حين قال لي مسؤول من البوليساريو وهو يبرر اختطافي وسجني.. المليون شهيد في الجزائر قتل جزء منه على يد الثوار حين دخلت وجدت المدير (الراقص) في انتظاري صحبة مدير الأمن فسلما علي كما لو كانا شخصين آخرين غير اللذين أعرفهما، ثم بدأ المدير يقدم لي اعتذارا أقبح من ذنوبه هو. ومن ضمن ما قاله أن «الثورة» يمكن أن تسجن أبناءها حين يخطئون من أجل تقويمهم وإرجاعهم إلى جادة الصواب، وحتى يمكن أن تقتلهم إن كانت المصلحة الوطنية تقتضي ذلك، وضرب مثالا تمنيت لو سمعه أي جزائري. إذ قال إن المليون ونصف المليون شهيد الذي قدمه الجزائريون من أجل الاستقلال قتل عدد ليس بالقليل منه على يد الثوار بسبب أخطاء ارتكبوها. ولكن من قتلوا، كما قال، يعتبرون شهداء لأنهم كانوا أبناء الثورة قبل أن «يخونوها». ومن الصدف الغريبة المضحكة أن فتوى ولد افريطيس هذه ستعتمد بعد ذلك بسنوات في مؤتمر للبوليساريو اعتبر أن الذين ماتوا تحت التعذيب في المعتقلات شهداء «القضية الوطنية». بعد أن أنهى ذلك الاعتذار البائس، أخبرني بأنهم سيرسلونني إلى ذلك المركز الذي يوجد فيه قطيع الإبل والذي كانوا يسمونه مركز الشيخوخة، وذلك من أجل أن أستريح كي أستعيد عافيتي، إذ لا يمكن أن أستأنف التدريس في تلك الوضعية من التعب والهزال، وبالتأكيد لم يكن يعرف أني لن أستريح ولن أسترد عافيتي إلا حين أكون في مكان لا أرى فيه وجهه الذي فيه طول يشبه طول وجه عمرو. طلبت منه الإذن قبل المغادرة لأخذ بعض ملابسي من الغرفة التي كنت أسكنها قبل الاختفاء، فأذن لي بذلك، وكانت الصدمة كبيرة ومؤلمة حين لم أجد أي شيء من ملابسي وكتبي التي تركتها، فقد تقاسم الورثة غير الشرعيين كل شيء حتى السرير والطاولة الصغيرة التي كنت أكتب عليها، ولم تكن صدمتي بسبب فقداني لتلك الأشياء المادية التافهة، إنما كانت لأني قتلت وأنا حي من طرف من كنت أعتقد أن لي حق الزمالة عليهم، وهو الأمر الذي يوحي فعلا أنه أصبحت قناعة راسخة لدى العموم أن من خرج من ذلك الباب الذي خرجت منه لن يعود حيا أبدا، لذلك يتم تقسيم تركته، ولن يعوز الورثة إيجاد فتوى لذلك على شاكلة فتوى قصر الصلاة وهتك شهر رمضان بدعوى السفر لمدة تزيد عن العشر سنوات. ولست أنسى منظر شاب خلوق من أولئك الزملاء «يدعى الشيخ سيديا ولد الزيغم» وعيناه تغرورقان بالدموع بسبب ذلك الموقف المخزي. خرجت - رغم ما بي من جراح - وأنا أرثي لحال «ورثتي»، الذين يفترض فيهم التحلي بقيم المربي أو على الأقل التمتع بقليل من كرامة تحفظ عليهم إنسانيتهم، وذوق يجعلهم ينظرون إلى قيمة الإنسان إلى قيمة مخلفاته. عند الباب وجدت سيارة في انتظاري لتقلني إلى ذلك المكان الذي لا يوجد فيه سوى مجموعة من النوق ورجل مسن من الأرقاء السابقين ساقته الأقدار إلى تلك الأرض ليعود لرعي الإبل مجبرا، بعد أن ودع جحيم العبودية منذ أن كان شابا يافعا يعيش في الشرق الموريتاني مع عائلة أهل الدرويش، التي كان جميع أفرادها، حسب ما قال لي، يعتبرونه أبا روحيا لهم. كان هذا الرجل لا يزال يعيش على الفطرة الإنسانية السليمة، وقد عرفت فيه أيام كنت وإياه ندرس معا الحروف الهجائية، قبل خمس سنوات، شخصا يتمتع بقدر كبير من التواضع وعزة النفس التي يفتقر إليها من خلفتهم ورائي يقتسمون مخلفاتي ومسحت ذكراهم من ذاكرتي حين أنزلني سائق السيارة في ذلك المركز أمام خيمة زميلي السابق (الدولة).