يُطلقون الإشاعات طولا وعرضًا.. في الشوارع.. في الأحياء.. في الأنترنيت.. وبعض الإذاعات والفضائيات وحتى صحافة الورق.. إشاعات تؤثرُ على حياة الناس الذين يستهلكون الأخبارَ الزائفة، في غياب المناعة الإخبارية والمعرفية والإنسانية.. نحنُ أمام فيروس يُهددُ سلامةَ المجتمع.. فيروسٌ يضرب في الطول والعرض، والحاضر والماضي، لاقتلاع الجذور الإنسانية، وطمس الهوية، والابتزاز، وغيرها من الأهداف الدنيئة للشبكات الإجرامية التي تصنع الإشاعات الكاذبة..
بقلم أحمد إفزارن الإشاعات تُشكلُ خطرا حقيقيا على سلامة المجتمع.. ومُجتمعُنا سريعُ التأثر بهذه القنبلة النفسية التي دمّرت مجتمعات، وتُهددُ بتدمير أخرى تفتقرُ للمناعة الإخبارية والمعرفية والإنسانية.. وفي خضمّ النشاطات السلبية لبعض وسائل الإعلام، ومواقع في الشبكة العنكبونية، تنهارُ قيمٌ اجتماعيةٌ إنسانية بمعاول الرّيبة والشك والهدم النفسي لأُُسَرٍ بكاملها.. وهذه الظاهرة لا ينجو منها أيُّ مكان في العالم، ولكن الأكثر عُرضة للانهيار النفسي، بسبب الإشاعات الكاذبة، مُجتمعاتٌ محافظة تفتقرُ إلى وسائل إعلام ذات أخبار صحيحة صادقة هادفة.. ومجتمعُنا أيضا يُحطمُ بين حين وآخر أرقامَه القياسية في تداوُل إشاعات كاذبة، عن طريق الأنترنيت وبعض الصحُف الورقية، وبعض الإذاعات والتلفزات التي لا تترددُ في ترديد الإشاعات الكاذبة ضدّ أفراد أو جماعات لخدمة أغراض منفعية ذاتية أو جماعية.. هذه المؤسسات المحسوبة على الإعلام تُذكي نيران الإشاعات الكاذبة باستغلال أنصاف الحقائق لتزييف هذه الحقائق، وبالتالي التأثير على الرأي العام من أجل تضليله وتوجيهه إلي الشكّ في ما حوله، ومن حوله، ومن ثمةَ الشك حتى في نفسه هو أيضا، كإنسان ومواطن.. ومن يُطلقون هذه الإشاعات قد يكونون أفرادًا أو جماعات أو شركات أو دُولا، فيستهدفون تدمير شخص، أو قضية، أو سلعة، لترجيح مصالح جهات أخرى.. إنها حربٌ نفسية تظهرُ آثارُها بين الناس، دون أن تُعرف مصادرُها، لأن الإشاعات الكاذبة الهدّامة تنطلقُ من مصادر مجهولة، في سرية مطلقة، لتستهدف أشخاصا معيّنين أو مؤسسات أو شركات أو دولا.. فالمستهدفُ يكون معروفا، والضربات التي يتلقاها معروفة، وانفعالاتُه معروفة، لكن مصدر الإشاعة يبقى غير معروف.. وهكذا يجدُ المرءُ نفسه في مواجهة أشباح، لأسباب كثيرا ما لا يعرفُها.. وكم من حروب قبلية وقعت في التاريخ الإنساني لأسباب غير معروفة.. لماذا؟ لأن من أشعلتها ليست الحقائق، بل الإشاعاتُ الكاذبة.. وكم من جرائم وقعت، كردُ فعل على إشاعة.. إن من يُطلقون الإشاعة الكاذبة يعرفون كيف صنعوها، وكيف وجّهوها، وضد من؟ ولأجل ماذا؟ ومتى أطلقوها؟ ولكنهم يجهلون كيف ستنتهي، وما هو الثمن الذي عليهم هم أنفُسهم أن يؤدوه.. البدايةُ معروفة، والنهايةُ غير معروفة، حتى ولو كانت جهاتٌ مختصة في حبْك المؤامرات، تقفُ وراء إشاعات معيّنة لخدمة قضية معيّنة.. فالإشاعةُ سلاحٌ ذو حدّين.. ويصعبُ التحكمُ فيها على طول رحلتها من المصدر إلى المتلقّي فإلى انتشارها في المجتمع. . وهذا ما يفسرُ كونَ كثير من الإشاعات يقفُ وراءها حقدٌ أعمى، وحسد، وغيرة، وعنصرية، وغرائزية، أي أسباب نفسية مريضة.. وتبقى أسبابُ الإشاعات متعددة، وهدفُها واحد، هو تأليب الرأي العام ضد الضحية.. وكلّما كان الفاعلُ متحكّما في دواليب الإشاعة، كلما كان قادرا على توجيه الرأي العام ضد الهدف المراد تدميرُه نفسيا أو ماديا أو علميا أو فنيا أو لأسباب أخرى.. ولذلك يُنصح بمكافحة الإشاعة عبر التركيز على المثلث التالي: معرفة مصدر الإشاعة، عدم ترديد الإشاعة، توجيه الرأي العام إلى موضوع آخر لكي ينسى الإشاعة وينشغل بأمور أخرى.. وعلى العموم، لا تعيشُ الإشاعاتُ طويلا.. هي كالعواصف القوية لا تدوم.. تنتهي بسرعة، لكن آثارها السلبية قد تبقى طويلا.. فهي قد تُدمر نفسية فرد، أو أسرة، أو مجتمع بأكمله.. وفي المعنيين من يُفضل غضَّ الطرف عنها، ومحاولة نسيانها، على أساس المقولة الشهيرة: «القافلةُ تسير، والكلابُ تنبح».. هذا قد يكون حلاّ سليما، وهو فعلا يفيد في بعض الحالات.. لكن حالات معيّنة لا يكفي فيها غضُّ الطرف.. لا بُدّ أيضا من مواجهة المصدر بالحقائق.. ويجب تكرار الحقائق على الميدان الذي تتحرك فيه الإشاعة.. وتقديم هذه الحقائق بطُرُق متنوعة لكي يفهمها الناس.. فالناسُ أنواع: فيهم من يُحكمُ عقلَه، وفيهم مُندفع، وفيهم تخويني، وفيهم تكفيري.. إنها أنواع من البشر بحاجة إلى تنويعات إقناعية في مواجهة حرب نفسية تقودُها أشباحٌ بلا أخلاق، ولا ضمير، ولا أي احترام للآخر، ولا للمجتمع.. من يُطلقُ إشاعة كاذبة، عن سبق إصرار، يفتقدُ إلى توازُن نفسي، وإلى ضمير حيّ، وإلى احترام حقيقي للعلاقات الإنسانية.. هو مجرمٌ يستغلُّ كل ما هو متاح من ردود فعل الضحية، لكي يحوّلَ حتى التأويلات إلى إشاعات جديدة.. وفي هذا السياق، نجدُ بعضَ وسائل الإعلام المورّطة في نشر الإشاعات، تصطنع تصريحات من الضحية وتُقدّمُها للمستهلك وكأنها تصريحات حقيقية.. هي لا تهمها الحقيقة بل التأكيد على أن التهمة الموجهة إلى الضحية هي تهمة صحيحة، ولذلك تقدمُ تأويلاتها وكأن هذه التأويلات هي تصريحات اعترافية من الضحية.. خطيرٌ جدا أن ينزلق الإعلام إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط.. خطيرٌ جدا أن يُفبرك حوارات، ومعلومات، وصورا، وأفلاما، لخدمة من يُصرون على تدمير الضحية نفسيا وعقليا وعصبيا وماليا واجتماعيا وإبداعيا، الخ... هذه المخاطر مُتمركزةٌ في مجتمعنا، ضد أُسرٍ مُتوازنة، وعناصر متألقة، وجهات فاعلة، وحقول مختلفة.. نحنُ أمام فيروس يُهددُ المجتمع.. فيروسٌ يضرب في الطول والعرض، والحاضر والماضي، لاقتلاع الجذور الإنسانية، وطمس الهوية، والابتزاز، وغيرها من الأهداف الدنيئة للشبكة الإجرامية التي تصنع الإشاعات الكاذبة.. إن الإشاعات الكاذبة كثيرا ما تضرب حتى تاريخ أمة كاملة.. ومن الأسماء التي تعرضت لإشاعات كاذبة، سيّدةٌ اسمُها «السيدة الحُرّة».. هذه السيدة تُدرَّسُ حياتُها في جامعاتنا.. ومع ذلك، فالعامّةُ لا يعرفون عنها إلا أنها هي «عيشة قنديشة» التي طالما خوّفُونا بها ونحن أطفال.. هذه شخصية مغربية من عظماء تاريخنا الوطني.. لدى سقوط الأندلس، خرجت «La Contesa Aisha» إلى الجبال والوديان والفيافي لمقاومة