حدّثني بويا، رضيَ الله عنه، قال: حدثنا عبد السلام عن خليفة الشاوي، نقلا صَادقا عن صُحفٍ، هيَ في حُكم الضائع، قال: هذه سبع وصايا لحفيدنا الآتي: – لا تكتبْ ما لا يُروى، ولا تروي ما يُكتب. – ارفعْ رأسكَ واكتُبْ سِرّك ودُقَّ الأوتاد. – اكتُبْ دون أن تكتب. وإنْ كتبتَ فلا تجعل وعاءَكَ من ذهنك فتتعب. – اجْرَعْ، دائما، من ماء وَجْدِكَ وغبار الزمن. -لا تكتُب إلا ما جاء في صُحفنا وما قلناه في خاطرنا. – إذا نفذ منك وَحْيُنا فاصمتْ ولا تجادل. – أوصيك بالنهر لا البحر. باللحظة التي أنتَ فيها.. لا التي تنتظر. الزمن هو استعارتنا المؤقتة، أم نحن قِناعه المطلق. أيام تتعاقب وتذوب بلا أثر، سوى الدهشة بأكثر من فم ورئة وليل يئنُّ باستمرار. أيامٌ تتداولنا بعدما تكون قد مَنَحت ما منحت، وأخذت ما أخذت. زمن يتمدد عبره مجرى النهر مستريحا، غير مُلتفت إلى ما مضى ولا عابئ كما تعوّد منذ أزله البعيد. فقط، يجري باحثا عن منتهاه ولمّا لا يعثر عليه، يبحث عن نهاية كيفما كانت: بَدَدا أو بحرا. كل نهر ينسى بداياته المثقلة بالحنين، ولا يفكر إلا في نهاياتِه المتقطعة عبر طريق طويل، يتوزع فيه بين أنهار جوفية وبُخار سائب، ومحيط جائع ينتظر التهام ما تبقى. نفس حكاية الزمن الذي هو خط غير مستقيم ممتد إلى ما لا نهاية، يوزع علينا ما شاء من أيام وشهور وسنوات، ثم يسلبها بعد التعود ويلتهم ما راكمناه. حينما تهبط الأمطار على وجهي يتغير مذاق الزمن وتشعر الأرض بتطهر تام من آثامنا الجريحة. ها قد غفوتَ فنسيتَ، ودنوتَ فبعُدتَ وكتبتَ فمحوتَ. وها هو التراب، إنّ بين ظني ويقينهم لسراب. وها هو الطوفان، سيخرج من زمننا آخر العجب. فلا تغْفُ ولا تدْنُ واكتُبْ ما لا يُكتبْ. مولانا نسعى رضاك.. على بابك واقفين.. لا من يرحمنا سواك . يا أرحم الراحمين. حينما ذاب الزمن جرّبتُ كل الاحتمالات لهزم جبروتك، وفي كل مرة تلبسُ من أقنعتك ما يرميني بعيدا، واقتنعتُ بالبَدَدِ الذي طوٌقتَنا به. أيها الزمن! لا تغدر بنا كما فعلتَ بالسابقين . لبستُ لك من الأقنعة ما يكفي: صرتُ كاهنا أقرأ عليك من أسجاعي وأكتبُ للعالمين صكوك عالم بلا زمن؛ ثم ساحرا أحوِّل دمي إلى شرابٍ للمهزومين، وأفرشُ أحلامي للبؤساء في نفق بلا عودة; ثم شاعرا أكتبُ لك، بما تبقى لي من كلمات، أشعاري في صفحة السماء القريبة من خيالي وعلى جلود المجاذيب والمهمشين وصدور السبايا اللواتي وجدناهن مختبئات في سُفننا المكسرة إثر آخر حرب لنا معك؛ ثم فقيها نَسَجَتْ لي نسائي برنوسا بلون غروب الشاوية، أرتديه لأقوم الليل وأمسح عن النهار غبار الزمن. (هل تذكر أننا اجتمعنا في الفجر وقررنا تأسيس مملكة يسكنها الأبديون القادمون، لا زمن فيها إلا زمننا الذي بين يدينا، فلا نشيخ أو نموت. وهل تذكر أنك كنتَ واحدا منا قبل أن تستبدّ بنا شططا.. وبعد ذلك قُتِلتُ وعُدتُ وُلدتُ فقُتلتُ على أعتاب الفجر نفسه). أنا الآن أعرفُ كل شيء فلا تجادلني. لقد ضجرتُ بكل هذا العبث الذي يكرر نفس المعنى. لا يتعلق الأمر بنهاية الجزء الآخر مني الذي أعتبره نورا يضيء بقايا الطين فيّ، بل هو إحساس قبضتُ عليه بعدما أدركتُ أني لم أعد وحدي وصرت أتفتتُ في غيري. لم أكن أبدا عبدا للزمن، بل صديقُه وعدوُّه. أنا صديقك وعدوك فلا يغرّنك الذي مضى لأنك ستنتصر