نورالدين صدوق 1/ يأتي هذا الملف بمناسبة الثامن من مارس، حيث دأب العالم على الاحتفاء بالمرأة. وبالتالي، ملامسة القضايا المرتبطة بواقعها. إلا أن اللافت وباستمرار تغييب العلاقة التي تربط بين الأدب والمرأة، أو بين واقع الكتابة الأدبية، وواقع المرأة، علما بأن المحفل الأدبي أولى عناية واهتماما بهذا الواقع على امتداد تاريخ الكتابة الأدبية، وعبر مختلف الأجناس التي حضر فيها تمثل هذا الواقع على تباين واختلاف مظاهره وتشكلاته على مستوى العالم العربي والإسلامي. 2/ وإذا كانت الكتابة الأدبية، في مفهومها الأوسع والشمولي، بمثابة التعبير عن الظواهر الاجتماعية المقلقة، فإن هذه الظواهر لم تكن لتتشكل بعيدا عن مكون أساس من مكونات المجتمع، وأرمي إلى عنصر المرأة. ولذلك تحقق النظر إليها في ضوء اعتبارها الأم، الأخت، الزوجة، المناضلة، المقاومة، العاشقة والعشيقة. هذه الصور المختلفة تفرضها وتفترضها بنية النص الأدبي، وبالتالي المعنى الذي يقصد إلى بنائه وتجسيده، وهو أيضا المعنى الذي تتحكم في آليات إنتاجه ثقافة الأديب ومرجعياته المعتمدة حال التأليف والكتابة. وهذا في العمق ما استدعى أن تحمل نصوص أدبية عربية وعالمية أسماء نساء. بل إن التداول الأدبي الموسع غيب أسماء مبدعيها ومؤلفيها، لصالح هذا الاختيار وهذه القصدية. 3/ على أن ما لا ينبغي تجاهله في هذا السياق، بالذات، أن الكتابة الأدبية عن المرأة لم تكن في يوم نتاجا ذكوريا وحسب، وإنما أنثويا على السواء.إذ من خلال أكثر من نص أدبي، تأتى للمرأة أن تعبر عن المشترك بينها وشخصية الرجل، بل إنها تقمصت شخصية الرجل بغاية تجسيد الاختلالات التي تطول واقعها، إلى الإشكاليات التي تمس حقوقها المدنية والسياسية. ويمكن القول راهنا، وبكل موضوعية، إن الكتابة الأدبية النسائية حققت وبجدارة أكثر من إضافة للأدب العربي في مسار تحولاته، كما في مواكبته للهزات والتفاعلات السياسية التي طبعت الحراك العربي. 4/ وتبقى علاقة الأدباء بالمرأة: أ علاقة تعبير عن مظاهر اجتماعية واقعية، من منطلق أدبي يتحكم في صوغه فعل التخييل. ب والقصد من التعبير، تجسيد واقع يقصد إلى تغييره، مادامت أي نهضة مدنية وسياسية لا تتحقق في غياب المرأة. ج وبناء على هذه القصدية، فإن المحتمل تباين المواقف، وبالتالي وجهات النظر، مادام واقع المرأة العربية في بعض الأقطار مترديا بشكل لافت. عبد العزيز بركة ساكن:* روائي سوداني أمْ مَامَا الكاتب عند بعض النساء هو شخص مُستباح، أرض بلا صاحب، أو لقيط عاطفي. وهن الداريات بشخصيته والعارفات بتحولاته وجنونه، وهن السابرات لحضيض غبائه العاطفي. فالكتابة ليست سوى فضح لاختلال التوازن الهرموني للشخص الكاتب أو الكاتبة. لذا تحمل رؤية للعالم دائما مختلفة عن تلك التي تصدر من السادة والسيدات المتوازنين. ويصدق هذا في المرأة المبدعة في مواجهة بعض الرجال: فهي مستباحة وأرض بلا صاحب ولقيط عاطفي ومصابة باختلال هرموني مزمن. أحب أن تكون المرأة صديقة، تنبت في أرض تخصها كشجرة الدوم تترك لي فسحة شاسعة في الأعلى وعلى مد البصر، لأنمو في المساحة التي تخصني، لا أمتلكها ولا تمتلكني. أحب المرأة التي تعرف كيف تكون قريبة جدا مني بينما هي في الواقع أبعد ما تكون، بل غير موجودة في الأصل. يفهم من ذلك أو لا يفهم أن علاقتي بالمرأة مرتبكة ومربكة: أحبها جدا ولا أطيقها. بين