الخروج من فم الثعبان ربع قرن في سجون الجزائر البوليساريو ملحمة إدريس الزايدي ربع قرن في سجون الجزائر البوليساريو ملحمة إدريس الزايدي حين اخترقنا مؤتمر البوليساريو آخر مؤتمر للبوليساريو عشت أجواءه وخباياه،عقد المؤتمر في مخيم 12 أكتوبر وضم ثلاثة أجنحة.أولهم جناح محمد عبد العزيز، وثانيهم تيار البشير مصطفى السيد وثالثهم تيار عمر الحضرمي.وقد استقيت تفاصيل ما حدث من مصدر مسؤول جدا ومقربا جدا من مصادر القرار، والشخص ليس رجلا آخر غير شقيق البشير مصطفى السيد، إبراهيم ولد السيد الذي التقيته مدة شهر في مخيم السمارة الذي كان يرأسه، قبل أن ينسحب نهائيا،فقد حكى لي بحضور الحسين الملقب ب"مولاي الزليج" من تازناخت، الحرقة التي يحس بها بسبب العصابة الجزائرية التي قتلت أخاه الوالي مصطفى السيد.وقد أخبرني بما دار بين شقيقه والحسن الثاني في لقاء لهما وكيف أن ملك المغرب وعدهم بأن يتم إدماج كل الصحراويين سواء كانوا معطوبين أو سالمين، ومهما كانت مكانة أي منهم، ويتحسر كيف أصبحت عناصر من ورغلة ومالي وأزواد والطوارق تريد أن تتفاوض باسم الصحراويين، وهي عناصر ليس بينها والصحراء أية صلة. تيار البشير مصطفى السيد كان يراهن على المصالحة وكان إبراهيم يتمنى أن يتم استفتاء حقيقي يمكنه من العودة للمغرب والاندماج في الوطن، وكان يقول لي: يكفينا سنوات من الحرب ويعد نفسه بأن لن يطلق أبدا رصاصة أو يواجه مغربيا. خلال المؤتمر الذي انعقد في شهر ماي من 1999 كنت ضمن الذين يهيئون مكان انعقاده.وكان صرحا كبيرا في الفيافي، بالدخيلة، غير بعيد عن سجن الرشيد السري، أخطر معتقل على وجه الأرض.ولم يكن يسمح لأحد غير مجموعة صغيرة من المجرمين، بولوج المعتقل، وعلى رأسهم محمد عبد العزيز وبيريك وخندود وعبد الودود الفري وبيفو وبيشة الأعور،وأولاد البرناوي وطبعا الجزائريين.كانت الفكرة من وراء عقد المؤتمر في موقع سجن الرشيد اعتقال الشيوخ الذين لم يرق لهم أداؤهم أثناء عمليات تحديد الهوية إلى جانب تيار البشير مصطفى السيد.هكذا تم ترتيب السجن قبيل الشروع في مؤتمر المصالحة.كنت أميز حضور الجزائريين من خلال البدلات المهربة التي كانت تمر بين يدي عند تفريغ الشاحنات من المساعدات. أعدت الولائم والذبائح.وحضر المؤتمر الجزائريون والكوبيون والقطريون والسوريون والإسبان وجنوب أفريقيين وبعثة الرأس الأخضر ومدغشقر وبوتسوانا وتيمور الشرقية ومنظمات أخرى معروفة. خلال المؤتمر طرحت فكرة خلق عملة خاصة بالبوليساريو. كان البشير مصطفى السيد آنذاك الرجل الثاني في الجبهة وقد تضايق من حضور الجنرال العماري وأجانب مؤتمرا أعد للمصالحة بين الصحراويين، فما دخل الغرباء؟ وقد كان رأي ولد السيد صريحا بأن اعتبر الأمر يتعلق بمصالحة بين القبائل الصحراوية.وفي تلك السنة بدأت بعض الضمائر تصحو مثل أيوب الحبيب الذي رفض أن يولى على رأس مخيم السمارة واعترض بشدة معبرا عن امتعاضه من أن يتولى، في آخر أيامه، وكرا للبغاء والقوادة بعد سنين من المواجهات العسكرية.كانت أخبار المؤتمر الفاشل تصلنا تباعا من إبراهيم ولد السيد نفسه،وقد أيقظني مرة ليلا وطلب مني أن أعد الشاي والعشاء على وجه السرعة.