لن يحكي شهود حادث قطار الموت، والمواطنين الذين تابعوا أخباره، والركاب الذين كانوا على متنه، والصحافيون الذين قاموا بتغطية الحدث، ورجال الوقاية المدنية والدرك الملكي والقوات المساعدة وكل الأعوان والمتطوعين الذين تدخلوا ساعة وقوعه... لن يحكي هؤلاء فقط عن عربات القطار التي تحولت إلى أشلاء، وعن الموتى والمصابين وعن ظروف وقوع الحادث. سيظل يوم الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 محفورا في ذاكرة المغاربة، وسينضاف إلى ذكريات أخرى مؤلمة، غير أن هذه المرة ثمة أشياء كثيرة يجب التقاطها، ثمة مفجوعين وضحايا ومصابين ومصدومين وداعين إلى المحاسبة وآخرين انشغلوا، فقط، طوال يوم وقوع الحادث بنشر أحاسيسهم ومشاعرهم الحزينة والبئيسة والمحتقنة والمؤلمة على مواقع التواصل الاجتماعي. ومرة أخرى هناك الكثير من الأشياء التي يجب التقاطها، والتي بددت ظلام كل الأمواج السوداء المتلاطمة علينا طوال يوم الحادث، تصفعنا على اليمين وعلى اليسار صفعات متواصلة لا تنقطع. بددت مبادرات نبيلة أول أمس كل هذا المد الذي زحف علينا ولوث مشاعرنا، وعندما كانا مشغولين بمتابعة الحدث والبحث في أسبابها وعدد ضحاياه، كان هناك شبان أخذوا المبادرة ولم ينشغلوا بالاستياء. مباشرة مروا إلى الفعل، ففور شيوع خبر وقوع مصابين وضحايا، انطلقت حملة للتبرع بالدم لم تعلن عنها مراكز تحاقن الدم، لكنها كانت عفوية، مئات الشباب سارعوا إلى مراكز تحاقن الدم للتبرع بدمهم لإنقاذ حياة الجرحى والحالات التي توجد في وضعية حرجة، بعض المستخدمين فوجئوا بالعدد الهائل الذي بلغ حوالي 540 شابا وشابة حلوا من مناطق مختلفة، للتبرع بدمائهم، كانت هي غاية ما يملكون، حتى أن العرض المقدم من الدم فاق كثيرا الاحتياجات وأعلن مسؤول أن 16 كيسا فقط هي التي تم استعمالها. صور الشبان الذين ينتظرون دورهم أمام المراكز للتبرع بدمهم تم تداولها على نطاق واسع، وكان مشهد الكفيف الذي وقف قرب شاحنة خاصة للتبرع في انتظار دوره، أكثر تعبيرا عن نبل مشاعر الشباب الذي هب دون دعوة للتعبير عمليا عن تضامنه في هذا اليوم المشهود. كانت المشاهد مؤثرة ودليلا على أن هناك الكثير من الناس الذين لا يقضون الوقت في مداعبة هواتفهم لتسويد واقع لا يحتاج إلى المزيد من الظلام، بل إلى من ينيره. فبعثت هذه الصور حقا رسائل عديدة إلى من يهمهم الأمر، وعلمنا هؤلاء الشبان درسا -تطبيقيا- في الوطنية لطالما كنا محتاجين إليه. نبل هؤلاء الشبان لم يتوقف عند هذا الحد بل مع انصراف النهار وتقدم ساعات اليوم كان هناك تعاقب لمشاعر الأسى والمبادرات الجميلة، فكانت هذه الأخيرة تخفف من ألم الأولى، وتجعل لسان الحال يردد كما ردد الملايين من المغاربة «مازال الخير ف البلاد و ف أولاد البلاد». مع حلول المساء وانتهاء ساعات العمل ظهر مشكل آخر يتعلق بأزمة النقل، ذلك أن الآلاف من الموظفين الذين يقومون برحلة يومية بين الرباط والقنيطرة صباحا ومساء وجدوا أنفسهم عالقين في الرباط بعد توقف القطارات التي تشتغل على هذا الخط بسبب الحادث. لم تفلح الحافلات ولا سيارات الأجرة في تلبية الطلب عليها، والذي تضاعف عدة مرات، فانطلقت المبادرات النبيلة من جديد، بعد أن أبدى العشرات من الشبان والمواطنين الذين يقطعون المسافة بين المدينتين استعدادهم لنقل العالقين. بل هناك من عبر على دعم المتطوعين بالوقود لحل أزمة المواصلات، بعد أن امتدت صفوف منتظري الحافلات وسيارات الأجرة على طول محطات النقل، ووقعوا ضحية جشع البعض. وتواصلت هذه المبادرات لتشمل متطوعين اقترحوا على العالقين المبيت لديهم في بيوتهم. هي تلك حقيقة المغربي النزاعة نحو التضامن الأصيل والمبادرات العفوية. وهو درس حقيقي في المواطنة قدمه هؤلاء الشبان المرتبطين بوطنهم ومواطنيه. وهو إعلان للمترددين والمنفلت «هبلهم» من عقاله ممن يبحثون عن قشة مهما خف وزنها لقصم ظهر هذا الوطن، الذي يحبل بشبان مستعدين للمرور إلى الفعل عند كل حدث جلل.