تسعى «أخبار اليوم»، من خلال هذا الحوار مع السياسي والدبلوماسي المصري المخضرم عمرو موسى، تناول تحولات المنطقة العربية وقضاياها الراهنة وأزماتها المتلاحقة. كما تروم معرفة رؤاه حول أسباب ذلك، والمفارقات المطروحة على النخب العربية، فضلا عن استطلاع بعض الاقتراحات لتفكيك هذه التحولات وحل المشكلات الناجمة عنها. بالنظر إلى تجربتك الطويلة في مجال السياسة والدبلوماسية، سواء في الحكومة المصرية، أو على رأس جامعة الدول العربية، كيف يمكن تشخيص أسباب تردي الوضع العربي الراهن؟ أنا أرجعه إلى سوء إدارة الحكم، حيث تراكمت نتائجه السلبية لعقود طويلة، ما أدى إلى تعويق حركة التقدم العربي في كثير من الدول العربية. ففيما يتعلق بمصر مثلا، كان سوء إدارة الحكم واضحا منذ السنوات الأخيرة للملك فاروق، مرورا بالعهود التالية له، كلها بدون استثناء. إذ تراكمت عيوب الإدارة في عهود نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك، ونصف السنة التي حكم فيها مرسي والإخوان المسلمون. عندما أتكلم عن سوء إدارة الحكم، فإنني لا أقصد الجيش والشرطة، وإنما كيفية تدبير مرافق التعليم والصحة والخدمات العمومية وكيفية جعل حياة الناس سهلة وتطوير عملية التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية وتقدم البحث العلمي. إذ حدث إهمال كبير في هذه الأمور. وهذا هو الذي سبب سوء إدارة الحكم، حيث أدت تراكمات ذلك إلى وقوع انفجارات انتهت إلى ما عُرف ب”الربيع العربي”. من ناحية ثانية، لا يصح أن نبرئ التدخلات الخارجية. فلو لم تكن الأرضية ممهدة وخصبة للانتفاضة ضد الأوضاع التي كانت قائمة، لما كانت سياسات التدخلات الخارجية لتفعل فعلها أبدا. إنما نجحت هذه التدخلات، لأن الأرض كانت مخصبة بنتائج وتراكمات سوء إدارة الحكم. يكشف هذا الحديث بأريحية عن تشخيص الوضع العربي اليوم، عن مفارقة صارخة قوامها أنه صادر عن رجل دولة كان فاعلا في أحد أنظمة مصر الحديثة. ألم يكن بوسعك، حينما كنت وزيرا للشؤون الخارجية، أن تنبه إلى هذه الأسباب؟ آه! أنا.. كانت لي أحاديث كثيرة تتعلق بالتنمية وبالعلاقات الخارجية الاقتصادية وباقي أشكال العلاقات الأخرى، ليس السياسية فقط. ودليلي على ذلك هو أننا نجحنا، محمد بنعيسى وأنا، في إطلاق اتفاقية أكادير الاقتصادية مثلا، وهو الاتفاق الرباعي. وكذلك ما قمنا به في إطار البحر المتوسط، حيث طرحت تفعيل سياسة مصرية في البحر المتوسط، ونجحت في عقد التعاون مع الاتحاد الأوروبي وباقي دول البحر الأبيض المتوسط. إذ لا يختص التعاون بالجوانب السياسية، فحسب، بل بأمور أخرى أيضا، منها التنمية الاقتصادية والإصلاح الإداري. ولي في هذه الأمور محاضر كثيرة. لقد قمت بصفتي وزيرا للشؤون الخارجية، بما أستطيع أن أقوم به. ولكني كمواطن أعتبر نفسي مسؤولا، أيضا، عما حدث. فنحن جميعا مسؤولون عما حدث؛ أي الحكم والشعب. تحدثت عن اتفاق أكادير، الذي يجمع المغرب وتونس ومصر والأردن في إطار تعاون وتبادل تجاري رباعي. في نظرك، لماذا لم تعمم هذه التجربة على باقي الدول العربية؟ ولماذا صارت العلاقات بين الدول العربية تتسم بشرخ أكبر مما كانت عليه من قبل، حتى إن اتفاق أكادير لم يعد ساري المفعول؟ لا. لا، هو اتفاق قائم، لكنه يحتاج إلى الدعم وحقن التقوية واستغلال واستثمار مثل هذا الاتفاق وفتحها أمام الآخرين. أعتقد أنه يجب أن نبدأ في بحثنا عن نظام عربي جديد، بمجموعة نواة. وهذا ما قلته خلال مشاركتي في منتدى أصيلة الأخير، على أن تنتقل هذه النواة من أربع إلى ست، فثمانية. فالأمر الفريد في هذا الاتفاق هو أنه يجمع بين المشرق والمغرب. وهذا شيء جيد جدا، لكي نبدأ بتعاون اقتصادي حقيقي وفعال وعملي ينتج الفوائد والمصالح، ما سيجعله يجتذب آخرين في وقت ما. ولكن، قبل ذلك، لا بد من فهم الشرخ القائم الآن. هناك علاقات شبه مقطوعة بين مختلف الدول العربية، حيث إن دول شمال إفريقيا تتجه أكثر إلى الاتحاد الإفريقي وتقطع علاقاتها بالشرق. كما نلحظ مقاطعة دول خليجية لدولة قطر، إلخ. فيما الوضع في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا واليمن وغيرها يُدمي القلب… هذا الشرخ معروفة أسبابه. حتى قبل الربيع العربي، كانت العلاقات تتسم باختلاف في السياسات بين عدد من الدول العربية. لكن الوضع لم يصل إلى هذه الدرجة من السوء، لأنه كانت هناك رغبة لدى البعض في العالم العربي في أن يكونوا جزءا من عملية التغيير والإسهام فيها. إنما أنا أرى أن التوجه نحو الاتحاد الإفريقي لا يعارض التوجه العربي، لأننا نعمل، منذ عشرات السنين، على أن يكون للدول العربية جناحان، أولهما ملتزم بالميثاق الإفريقي والحركة السياسية الإفريقية والتعاون الاقتصادي الإفريقي، والثاني مقيد بالالتزامات نفسها داخل الجامعة العربية. هذان الأمران غير متعارضين. أما الموضوع الآخر، المتعلق بالحركة الرباعية ضد قطر وموقفها وسياستها، فهذا يدخل في الحقيقة في خضم الفوضى الجارية في العالم العربي، والتي تعود أسبابها، في الواقع، إلى جهات الإعلام وعدم استيفاء البعد العربي حقه. إذ تتعاون السعودية والإمارات ومصر والبحرين فيما بينها. وهذا أمر جيد. أحيانا، نعالج الوضع، لكن أعصابنا ثائرة والوقائع حادة ودرجة الحرارة السياسية عالية، حيث يحول ذلك كله دون حصول تفاهم شمولي. أنا أتصور أن هذه المرحلة تتميز بميزة خاصة. لكن ستكون هناك مرحلة ثانية ستتيح لنا أن نبدأ معالجة هذه الشروخ. في نظرك، هل مازال هناك رهان على الجامعة العربية اليوم، لمعالجة ما سميته بالفوضى والحرارة السياسية العالية بين الدول العربية؟ إلى أي حد مازالت هذه المنظمة الإقليمية قادرة على أن تلعب أدوارها السياسية؟ لا تستطيع الجامعة العربية أن تلعب أدوارا سياسية، لأنها جامعة تضم جميع هذه الدول المنقسمة على نفسها، والتي تمتلك اليوم، مصالح متعارضة ومسارات سياسية متناقضة تؤثر في فعالية الجامعة العربية. لكن، لا يصح التغاضي عن صيغة الجامعة العربية أو التراجع عنها، إلا في إطار التفاهم على نظام عربي جديد. أما الفوضى العربية القائمة حاليا، خاصة في موضوع العلاقات والإرهاب، فهي كبيرة جدا. ولذلك لا بد أن يكون هدفنا هو الاستقرار في العالم العربي. أنا أرى أنه من الأهمية للغاية الحفاظ على الاستقرار. فالآثار السلبية التي نجمت عما يسمى بالربيع العربي، الذي تم اختطافه واختراقه، أدت