الحبيبة والاشتغال بالكتابة بقعة مسحورة: في جنوب كردفان بالسودان تُوجد منطقة تسمى «أم ماما»، وهي تقع بين قبيلتي الدينكا والرزيقات، كل من يمر على هذه الأرض ليلا أو نهارا من أي قبيلة كانت، عليه أن يعبرها جاريا بكل ما أوتي من طاقة، حتى لا يصيبه الشؤم. وبين الكاتب وصاحبته تتمثل هذه الأرض المسحورة المشؤومة في الزمن المخصص للعملية الإبداعية من قراءة وكتابة ومشاهدات وسماع وعلاقات إنسانية عابرة وعميقة وحب وصداقة وجنون ونساء أخريات غيرها أو رجال آخرين غيره في حالة المرأة الكاتبة. إذا لم يعبر كلا الطرفين هذه المساحة المشؤومة سريعا، كما يعبرها القبليون السودانيون من الدينكا والرزيقات، سيصاب بالشؤم. الأم والأخت والزميلة، والعاشقة العابرة، الابنة، الصديقة، الفيسبوكية، كلهن يسهل التعامل معهن. التي تُربكني هي المرأة الحبيبة، والأكثر إرباكا هي الزوجة لأنهما تصابان بالشلل عند منطقة «أم ماما». هذا لا يعني عدم أهمية المرأة في حياتي، بل العكس عدم أهميتي أنا في حياتها، فالمرأة لا تحتاج إلى رجل كاتب: المرأةُ مثل الريح، إذا أطلقتها ذابت في ريح أعظم وتركتك بغير هواء. أنا دون المرأة لا أسوى فقاعة. والمرأةُ دوني نصف إله، والنصف الآخر بحرٌ. إناث الأدباء في عالم متخيَّل.. تجربة قرائية رسول محمد رسول قد يكون الحديث عن تجربة الأدباء والمبدعين مع نساء عشن معهم أو عاشوا بينهن أمراً معتاداً؛ فالمرأة هي الصنو اللامتناهي كروح مراوغ وجسد مناور لا يمل لسانه من قول كينونته وذاته وخطابه في العالم هنا أو هناك؛ الصنو الذي لا يهدأ له بال إلا أن يكون الضيف المؤنث على مائدة الذكورة إن لم يُؤت إليه طعامه فهو يحيد فن أن يكون ضيفاً كامل الحقوق. عدا ذلك، قد ترتقي المرأة إلى عوالم الذكورة عبر وسيط ما، ومنه الوسيط الكتابي الإبداعي المتخيَّل، الذي تتربع فيه المرأة كسيدة في قصوره، ظالمة أو مظلومة، ماتعة أو متمتعة، جسد يترغب اللحظة الذكورية بشتى السبل أو يتهرب منه بسبل أخرى قصد امتلاكه إذلالاً. من هنا، راق لي، ابتداء من عام 2008، الارتماء في دراسة صورة المرأة في المتخيَّل السَّردي. كنت يومها أعيش في أبوظبي – الإمارات حين اقترح لي الصديق، الشاعر والمترجم المصري، محمد عيد إبراهيم، الاشتغال على صورة المرأة في الرواية الإماراتية، وكان آنذاك خبيراً في «وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع» بالإمارات، حتى إنني تشاورت مع مثقفين آخرين في هذا الشأن، منهم الروائي والشاعر المصري عبد الفتاح صبري، والزميلة الشاعرة الإماراتية هدى السعدي، فشرعت بذلك على نحو ممنهج عبر جمع النصوص الروائية الإماراتية القليلة يومها، والمتناثرة هنا أو هناك في الشارقة ودبي والعاصمة أبوظبي. كانت تلك تجربة أولى نتج عنها كتابي «تمثيلات المرأة في الرواية الإماراتية»، الذي صدر عام 2009 في أبوظبي، والذي تناولت فيه صورة المرأة الإماراتية في خمسة نصوص روائية إماراتية كتبها روائيون وروائيات من الإمارات بأوقات متواترة. في هذه الأثناء راق لي أيضاً متابعة صورة المرأة في النسيج الروائي الإماراتي من خلال كتابي اللاحق «صورة الآخر في الرواية الإماراتية»، الذي صدر عام 2009 أيضاً، عبر دراسة سبعة نصوص روائية، مكرِّساً مدخلاً جديداً لاستظهار صورة الآخر الأجنبي والعربي، بل صورته كأخ وأب وأم وحبيبة. وكان ذلك يمثل