وكانت المفاجأة: البشير مصطفى السيد سيتعشى عندنا.وفعلا أكل من يدي صديقنا الحميدي العربي ومازح الرجل كثيرا.بعد وجبة العشاء وتناول الشاي شرب لبن الناقة وتوجه ليلا إلى نواديبو مخافة أن يغتالوه، أما أيوب الحبيب فقد ذهب إلى النخيلة ليفاجأ بالمروحيات الجزائرية والجنود في انتظاره.ولولا بنو عمومته، من البيهات، الذين اختطفوه من بين يدي الجزائرين وهربوه إلى معقلهم بالناحية الثالثة لكان الحبيب في خبر كان.هناك عقد اجتماعا عاجلا، بعده هرب الآلاف من قطيع جماله إلى موريتانيا. في نهاية المؤتمر، جاءنا إبراهيم ولد السيد وسلم علينا وطلب منا الصفح، بل سأل إن كان من بيننا من لم يسامحه وعرض أن يقتص منه ليشفي غليله حالا.قلنا له إن المسامح كريم.توجه إلي شخصيا وسألني: إدريس هل آذيتك؟ ذكرته بواقعة بدأنا بها أول السرد في هذا الكتاب يوم اختطافي من مدينة العيون حين أبعد عني الأذى، وفعل الشيء نفسه في نواحي أمكالة عندما منعهم من ضربي.عانقني وأثنى على شهامة المغاربة من ملكهم إلى أبسط مواطن. بهذه العواطف المتسامحة عدنا إلى الرابوني. وكان يقيننا أن أولاد السيد قد عادوا إلى أصلهم وخرجوا من جلباب المرتزقة.ومن الرابوني إلى أوسرد لنخدم بعثة "صداقة" أروبية، هناك سألتقي عمر ولد علي بويا.وقفت أمامه.سألني إن كنت أعرفه فقلت نعم.ثم قال لي إنك ستصحبني، فقلت له إني لا أملك أمر نفسي لأني سجين.فاجأني بأن طلب مني أن آخذ واحدا من الأسرى لنذهب معه إلى خيمته.ناديت على خناتة عبد الرزاق.حملتنا سيارة اللاندروفر إلى خيمته حيث التقينا عددا من بني عمومته.فوجئنا بهذه المعاملة وهذا الكرم غير المعهود في اولاد علي بويا،سيما لما رأينا الشاة المذبوحة.وضع صبيا في حجري وقال لي اذبحه.ذهلت من هذا السلوك وسألته مستغربا: ولم؟ فأجابني بتأثر كبير: لقد آذيناكم كثيرا ولم أكن أعرف أن الحسن الثاني بكل هذا التسامح.سألته كيف.فأجابني أن ملكنا قد أطلق سراح أبيه الضابط الخائن المسن واستجاب لطلبه في أن يعفو عن أبنائه ليعودوا للمغرب.تأثرت وتحسرت في الوقت نفسه ثم حمدت الله بصوت مسموع أن اولاد علي بويا عادوا إلى الحقيقة وصار الذئب يرعى مع الغنم. وكانوا يستضيفوننا ذلك اليوم في سرية تامة ولم يكن يعلم بالموضوع غير قائد السجن بوسحاب.وأقسم ولد بويا أن لن يضرب يوما سجينا ولا أن ينطر إليهم نظرة سوء وزاد أنه ينوي التصويت للمغرب في أي استفتاء قد يقع، ووكل الله على مخلفات سياسة بومدين وطغمة العسكر.في نهاية الضيافة،أعطونا ثيابا وطلبوا منا إبلاغ سلامهم إلى باقي الأسرى. وشهد الله أني كم تمنيت سابقا للمغرر بهم أن يعودوا للصواب.تغيرت الكثير من المعطيات سنة 1999. ومن الذين هبت عليهم رياح التغيير محمد ولد عتيك الذي أصبح قائد أمن لاحقا، وإني أتوقع أن تغتاله الجزائر لأنه لاطفنا أكثر مما يطيقه نظام هذه الدولة.كان يمنع أيا كان من الاقتراب إلينا أو حتى تصويرنا.