إلى الفوضى البادية تجلياتها في ليبيا وسوريا واليمن، إلخ. كما أرى أن الهدف الآن، هو تحقيق الاستقرار في مصر، وعدم تعريضها للتدخلات والمناورات والداخلية والخارجية. في المرحلة الحالية، يعتبر الاستقرار هو الأهم. وأعتقد أن مصر ناجحة في هذا لحد الآن. فضلا عن هذا، أعتقد أن الشراكة المصرية- السعودية تمثل أهم قواعد إحياء الحركة السياسية العربية. في نظرك، إلى أي حد يمكن أن يكون المغرب نموذجا لباقي الدول العربية؟ أرى أن أي حركة عربية يجب أن يحضر فيها العنصر المغاربي. لا بد أن يكون التحرك مشرقيا- مغربيا، خصوصا أن حركة الربيع العربي انطلقت من تونس، وتعاطف معها المشارقة جميعا. والمغرب دولة مهمة ورئيسة تشهد تجربة خاصة، ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، وأن نعمل على التنسيق بين المغرب وباقي دولنا. وأنا من الناس الذين ينادون دائما بعدم إهمال المجموعة المغاربية، واستغلال اتساعها والاستثمار فيها والتعاون معها. أثير موضوع الاختراق الأجنبي والمؤامرة الغربية ضد العرب خلال الربيع العربي. على النحو ذاته، فإن حلحلة هذه المشكلات ينبغي أن تأخذ في حسبانها هذا التدخل الأجنبي. في نظرك، هل العالم العربي قادر على مواجهة هذا التدخل الأجنبي الذي صار واضحا منذ تولي «دونالد ترامب» الرئاسة في أمريكا؟ وبأي منطق يمكن أن تواجه السياسات الأمريكية والأوروبية؟ الحاجة هنا اسمها الإرادة السياسية. إذا أجمعت الدول العربية، أو اتفق بعض منها على إرادة سياسية معينة وتفعيلها، ستتمكن حينها تماما أن تتفاوض مع الدول الكبرى. لكن، لا بد من التنبيه إلى عناصر عديدة: أولا، يجب ألا نكون أعداء للولايات المتحدةالأمريكية، ولا أعتقد أن مصلحة هذه الأخيرة تقتضي أن تعادي العرب. ثانيا، للقرن الحادي والعشرين متطلبات وتداعيات، يجب أن نكون واعين بها وبالتطور الدولي الخطير حاليا. ثالثا، حين نتفاوض حول المنطقة ككل، يجب ألا نسقط من حسابنا أهمية خطورة القضية الفلسطينية، على أن نرميها من النافذة. هذا كلام خطير للغاية. فالقضية الفلسطينية ترتبط بالضمير العربي، وباحترام العرب لأنفسهم، وبترتيبات المنطقة ككل. لقد قلت في السابق إن كانت هناك صفقة قرن، فهي المبادرة العربية التي ينبغي أن نتفاوض مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل على أساسها، لأنها مبنية على المكاسب المتقابلة (رابح- رابح). أما أن يأخذ الرابح هنا 99 في المائة من الصفقة، ويأخذ الخاسر هناك 1 في المائة، فهذه ليست صفقة. لكن الخطورة لا تكمن اليوم، في هذا التدخل الأجنبي في المنطقة العربية عن بعد، بل في انتقاله إلى الداخل واقتحام الشؤون الداخلية عنوة. لا يخفى على أحد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، بل ونقل إدارة ترامب السفارة رسميا من تل أبيب إلى القدس، وسير دول أخرى على النهج ذاته، ومنها البرازيل وأستراليا… ربما يكون هذا الاقتحام مبنيا على فهم قوامه أن العالم العربي ضعيف مستسلم، في حين أن الرأي العام في العالم العربي قوي للغاية. (مقاطعا) رغم ما يطبع العلاقات بين الدول من انقسامات… عندما كنت أمينا عاما لجامعة الدول العربية، كنت