رؤية جديدة لتمثيل صورة الآخر في تلك النصوص، ومنها صورة المرأة كآخر بشري أو محلي أو وطني أو قومي أو كوني، فليس الآخر هو النظير الغريب عني فحسب، وإنما المختلف في كينونته الذاتية، الثقافية والحضارية والأخلاقية. لم يكن الاهتمام بتسريد عالم الأنوثة ليقف عند هذا الحد، إذ أقبلت على دراسة الجسد المتخيَّل في كتاب لي صدر عام 2010 تحت عنوان «الجسد في الرواية الإماراتية» عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. ومثلما اضطررت إلى بناء رؤية فكرية لتمثيلات المرأة ولصورة الآخر في مقدمتي ذينك الكتابين، كذلك فعلت في كتابي عن الجسد. فالجسد عندي ليس (الجسم)، وهو بالضرورة ليس جسد المرأة فقط، إنما تلك الكينونة الأنطولوجية التالية (Metabody) أو العلامة التي ينتجها فضاء الجسد أنى يكون، في العالم الواقعي وفي العالم المتخيَّل سواء. ولهذا اعتبرت الجسد علامة متخيَّلة، تصنعها مخيِّلة الروائي حسب مقتضيات السَّرد والحكاية والحدث والخطاب. وفي ضوء هذه الرؤية كان للجسد الأنثوي نصيب وافر من التأمل والتحليل النَّصي السيميائي. في ضوء هذه التجارب القرائية الثلاث، توافرت عندي رؤية قرائية نقدية كانت تتلمس طريقاً مختلفاً في معاينة النص السَّردي الخليجي الأنثوي، وهذا ما جربته في كتابي «الأنوثة الساردة… قراءات سيميائية في الرواية الخليجية»، الصادر عن دار التنوير عام 2013، الذي تطلَّب مني بناء نظرياً عن طبيعة (الكتابة الأنثوية)، بل الإجابة عن سؤال: «ما هي الأنوثة الساردة؟»، ماهيتها وطبيعتها وسبل حضورها في النص المتخيَّل، ومن ثم الانخراط في النَّص السَّردي الروائي الخليجي الأنثوي في أغلب حالات المرأة البيولوجية والعشقية والغريزية التي تمثلها السَّرد في تلك المنطقة، فكان كتابي هذا قد تركَّزت فيه قضايا المرأة في أكثر حالاتها أنوثة. كان كتابي «الأنوثة الساردة..»، الذي خصَّصته للرواية الأنثوية الخليجية، مدخلاً للانطلاق صوب الرواية العربية. إنه انتقال من الرواية الإماراتية صوب الخليجية فالعربية؛ في المغرب والجزائر ومصر ولبنان والعراق، وكان ذلك في كتابي «اللمس والنظر.. مقاربات في سرديات المحسوس المتخيلة» الصادر بالشارقة أيضاً عام 2013، والذي تناولت في بعض فصوله صورة الأنثى في سبعة عشر نصاً روائياً عربياً وخليجياً. كان ذلك الانفتاح أكثر شمولاً في تغطية صورة الأنثى الخاصة بالرواية العربية والخليجية في كتابي «شعرية المؤدّى السَّردي»، الصادر في دبي عام 2014؛ فمن أصل سبعة عشر فصلاً ضمها هذا الكتاب، خصصت عشرة فصول منه لدراسة تلك الصورة في روايات كتبت بأقلام أنثوية خالصة. في كل تلك التجربة القرائية كان تخصُّصي في الفلسفة الحديثة، وتحديداً في ميدان نظرية المعرفة، قد أعانني على سبر أغوار النَّص السَّردي المتخيَّل، متوسلاً بالمنهج السيميائي كطاقة للتحليل والبناء، جاعلاً من صورة المرأة الساردة والمسرودة موضوعة رائقة الحضور في ما ذكرته من مؤلِّفاتي المنشورة لي حتى الآن. * روائي وعراقي صورتان: الماضي والحاضر محمد صوف علمونا منذ طفولتنا الأولى أن النساء ناقصات عقل ودين.. وزرعوا في لاشعورنا أن الرجال قوامون على النساء. منذ طفولتنا الأولى ونحن نسمع أن الفتاة لا يجب أن تدخل المدرسة. وكم تردد على مسامعنا أن «لمرا سهم رجل»، وحتى من اجتهد والداها وأدخلاها المدرسة لم يذهبا بعيدا في تعليمها. قيل لهما: «يكفي أن تتعلم البنت كيف تصلي وكيف تقرأ الرسائل.. ومع ذلك فالبنت لم تكن تدخل الكتاب». ثم علمونا أن المرأة عورة بكاملها.. وأن حفظ العرض والسمعة يحتم على والديها أن يزوجاها في سن الثالثة عشرة. كل أمهات جيلنا أنجبن في سن الخامسة عشرة على أبعد تقدير . ومع ذلك كنا نرى فتيات نجيبات يحصدن النقط الجيدة .. ثم بدأنا نقرأ لكاتبات مثل مي زيادة.. والسؤال كان: كيف أتيح لها أن تكتب؟؟ لا أن تكتب وحسب، بل أن تسلب عقل كبار الأدباء..وبدأنا نقرأ لسميرة بنت الجزيرة العربية ونسمع عنها من رجال قبيلتها أنها مجرد داعرة. وكنا نعجب بذكرياتها الدامعة . ثم تعرفنا على عائشة عبد الرحمان وسهير القلماوي ولطيفة الزيات ونازك الملائكة.. إذا كن ناقصات عقل فكيف انتزعن إعجاب الرجال؟ وأي رجال.. كبار مثقفي هذه الأمة؟ وبدأنا نتعلم أن المرأة كائن مختلف تماما عن الرجل.. وهذا أمر يصعب على الرجل فهمه، فهو يريدها أن تكون انعكاسا لتصوراته ولرغباته وأهوائه.. ولأنه يكتشف أن دماغها كدماغه ولربما أرقى، أصبح يخاف منها ويرفض الاقتران بمتعلمة ومثقفة.. يميل إلى الأمية والقليلة التعليم ليتحكم أكثر ولتكون سيادته مطلقة. لذا يصعب على المثقفة أن تجد رفيق حياتها مقارنة بالأمية أو نصف الأمية . الأدباء أغلبهم يغني خارج السرب ويحترم الاختلاف وحق الإنسان الذي هو المرأة.. لذا كانت علاقاتهم مؤسسة على التساوي.. هنري ميلر وجون.. حكايتهما بعنفها وصخبها تجعل منهما كائنين استثنائيين.. سارتر وسيمون دو بوفورا.. كل منهما آمن بحرية الآخر حتى النهاية.. وتاريخ الأدب يروي حكايات بين أدباء وأديبات. وفي عالمنا العربي أيضا كتاب ارتبطوا بكاتبات ارتباطا يسوده احترام الآخر المتمثل في المرأة. كما أن فيه من لم يتحرروا مما غرسه فينا الأولون وجعلوا المرأة تابعة لهم لاحق لها في التعبير عن نفسها، ومنهم من يذهب في علاقته معها حد العنف.. خلاصة القول أن الأديب كائن اجتماعي مثله مثل باقي رجال المجتمع.إذا التقت الثقافة بالحب رسمت للمرأة صورتها الحقيقية . وفي الكتابات نادرا ما نجد المرأة تتحكم في مسار الأحداث.. في أغلب ما كتب حتى الآن تحتل الرتبة الثانية رغم القصائد التي تتحدث عن الملهمات وتتغزل فيهن.. إذ أغلبها تدخل في السياق أعلاه.. المرأة كائن جميل عذب رقيق المشاعر يمنح الحنان والدفء. الزمن يتغير والرؤى القديمة تتغير، ومع ذلك تبقى المرأة في الحياة كما في الأدب مخلوقا ثانيا، والمخلوق الأول كائن اسمه الرجل. ظل الاكتمال عبد النبي دشين يلتبس دوما الحديث عن الإبداع بالمرأة، لكونها تموضعت بين حدين: بحضورها كموضوع وقضية في المنتج الإبداعي أو كمحرض – مصدر إلهام- للمبدع الذي يستبطنها كأنا جوانية ثاوية في لا وعيه، يسعى باستمرار إلى استعادتها لترميم الذات المنذورة للانشطار، بهدف تحقيق توازن مفتقد. بجرح الفقدان تخلقت نصوص شتى في كل مناحي الإبداع، انطلاقا من طفولة الفكر البشري، حيث مجدتها الأساطير وأدانتها كذلك. ألم تدفع الشاعر العربي القديم إلى البحث المضني والتراجيدي عن صدى لصرخات نداءاته التي ذرتها رياح الفراغ والخواء، فصيّر قصيدته مأوى رمزيا يلوذ إليه بحثا عن دفء استعصى برحيل المحبوبة، التي انسلت إلى تجارب إبداعية تنوعت جغرافيتها وتعاقبت مراحلها التاريخية وظلت أملا زئبقيا يتأبى على القبض؟ ضمن هذه السيرورة تشكلت صورة مأمثلة لامرأة هي تركيب لمعان وقيم أكثر منها تجسيدا لأنثى إنسان. ضمن هذا التصور يتبدى حضور المرأة في الإبداع كإوالية منتجة لدينامية التجربة الإبداعية، سواء كانت أدبا، أو فنا (تشكيل – سينما – موسيقى – مسرح …). وبتباين مستويات حضور المرأة في الإبداع نستشف تجليات الإسقاط المتحكم في بناء صورة المرأة لدى كل مبدع. إن هذه الرؤية لطبيعة علاقة المبدع بالمرأة تدعونا إلى استحضار علاقة المرأة بالإبداع، بما هي تجل لحضور كينونة طالما تعرضت للإقصاء والإلغاء، وسعت إلى إعادة ترويض سلطة الواقع المادي المستنفر لكل آليات العنف ضدها وجعلها مساحات أينع فيها الحلم والحب والأمل، وهو طرح يسنده الرأي المدافع عن خصوصيات الإبداع الذي تنتجه المرأة، مقابل الآخر الذي يرفض تصنيف الإبداع وفق معيار الجنس، غير أن تقاطع العلاقتين، ارتكازا على ما تم إيراده سابقا، يمكن من الإقرار أيضا بأن المبدع والمبدعة كل منهما ينشد اكتمالا تتمرن الذات المبدعة على بلوغه أو بالأحرى عدم بلوغه لأن كل جديد إبداعي هو مخاتلة ومراوغة لنقطة الوصول، لذلك فالحضور النصي لكلا العنصرين يعد بمثابة وأد وتحنيط للكائن المفتقد في أفق تأبيده عبر تمجيد فقدانه. صورة جبالة في الوعي الكولونيالي الفرنسي بدر غنمات صدر مؤخرا عن مؤسسة بيت الحكمة للطباعة والنشر بمدينة تطوان كتاب «صورة جبالة في الوعي الكولونيالي الفرنسي». يأخذ العمل صورة محاولة جادة من الدكتورة حنان المدراعي لترجمة نصوص لإدوارد ميشو بيلير Edouard Michaux Bellaire مختارة من «الوثائق المغربيةArchives Marocaines». والواقع أن المترجمة استحضرت في اختياراتها التركيز على الخصائص المشتركة التي حددها ميشو بيلير، دون مقاربة النماذج الفردية التي تهتم بكل قبيلة على حدة، وعيا منها بأن البحث في المشترك الجمعي كفيل بفتح الأذهان على المنطلقات المؤطرة للقضايا المقترنة بالهوية السياسية والدينية والاجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف بيلير يعد من أبرز الأنثروبولوجيين الذين حلوا بالمغرب، وأقاموا به، وكتبوا عنه مادة غزيرة تناولت جوانب متعددة من الحياة المغربية. صدر ميشو بيلير في عمله عن وعي تام بمجموعة من الخصائص الثقافية والدينية والفكرية والسياسية لمنطقة الهبط، حيث أتاح له الاطلاع على بيئة جبالة والعيش بينهم ارتياد آفاق واسعة من الحكي والوصف لم يتم لفت الانتباه إليها من قبل. وقد أتيحت لأعماله فرصة النشر عبر صفحات «مجلة العالم الإسلامي Revue Du Monde Musulman»، «الوثائق الأمازيغية Archives Berbères»، «المدن والقبائل المغربية Villes et Tribus du Maroc «، «فرنسا – المغربFrance – Maroc»، «الوثائق المغربية «Archives Marocaines. انبنت الوثائق المغربية في صورتها ومفرداتها وهيكلها على الاهتمام بفترة زمنية تتميز بكونها من أدق فترات تاريخ المغرب الحديث عامة، ومنطقة جبالة بوجه خاص. فترة بات فيها المغرب مهددا في عقيدته ووجوده وسيادته نتيجة الضعف في الهيكل والبناء والتصور. إنه لمن المفيد التنبيه إلى التأثير الكولونيالي واضح المعالم في مثل هذه الدراسات التي جعلت العنف شكلا أساسيا للنظام المغربي، والفوضى عنصرا ملازما للمجتمع، ووصفت المغربي بالهمجية والبدائية وعدم احترام الغير. ومن جهة أخرى تعد هذه الدراسات من الأهمية بمكان من