الجيش الأجنبي.. كانت مقاومتُها شرسة لدرجة أن الجيش الغازي أشاع عنها أنها تأكلُ الأطفال وتفترسُ كل من تصل إليه من البشر.. وقد نجح الغزاةُ في إشاعة هذه الكذبة، لدرجة أن كثيرا من الناس يُصدقون الكذبة ولا يُصدقون المؤسسات العلمية الجامعية.. كثيرةٌ هي الإشاعات التي أثرت وتؤثر على التاريخ الإنساني.. وكثيرةٌ هي الإشاعات التي أثرت وتؤثرُ على حياة الناس الذين يستهلكون أخبارَها الزائفة بدون وعي.. وهنا تكونُ الحاجةُ ماسّة إلى وعي اجتماعي للتفريق بين الصحيح والخاطئ من الأخبار المتداولة.. فإذا كان المرءُ قادرا على التفريق بين الخبر الحقيقي والخبر الكاذب، تمكّنَ من مواجهة تحريف الحقائق، ومواجهة قلب المفاهيم، وبالتالي تبنّي القيم الإنسانية السليمة المفيدة لحياته وحياة المجتمع.. وعلى العموم، تُعتبرُ الإشاعاتُ الكاذبة حربا نفسية محضة.. وطبعا، إذا انهارت النفسُ انهار الإنسانُ برُمته. وهنا تكمن خطورةٌ أخرى، وهي استغلالُ علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلوم أخرى، لتعميق جراح الضحية أو الضحايا.. وعلى العموم ثانيا، يشاركُ إعلام ردئ، غير مؤهّل مهنيا، في ترديد الإشاعات الكاذبة، لأن الترديد لا يحتاج إلى مجهود مهني.. فتستعذبُ هذه المنابرُ الجاهلةُ برسالة النشر، أن تُعيد نشر ما نُشر، ولو كان كذبا، لكسب أضواء الكذبة الشائعة.. وعلى العموم ثالثا، تكون الغرائزُ موضوعَ الشائعة الكاذبة.. ولهذا نجدُ أن نسبة عالية من الإشاعات الكاذبة تركزُ على اتهامات جنسية، أي تُخاطبُ في الناس حاستي البصر والسمع، أي الغرائز.. ولهذا أيضا يجنحُ الإعلامُ العاجز إلى إشاعات كاذبة، لأن هذه سهلة، ولا تحتاج لا لمجهود، ولا بحث، ولا تدقيق.. فالبحثُ والتدقيق يتطلبان مهارة مهنية والتزاما برسالة الإعلام النبيلة.. وكلُّ منبر يرددُ الإشاعة الكاذبة هو مشاركٌ في جريمة الإشاعة.. فهو أيضا يضللُ الرأيَ العام بنشر الإشاعة، ويدسُّ في منشوره معلومات غير صحيحة، ويكرس بالتالي مظاهر جرّ البلاد إلى الخلف.. إعلامٌ متخلفٌ يكرسُ مظاهر التأخير الاجتماعي.. هو عرقلةٌ في طريق التنمية.. تنمية العقل.. تنمية الشراكات.. تنمية التنمية.. وإذا أحصينا الثمن الذي تؤديه بلدُنا في شكل خسائر، بسبب الإشاعات الكاذبة، نجد أن من المستعجل جدا مكافحة الإشاعات بكل الطرُق المتاحة، لحماية حقوق الإنسان والمجتمع والدولة.. وعلينا جميعا، أن نُواجه شبكات الإشاعة في الأنترنيت، وأن نتنبّه إلى خطورة شركات تستفيدُ ماليا من الإشاعات التي تستهدفُ مجتمعنا.. شركات تتهاطلُ عليها أموالُ الإعلانات بسبب كثرة رواد الجنس والنميمة والإشاعات الكاذبة.. كما يجب العملُ فورا لتنشيط وعي اجتماعي، لمكافحة شبكات الإشاعات في بلدنا، والمساهمة في مكافحة شبكات أكبر وأفظع توجهُ فوهاتها إلى مجتمعنا من الخارج.. لقد كبرت شبكاتُ الإشاعات لدرجة أنها أصبحت تُنافسُ شبكات الجنس والمخدرات والأسلحة.. الوعي الاجتماعي يجب أن ينصبَّ على تعليم ما يجب أن يتعلمه الناس، وهو: «كيف تقرأ؟ كيف تسمع؟ كيف تشاهد؟».. أسئلةٌ ثلاث قادرةٌ على حماية مجتمعنا من أحابيل أعداء الإنسان والإنسانية..