وهو لن يتكرر إلا بعد عقود طويلة. لذلك لامجال للتخلف عن الركب ولا إمكانية لمن يريد مواصلة المسير أن يقول "سأمثل دور من لم ير شيئا وسأواصل على النهج ذاته". ذلك النهج أثبت عقمه لسنوات عديدة. أجيال كثيرة من العرب والمسلمين عاشته خيبات، وإخفاقات، وأوهاما تكسرت على صخرة الواقع، وإحباطات خلقت أجيالا من المعقدين، وانكسارات صنعت من الكائن العربي/ المسلم ماهو عليه اليوم: فضلة على قارعة الطريق اليوم حان وقت إصلاح هذا العناد الغبي بالتخلص منه، والرهان على أذكياء الدنيا الآخرين، وهم موجودون، ولا يمكن أن نغمض أعيننا باستمرار لئلا نراهم، وأن نقنع أذهاننا أننا بمجرد عدم رؤيتهم قد تخلصنا منهم... الحقيقة هي أنهم هم من يتخلصون منا عندما ننخرط في حالة النفي المرضية هاته، ونعتقد أننا الأفضل في الوقت الذي نقتعد فيه أسفل الترتيب ونحن نغني كل الأناشيد... لم يعد مكنا في الوقت القادم أن تقنع الناس من خلال اجتماعات دورية يحضرها العديدون دون رغبة حقيقية منه، أن هذا هو الحل. أنت فقط تؤكد للناس، يوما بعد الآخر، أن المشكلة أكبر بكثير مما كنت تعتقد وأنك لا تمتلك لها أي حل ولا تستطيع إزاء أسئلتها أي جواب... ترانا نستطيع يوما التخلص فعلا من كل هذا الهراء والانتقال إلى ماهو أهم، والاشتغال على الأهم؟