حيث بناؤها لرؤية تكشف النقاب عن صورة الذات من منظور غربي استعماري في فترات زمنية محددة، وتستكنه أبعادا سياسية وتاريخية وثقافية تحدد طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر. وقد أشارت المترجمة إلى ذلك في مقدمة كتابها: «تزخر دراسة ميشو بيلير لمنطقة جبالة بمادة علمية نادرة، وتعد بلا شك وثيقة فريدة تنير أبعادا هامة من الحياة السياسية والثقافية لدى جبالة، كاشفة عن صورتهم من منطلقات ذهنية مغايرة، ورغم ما قد يشوبها من تضليل تظل ضرورية لإدراك الذات من منظور ثقافي مختلف». بناء على ذلك سعت المترجمة في التفاتة ذكية إلى إطلاق عنوان «صورة جبالة في الوعي الكولونيالي الفرنسي: نصوص مختارة من الوثائق المغربية إدوارد ميشو بيلير» على ترجمتها تحقيقا لمبتغيين :أولهما إلقاء الضوء على الوثائق المغربية الخاصة بمنطقة جبالة، و ثانيهما الإشارة الضمنية إلى التأثير النوعي للفكر الكولونيالي على مواقف ميشو بيلير وآرائه. توزع الكتاب إلى خمسة أقسام خصص الأول منها للوقوف عند الوضعية السياسية والإدارية، وركز ثانيها على الوضعية التاريخية، وانصب ثالثها على الجانب الديني، و اتجه القسم الأخير إلى وصف بعض عادات وتقاليد جبالة من قبيل: حفلات الزفاف، العقيقة، الختان، والمآتم. وعموما يمكن القول إن ترجمة هذا الجزء من الوثائق المغربية يمثل إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، ويشكل محاولة جادة لرسم معالم صورتنا من منظور آخر، في صياغة محكمة تستجلي معاني الألفاظ المستغلقة، وتعمق النظر في الاختلافات اللغوية، وتحسن انتقاء المعادلات الدلالية المناسبة، بمنطق يراعي خصوصية اللغة المترجم إليها، مع التزام في الوقت ذاته بمميزات الخطاب الأصلي، مما ينم عن مراعاة للخصائص الفارقة بين اللغتين العربية والفرنسية، وتطلع واضح من لدن المترجمة لفتح آفاق التفكير من جديد على إشكالية الأنا من منظور مغاير. إدوارد ميشو بيلير/ترجمة : حنان المدراعي حَبَّةُ نُورٍ أيُّها الإله وداد بنموسى أنا بائعة الأسرارِ وأول سِرٍّ أنيَ السِّرُّ لا أتكشَّفُ لا أُبينُ لا أعَبِّدُ الطريق إليَّ لناسك أو عابد أو فاجر أو فاسق لا أقترب كي لا يفضحني الوضوح لا أترك الخجل يتراقص خلف خطوي لا أترك شميم الورد ولا مرارة الدفلى في ذاكرة أحدْ لا أثر لي على أي جسدْ لا أركع لوالد أو ولدْ لا أضعف حين لا سندْ وحين لا سر يليقُ بي؛ أتجدد في سري أعيد ابتكار ألغازي مني، وأصيرُ امرأةً بلا عددْ ومني أخلق الغموض الذي لا يقولني مرة أكون السلحفاة تمشي الهوينى على طريق تنمحي في الطريق ومرة أكون النسر لا يخطئ الفريسهْ وأحيانا أبزغ من شقوق السماء كما لو كنت مجرة تَنْئَى وكثيرا ما أستعير من الهواء سر البقاء ومن الناي بحةَ البكاء ومن التاريخ عراقة الحروب الدائرة بين قلبي ورغائبه كثيرا ما أسرق من الماء لون الماء كثيرا ما أتكوم في الغياب، كي يباركني الخفاء أنا بائعة السر وأولى أسراري أني سرُّ السِّرِّ لا أثق في فجر قد يعريني أو قدر قد يسابقني إليَّ لا أثق في الوردة ولا في القيثاره لا في الوعد ولا في الموعود لا في الكلمة ولا في أبعادها لا في الغصن عليه يحط الطير الطاهر ولا في الوسادة تأوي انتظاراتي أولى أسراري أني أحفظ سيرة الحزن يتآكل قلب الإنسان وأحفظ عنفوان الألم يلوك مصائر الفقراء والمرضى والماشين في الأرض