وتهزمني مهما فعلت. لديّ أشياء كثيرة تمور بداخلي، أفكر فيها وأحاورها لكنها تأبى الخروج فلا أضغط عليها؛ فقط أشعر أن ما كان يُزندُ تلك الأحلام قد احترق وصار رمادا يعمِى الأقدار. والفجر.. قامَ مُتعجِّلا قبل طلوع فجر يوم السبت، اغتسلَ ثم ارتدى جلبابا وبرنوسا واسعين وَبَريّين توخيّا من الصقيع المتأخر الذي هبط حارقا هذا العام. ورغم هطول الأمطار، فقد عزم على السفر وتنفيذ نيته التي عقدها بكل محبة دون أن يدري بالتفاصيل. قبل يومين، رتّبَ، هاتفيا، للقاءاته مع أصدقائه من الفلاحين، كما طلب من والدته أن تهيء له كسكسا بالقمح. والفجر، إنكَ على عتبته تحمل بين ذراعيك صُغرى أبنائك، ولية الله وفقيرته مريم. لفَفْتَها في بطانية بعدما كانت نائمة بلباسها، فقد أقسَمَتْ بأغلظ الأيمان – قبل نومها جوارك – أن تجهز لهذا السفر الباكر إلى جمهوريتها الضائعة، وإن استدعى الأمر بقاءها صاحية. لم يُرد لها أن تحنث وهي غارقة في نومها، فوضعها بالسيارة على الكرسي المجاور له وقد هيأ لها المكان. شعَرَتْ بهذا الانتقال، بحسها الطفولي القريب من أحاسيس الوليّات، والسيارة تشق طريقها، ففتحت فتحة صغيرة من عينيها ثم تململت. وجَدَت يده قريبة منها فقبّلتها بامتنان، ثم عادت إلى نومها والسيارة تخترق الضباب الكثيف المختلط بمتاريس من ظلام مفتول العضلات، غارق في وحشة ليل عسعس طويلا، لم ولن يزعجه صوت محرك السيارة في طريق هو أقرب مسافة إلى الحياة والنور. ورغم تأملاته المتداخلة مع تذكرات ورثها في جيْناته، فإن الطريق في بلاد الشاوية تؤنسه مهما كان الزمن موحشا بليله، فهو منذور لرؤية الفرسان البورغواطيين ومن جاء بعدهم، من آنفا إلى حَطّة زطّاط، ما زالوا في أبهى حضورهم الرمزي الذي لا يراه إلا من امتلأ قلبه محبةً وعشقا. أما هو، فقلبُه خرائط لا تبديل فيها منذ ذلك الزمن، من آنفا إلى مديونة وأولاد زيان والدروة والنواصر وقبائل أولاد حريز وخلفهم المذاكرة قبل دخوله المزامزة، حيث يجتمع كل العُبّاد والزّهاد ممن آمنوا بجدوى التوبة فقاموا حُفاة برؤوس عارية للاغتسال من آثام الزمن نيابة عن الآخرين. دنا بسيارته من مدينة سطات التي باتت على مرمى قطرة ندى. وتحديدا بمركز صغير اسمه سيد العايدي ضمن نفوذ المزامزة أولاد ايدّر. خفّف من سرعتها وركنها جانبا، يفكرُ قبل أن تفاجئه ابنته وقد استفاقت من نومها. التفتَ إليها بعينين يملأهما دمعٌ زئبقي متكبر، ثم يقرر الدخول عبر طريق غير مُعبّد يقود نحو دوار لَكْراريِّين خلفه مقبرة منسية ترقد فيها، منذ أزيد من تسعين عاما، جدته من أبيه، فاطنة بنت الطاهر رضي الله عنها، آمين. هل يُجازف بكل حيرته وحُبه، في هذا الطريق الموحل والليل والمطر، نحو مقبرة مجهولة ضاع حارسها، حفيد الشيخ الهبطي (والذي شاع أنه هبط من السماء ثم اختفى في حياة أخرى). لم يترك الحيرة تستبد به كثيرا، فقرر اتّباع فيض خاطره نحو جدّته التي حوّلت حياته من واقع مشقوق إلى خيال أسمر. رمى يده، مُشعلا النور الداخلي للسيارة، فأبصرَ على وجه ابنته ذهولا دافئا اختلط بابتسامة تائهة. رأى في وجهها وجه فاطنة وهي تنظر إلى وليدها محمد بن عبد السلام الذي وضعته نهاية غشت في نفس اليوم والساعة التي سيولد فيها حفيدها الشاوي. فاصل فاطنة بنت الطاهر، الجدة التي هرّبها، عبد