بسرعة يسري الخبر بين الناس سريان النار في هشيمها، دون أن يكون له مايسنده غير بضعة كليشيهات ملتقطة على عجل عبر كاميرا لهاتف نقال، تضعها جهة ما على الفيسبوك، ويتداولها رواد الموقع الأزرق اعتمادا على عنوانها فقط، ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء فتحها والتأكد من تفاصيلها. مرة أخرى ومع ماوقع في جرادة نتأكد أننا لانستفيد من الدروس التي تقدم نفسها لنا في مناسبات سابقة مجانا، وأننا نعيد إنتاج نفس الأخطاء. نحن؟ من نحن؟ المشتغلون في مجال الإعلام هذا، المنشغلون بكل شيء في الحقيقة إلا بالإعلام، أي بمهنتنا التي يفترض أننا نتقاضى مقابلها أجرا ونفتح بها بيوتنا ونعيل بها أسرنا ونؤسس بها للقادم في مساراتها إن كان لها قادم طبعا. الأمر يذكرنا بحقيقة واحدة فقط لاغير : هي أننا في الحقيقة جميعا هواة، نمارس هاته المهنة ربما لأننا نحبها ونعتبرها تزجية طيبة لوقت الفراغ، أو لأن بعضنا لم يجد مهنا أخرى فارتمى إليها وفيها دون ملابس، أو لأن بعضا ثالثا منا فهم أنها تعاني من الفراغ فقرر مثل الطبيعة تماما أن يملأهه ولو بفراغ أسوأ منه بكثير مع ذلك دعونا من جلد الذات الذي تعودناه والذي لم يعد يعطي أي نتيجة طالما ألا لجرح بميت إيلام ولنعد إلى بيت القصيد، ولنطرح السؤال: لماذا تنتصر إشاعة كاذبة مبنية على لقطات مصورة بشكل هاو على عشرات القنوات التلفزيونية والإذاعات والجرائد والمواقع المسماة « مهنية »؟ لماذا يصدق المتلقي المغربي صورا تبدو له بالعين المجردة لاعلاقة لها بالمغرب ويكذب عشرات البيانات والمقالات التي تكذب له الخبر وتؤكد له أين تكمن حقيقة الأشياء؟ هذا هو السؤال الفعلي، وهو سؤال مصداقية وسائل الإعلام التي تخاطب هذا المتلقي الذي تعود كذبا من بعضها ماجعله يفقد الثقة في مجملها، وهو الأمر الذي لطالما حذرنا منه أصحاب « فضيحة » و «عاجل » و «طارئ » و «مصيبة » و «كارثة » و «جريمة » والذين كانوا يهتمون فقط بالسريع من الربح، والمتوفر الجاهز من النقرات ومن « البوز » الكاذب دون أن يضعوا في اعتبارهم مستقبل المهنة ومصداقيتها وحاجتنا إليهها في لحظات الجد لكي تنقل الخبر الحقيقي، لا الإشاعة التي تهز المجتمع، وتدفع إلى القلق، وتثير البلبلة، وتتسبب في عديد محاولات الإصلاح التي تظل قاصرة عن الوصول إلى مستوى رد الفعل الأول الذي خلقته الإشاعة الحكاية أخطر بكثير مما نتصور، وهي فوق أي « بوليميك » فارغ لأنها بكل بساطة تهمنا جميعا سواء كنا ممن تورط في الإساءة إلى المهنة والتقليل من مصداقيتها أم كنا من « الأرثوذوكسيين » الذين لازالوا يؤمنون أن للصحافة دورا حقيقيا في لحظة الالتباس الكبرى هاته التي قد تجعل من أول عابر سبيل هب من فراشه ودب على الأرض صحافيا ينقل لك الخبر وفق ثقافته ومستوى وعيه، ووفق تصوره لمهنة الصحافة التي لايعتبرها أصلا مهنة، ولا يؤمن بأجناسها ولا قواعدها ويتصورها فقط مثل الفيديوهات التي يتقاسمها مع أصدقائه وصدقاته عبر « الواتساب » : أداة تسلية لا أقل ولاأكثر في نقاش ساخن جمع كاتب هذه السطور مع شباب في الفيسبوك حول صور الدهس وإشاعات الوفاة الكاذبة في جرادة، قال لي أحد الشباب الذي نشر الفيديو. الشهير والذي تشبث بصدقيته، بعد أن أقنعته بالحجة والبرهان أن الفيديو لايظهر شيئا « مالك مقلق ؟ راحنا غير مقصرين فالفيس ». هذه العبارة لوحدها يجب أن تحرك في محترفي الإعلام، إن كان لديه محترفون في هذا البلد الأمين كل مشاعر القلق، فالخبر الذي نعتبره نحن مقدسا ولا يليق أن يكون كاذبا، خصوصا حين يكون خبرا خطيرا يهم أمن الوطن والمواطنين، أصبح لدى جزء كبير من « القراء » الجدد وهم رواد الفضاء الأزرق وبقية مواقع التواصل الاجتماعي مجرد وسيلة للتسلية لا أقل ولا أكثر، حتى وإن كان خبرا ذا آثار مدمرة. هنا لابد من وقفة أو جلسة أو انحناءة أو حتى قعدة قرفصاء أمام المرآة للتفكير مليا - تلفزيونات وإذاعات وجرائد ومواقع وما إليه - في كيفية استعادة هاته المصداقية التي ذهبت بها حروبنا الصغيرة إلى الفناء، وتركت المجال خصبا إما للفراغ الجاهل لكي يعربد بتافه العمل الإعلامي وساقطه، أو للإشاعة لكي تخرب مجتمعاتنا ولكي تدفعنا كل مرة إلى استنفار لايليق بنا لتكذيب جهات لانراها ولانعرف أي إشاعة جديدة تهيء لنا غدا أو بعد غد.. ربما نقتنع حينها أن الحل يبدأ بلعب المباراة في ميدان « الخصم »، أي في هاته المواقع الاجتماعية، بكل بذكاء وبعدم استسهال، وذلك بإدخال الجدية والمصداقية إلى مايروج هناك، عوض الانجرار للحل الأسهل والأبشع : منافسة الساقطين في سقوطهم لتسريع إعلان الوفاة عوض خوض هاته المعركة التي تستحق أن تخاض إذا وجدت من يتقن خوضها بطبيعة الحال. للتأمل ليس إلا..إذا كان الأمر يعنينا طبعا.