عدنا إلى رفاقنا في السجن فأخبرناهم بما حصل مع أولاد علي بويا فدهشوا لما حصل ونما الأمل في أعماقهم من جديد. فرار أسطوري وتقطيع قدم أسير بالسكين مثل هذه التطورات لم تمنعنا من تصليب جبهتنا الداخلية، ولو أن الجزائر تركت البوليساريو لنا لأتينا بهم إلى المغرب في وقت قصير.وسأروي واقعة مثيرة حدثت في آخر سنة من القرن الماضي حين أخذوا جماعة من أسرانا إلى منطقة على الحدود ما بين مالي وموريتانيا لحفر آبار ترد منها الإبل.في تلك الفيافي حيث تبعد أرض الوطن بآلاف الكيلومترات، القفار وبعد المسافة أقسى حارس لمن يفكر في الفرار.البوليساريو كانوا مطمئنين تماما إلى أن أحدا لن يقدر على مجرد التفكير في مغامرة فاشلة أما جبروت الصحراء والبعد والعطش.تركوا جعفر وحارسين فقط.انتهز الرفاق الفرصة فانقضوا على الحارسين. قيدوا الأول واستعملوا الثاني دليلا يوصلهم إلى نقطة الربط على متن السيارة التي كانت بحوزتهما، حيث توجد بعثة المينورسو، وهددوا الحارس الذي صار أسيرا بأن مصيره القتل لو قادهم إلى وجهة العدو.وفعلا تمكن رفاقنا من العودة إلى المغرب، وكانا شهمين مع الحارسين وأحسنوا إليهما.ومقابل هذه الشهامة، تمة وقائع مأساوية حصلت هنا وهناك، مثلا حينما تشاجر أحد أسرانا يدعى الطيب الجبلي مع حارس فقال له الطيب إن فيروس الجزائر يسكن دمكم، وطال الزمن أم قصر لا بد أن تقولوا يوما "عاش الملك" فتكالب الحراس مع زبانية آخرين على الطيب وقطعوا اللحم من قدميه بالسكاكين.واقعة أخرى كان بطلها الاسير الفانيدي عمر في مركز الدخيرة، أو ما يسمى مركز "الشهيد محمد فضل"، هناك أحد الحراس الغلاظ ضرب عمر بالكرباج فتحداه بأن الجزائر لن تنفعهم في شيء، فأسرع الخطى ليشكو الفانيدي للجلاد محمد لمين ولد ديديه، وهو من أصل جزائري.كان مصير عمر أن سجن في "صندوق العودة"، وهو صندوق خشبي صغير الحجم مثل تابوت ينام فيه السجين ليلا، وفي النهار تحت الشمس الحارقة، يضعون الصندوق في تلك العلبة ليحرق ويختنق.قضى عمر في ذلك الصندوق/السجن سنة ونصف السنة.انقطعت أخبار عمرعنا وبات في عداد المفقودين، والأصح أنه استشهد وحتى لو حدثت معجزة ونجا، وهذا جد مستبعد، فإنهم سيأخذونه للجزائر لرعي الإبل.كانت أبشع عقوبة على الإطلاق.في هذا المخيم كانت تعليمات الجزائريين صارمة بعدم الحديث إلى الأسرى أو الاقتراب منهم.ومرة سجنوا صحراويا بسببنا خمس سنوات في معتقل الرشيد السري. أما صديقنا البزيوي فقد مات بعد أن سقط في بئر بمركز السرفاتي وحالوا بيننا وبين إنقاذه.أخونا يموت أمامنا ولا نملك أن نهب لنجدته.أي بشر هؤلاء، إن كانوا بشرا؟ مرت أيامنا بئيسة يطبعها الترهيب في مركز السرفاتي ولم نتنفس الصعداء إلا بإرجاعنا إلى الرابوني.وبدأت الأشغال الشاقة من الصفر.هناك ستقع لي حادثة طريفة.كنت ذات يوم رفقة مصطفى جبيلو وميلود العياطي وعبد السلام الجيلاسي..رأينا محمد عبد العزيز قادما نحونا مع جزائريين. بمجرد وصوله أراد أن يرينا كيف يجب الاشتغال فناولته المعول فيما أعطى الجيلاسي فأسه لجزائري كان رفقة زعيم العصابة.تركته يشتغل حتى تصبب عرقا..ولم ينقذه من تلك التمثيلية المرهقة إلا ولد الميلس الذي نهرني بأن آخذ المعول من "الرايس". [email protected] mailto:[email protected]