بلا حياة والعاشقين يقهرهم وهم العشق والعظماء يمجدهم الفراغ أيها الفراغ أنا فراغك أنا بائعة السر في الفراغ ومن أسراري أني أتعقب خطو الإله وتذهلني بلاياه على الكوكب العفن وتدهشني عطاياه باليد اليمنى، يسلبها باليد اليسرى وأتبرأ من جرم آثاره وسواد الليل والموت الذي يسكن في حدقتي شياطينه وأهمس في روحه التي نفخ منها في رحم مريم أنا أيضا لي سر أيها الإله وسري أنيِ السر وسري أني سر من أسرارك أوَلَمْ تعطني عينا بها أحببتُ؟ وفَماً بهِ ثملتُ؟ وثقبا في الروح منه أبصر خطاياي؟ منه أتلصص على السلالة التي منها خيال الفراشات قبل الغروب شعيب حليفي قامَ متعجلا قبل طلوع فجر يوم السبت، اغتسلَ ثم ارتدى جلبابا وبرنوسا واسعا من الوبر توخيا من الصقيع الذي هبط حارقا هذا العام. ورغم هطول الأمطار فقد عزم على السفر وتنفيذ نيته التي عقدها بكل محبة دون أن يدري بالتفاصيل. قبل يومين، رتّبَ، هاتفيا، للقاءاته مع أصدقائه من الفلاحين،كما طلب من والدته أن تهيء له كسكسا بالقمح والفول الأخضر الكامل. وهو الذي لا يحب أن يخلف نواياه مهما كان، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالسفر إلى هناك، من كازابلانكا إلى بلدته الشاوية. والفجر، إنكَ على عتبته تحمل بين ذراعيك صُغرى أبنائك، ولية الله وفقيرته مريم. لفَفْتَها في بطانية بعدما كانت نائمة بلباسها، فقد أقسَمَتْ بأغلظ الأيمان – قبل نومها جوارك – أن تجهز لهذا السفر الباكر إلى جمهوريتها الضائعة،وإن استدعى الأمر بقاءها صاحية. لم يُرد لها أن تحنث وهي غارقة في نومها، فوضعها بالسيارة على الكرسي المجاور له وقد هيأ لها المكان. شعَرَتْ بهذا الانتقال، بحسها الطفولي القريب من أحاسيس الوليّات، والسيارة تشق طريقها، ففتحت فتحة صغيرة من عينيها ثم تململت. وجَدَت يده قريبة منها فقبلتها بامتنان ثم عادت إلى نومها والسيارة تحترق الضباب الكثيف المختلط بمتاريس من ظلام مفتول العضلات، الغارق في وحشة ليل عسعس طويلالم ولن يزعجه صوت محرك السيارة في طريق هو أقرب مسافة إلى الحياة والنور. ورغم تأملاته المتداخلة مع تذكرات ورثها في جيْناته، فإن الطريق في بلاد الشاوية تؤنسه مهما كان الليل والزمن موحشا، لأنه يرى فرسان البورغواطيين ومن جاء بعدهم، من آنفا إلى حطة زطاط، ما زالوا في أبهى حضورهم الرمزي الذي لا يراه إلا من امتلأ قلبه محبة وعشقا… أما هو، فقلبُه خرائط لا تبديل فيها منذ ذلك الزمن.. من آنفا إلى مديونة وأولاد زيان والدروة والنواصر وقبائل أولاد حريز وخلفهم المذاكرة قبل دخوله المزامزة حيث يجتمع كل العُبّاد والزّهاد ممن آمنوا بجدوى التوبة فقاموا حفاة برؤوس عارية للاغتسال من آثام الزمن نيابة عن الآخرين. دنا بسيارته من مدينة سطات التي باتت على مرمى شجر. وتحديدا بمركز صغير اسمه سيد العايدي ضمن نفوذ المزامزة أولاد ايدّر. خفّف من سرعتها وركنها جانبا، يفكرُ قبل أن تفاجئه ابنته وقد استفاقت من نومها. التفتَ إليها بعينين يملأهما دمعٌ زئبقي متكبر، ثم يقرر الدخول عبر طريق غير معبد يقود نحو دوار الكراريين، خلفه مقبرة منسية ترقد فيها، منذ أزيد من تسعين عاما، جدته من أبيه فاطنة بنت الطاهر. هل يُجازف بكل حيرته وحبه في هذا الطريق الموحل والليل والمطر نحو مقبرة مجهولة ضاع حارسها (عثمان بوزريبة) الذي شاع أنه هبط من السماء ثم اختفى في حياة أخرى. لم