أعلم بالانقسامات الداخلية والعلاقات المعقدة ما بين السلطات القائمة. ولكن الشعوب العربية لا تنتابها هذه الحساسية إزاء بعضها بعضا. فمثلا، ما حصل في سيدي بوزيدالتونسية، وقيام المظاهرات في حارات وشوارع القاهرة ودمشق وعمان وغيرها، والعلاقات بين الناس في العالم العربي.. كل هذه الأمور تثبت أن هناك عالما عربيا، فيه العرب والأمازيغ والأكراد وكل الأعراق والألوان والأديان، إلخ. هذا هو العالم الذي نعيش فيه، ولا بد أن نحيا فيه سويا، على أساس سياسة محترمة وقويمة. لكل الحق في الكلام، على أن يتم التفاوض حول جميع الاقتراحات. أرى أن المسألة كلها تتوقف على نجاحنا في بلورة موقف عربي على الأقل، تتقدمه الدول الفعالة من المشرق والمغرب، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. كما يجب أن نعالج، إلى جانب الاحتلال الصهيوني، موضوع الهيمنة الأجنبية على الأراضي العربي، وأن نكون واضحين في هذا الأمر، على أن نعمل بناء على سياسة ذكية تتعامل بموازين محددة، خصوصا مع الدول الكبرى. أكرر القول إننا لسنا في مرحلة تسمح لنا بمعاداة الدول القوية، التي لم تعد كما كانت في الماضي. هناك أطروحات جديدة، يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، حتى نستطيع تحديد مصالحنا التي لا يمكن أن تكون مصالح دولة واحدة تواجه هذا المنتظم الهائل من القوى السياسية والاقتصادية. لا شك سننهزم إذا نظرنا بهذا المنظور. في حين، يختلف الأمر حينما تتكون كتلتك من 400 مليون نسمة، وهي متفقة على مسارات ومصالح مقبولة ومحترمة. هل ترى أن هذه السياسة قائمة في ظل السلطويات السائدة والتمزقات الداخلية والانقسامات الخارجية؟ هذا سؤال شائك، إنما لا يوجد مستحيل. يجب أن نبدأ أولا، وأن نجلس سويا ونتحدث في نقاط القوة والضعف، ونعرف الكتلة الصلبة التي نستطيع تشكيلها داخل الدول العربية، والتي من شأنها أن تساعدنا في مفاوضاتنا مع أوروبا وأمريكا والصين وروسيا… والصعوبة التي نتحدث عنها قائمة وموجودة، لأن العرب لم يجلسوا إلى طاولة مشاورات لتحديد مواقف معينة، خصوصا أن هناك الكثير من المطالب في الدول العربية. لكن كل دولة تسلك سكة. وهي وصفة مدمرة. وماذا عن النخب التي تتولى زمام الأمور؟ ألا ترى أنها لم تقو على تدبير الأوضاع، خاصة بعد ثورات سنة 2011؟ أعتقد أن التحول حصل بعد هجمة التيارات المتطرفة عقائديا. إذ كان لا بد من التعامل معها بشكل من الأشكال. ففي مصر مثلا، شهدنا هذا التطرف، وكنا خائفين على مصير بلدنا. عندما رأينا أن مصر بدأت تتحول إلى دولة دراويش، أيدنا فعلا وقف حكومة الإخوان. كان لا بد أن يكون هناك بديل قوي يستطيع أن يوقف أي مقاومة أو محاولة للاستمرار. فهذا المد العقائدي غير مقبول مصريا. وأعتقد أن هذه تجربة واضحة. هل ينبغي أن يكون هذا البديل القوي قمعيا؟ ألم يكن بإمكان المجتمع والدولة في مصر أن يدبرا ما بعد 25 يناير تدبيرا سلميا، بدل ممارسة العنف؟ أنا لا أستسيغ أي عنف تمارسه أي جهة. كلامك يحيل على يوم 30 يونيو. كانت هناك مقاومة مسلحة. أنا مع التغيير الدستوري وإقرار الدستور. وانطباعي هو أن هناك بدايات جيدة يجب أن تستمر وتتجدد.