السلام بن خليفة، من أتون حرب طاحنة ببلاد احْمَر في مطلع القرن العشرين، بعدما كان قد لجأ في ضيافة سرية عند الطاهر الحمري، زعيم تلك الجهة والمرحلة، للتنسيق معه حول محاربة النصارى الطامعين في بلاد الشاوية. لكن بعد أربعة أشهر من وجوده هناك، ستندلع حرب قبليّة قاتلة، هدفها إبادة سلالة الطاهر. وقد كان عبد السلام، بقامته الفارعة وملامح وجهه القاسية لا يهاب الموت أبدا، فعارك لمدة سبعة أيام نفدت فيها كل الذخيرة والكثير من الأرواح ولم تنفد العزيمة والمكابرة. استُشهد الطاهر وابنه أحمد بعدما أرسل طفله الصغير "امْبارك بن الطاهر" لدى أخواله بشرق البلد، ولم يكن أمام سي عبد السلام بُدٌّ من إنقاذ ما تبقى من سلالة صاحبه ورفيقه، خصوصا تلك الوصية الأخيرة لمولانا الطاهر وهو ينزف دما فائرا وغضبا من غدر الأعداء. خرج عبد السلام مُكرها، وقد أخذ معه فاطنة بنت الطاهر، الطفلة المذعورة ذات الأربعة عشر سنة، فحملها على فرسه عابرا الفلوات الساخنة، متوقفا لفترة بقبيلة أولاد عمران قبل أن ينطلق من جديد نحو المزامزة بدوار لَكْراريِّين؛ هناك عَقَدَ على فاطنة، وبعد ثلاث سنوات أنجبت ابنها البكر محمد، وبعد سنتين ماتت وهي تضع توأمها الذي عاشت منه ابنة وحيدة. ماتت فاطنة بنت الطاهر في سن الواحدة والعشرين تاركة طفلها ذا الثلاث سنوات يبكي وطفلة اسمها فاطمة، عمرها ساعة أو أقل، لا تدري شيئا. ويروي حفدة من حضروا وفاتها، حكايات ذات تفاصيل كثيرة عنها، منها: أنها لما ماتت ظلت تبتسم كما كانت تفعل في حياتها وبقيت دموعها منهمرة، وآخر كلماتها قولها: "اسمح لي آبويا الطاهر وسيدي عبد السلام ". وربما (بل أنا متأكد) قالت أيضا: سيولد من صلب ابني محمد من يحمل صورتي وصوتي ويحفظ سلالة بويا وسيدي. رَوَت امرأة ينيف عمرها عن المائة سنة (عائشة اليدرية)، أن والدتها هي إحدى صويحبات فاطنة، امرأة سي عبد السلام، قالت أن لالة فاطنة بنت الطاهر كانت قصيرة القامة مكتنزة بلون أسمر خُلاسي، يشع منها نور الهيبة والطمأنينة، ورغم صغر سنها فهي تنطق بكلام حكيم لا يفقهه إلا الحكماء، كما كانت بركاتها ظاهرة وهي تطبخ أو تطحن أو تأتي بالماء من البئر أو تهيء الزريبة لنعجاتها، أو حينما كانت تروي للنساء، وابنها في حِجرها ينظر إليها، عن الطاهر الحمري ووالدتها الفقيرة مريم. حينما ماتت، صام عبد السلام سنة كاملة محتجبا في الجامع الوحيد، وعمّ الدوار ظلام وحزن ما زال مستمرا حتى الآن. هل رأيتَ أيها الزمن ما أنتَ فاعل؟ زيارة الروح ارتجّ فؤادُه فتململ، كأنّ وحْيا صعقه ليقطع شريط مَشاهد الجدة التي ألهمته بالحياة، ويعتبرها سببا رئيسا في وجوده ووجود كل مَن هُم مِن صُلبه. توقفت السيارة بأضوائها المشتعلة أمام خلاء مندرس بلا باب أو سور. خرج فتبعته مريم بنفس الذهول والخوف والمفاجأة تشد يده بيديها. يمشيان معا على تراب وأحجار وسط صمت الموتى وأنينهم. يتوقف في مكان معلوم انقطعت عنه أضواء السيارة فيجلس مقرفصا، يُقبِّل حجارة قبر جدته فاطنة فيراها تقوم سعيدة تعانقه وتقبله وتقول له: تشبه كثيرا جدك الطاهر وابني محمد. ثم تلتفتُ نحو مريم المندهشة للمشهد فتحضنها بقوة وتقول لها: مريم ابنة حفيدي الغالي، إنك تشبهين أمي وستعيشين طويلا، فكوني ما كنتُ أتمنى، ولا تلتفتي إلى الزمن.