يترك الحيرة تستبد به كثيرا فقرر اتباع فيض خاطره نحو جدته التي حوّلت حياته من واقع مشقوق إلى خيال أسمر. رمى يده، مُشعلا النور الداخلي للسيارة، فأبصرَ على وجه ابنته ذهولا دافئا اختلط بابتسامة تائهة. رأى في وجهها وجه فاطنة وهي تنظر إلى وليدها محمد بن عبد السلام الذي وضعته نهاية غشت في نفس اليوم والساعة التي سيولد فيها حفيدها الشاوي. فاصل فاطنة بنت الطاهر، الجدة التي هرّبها، عبد السلام بن خليفة، من أتون حرب طاحنة ببلاد احْمَر في مطلع القرن العشرين، بعدما كان قد لجأ في ضيافة سرية عند الطاهر الحمري، زعيم تلك الجهة والمرحلة، للتنسيق معه حول محاربة النصارى الطامعين في بلاد الشاوية.. لكن بعد أربعة أشهر من وجوده ستندلع حرب قبلية قاتلة، هدفها إبادة سلالة الطاهر .. وقد كان عبد السلام، بقامته الفارعة وملامح وجهه القاسية لا يهاب الموت أبدا، فعارك لمدة سبعة أيام نفدت فيها كل الذخيرة والكثير من الأرواح ولم تنفد العزيمة والمكابرة. استُشهد الطاهر وابنه أحمد بعدما أرسل طفله الصغير مبارك لدى أخواله بشرق البلد، ولم يكن أمام سي عبد السلام بُدٌّ من إنقاذ ما تبقى من سلالة صاحبه ورفيقه، خصوصا تلك الوصية الأخيرة لمولانا الطاهر وهو ينزف دما فائرا وغضبا من غدر الأعداء. خرج عبد السلام مُكرها يبحث وقد أخذ معه فاطنة بنت الطاهر، الطفلة المذعورة ذات الأربع عشرة سنة، فحملها على فرسه عابرا الفلوات الساخنة، متوقفا لفترة بقبيلة أولاد عمران قبل ينطلق من جديد نحو المزامزة بدوار الكراريين؛ هناك عقد على فاطنة، وبعد ثلاث سنوات أنجبت ابنها البكر محمد..وبعد سنتين ماتت وهي تضع توأمها الذي عاشت منه ابنة وحيدة. ماتت فاطنة بنت الطاهر في سن الواحدة والعشرين تاركة طفلها ذا الثلاث سنوات يبكي، وطفلة اسمها فاطمة، عمرها ساعة أو أقل، لا تدري شيئا. ويروي حفدة من حضروا وفاتها حكايات ذات تفاصيل كثيرة عنها، منها: أنها لما ماتت ظلت تبتسم كما كانت تفعل في حياتها وبقيت دموعها منهمرة، وآخر كلماتها قولها : «اسمح لي آبويا الطاهر وسيدي عبد السلام». وربما (بل أنا متأكد) قالت أيضا: سيولد من صلب ابني محمد من يحمل صورتي وصوتي ويحفظ سلالة بويا وسيدي. رَوَت امرأة تنيف عن المائة سنة أن والدتها هي إحدى صويحبات فاطنة امرأة سي عبد السلام، كانت قصيرة القامة مكتنزة بلون أسمر خُلاسي، يشع منها نور الهيبة والطمأنينة، ورغم صغر سنها فهي تنطق بكلام حكيم لا يفقهه إلا الحكماء، كما كانت بركاتها ظاهرة وهي تطبخ أو تطحن أو تأتي بالماء من البئر أو تهيء الزريبة لنعجاتها، أو حينما كانت تروي للنساء، وابنها في حِجرها ينظر إليها، عن الطاهر الحمري ووالدتها الفقيرة مريم. حينما ماتت صام عبد السلام سنة كاملة محتجبا في الجامع الوحيد، وعمّ الدوار ظلام وحزن ما زال مستمرا حتى الآن. زيارة الروح ارتجّ فؤاده فتململ كأنّ وحيا صعقه ليقطع شريط مَشاهد الجدة التي ألهمته بالحياة، ويعتبرها سببا رئيسا في وجوده.. ووجود كل من هُم من صلبه. توقفت السيارة بأضوائها المشتعلة أمام خلاء مندرس بلا باب أو سور. خرج فتبعته مريم بنفس الذهول والخوف والمفاجأة تشد يده بيديها. يمشيان معا على تراب وأحجار وسط صمت الموتى وأنينهم. يتوقف في مكان معلوم انقطعت عنه أضواء السيارة فيجلس مقرفصا، يُقبل حجارة قبر جدته فاطنة.. فيراها تقوم سعيدة تعانقه وتقبله وتقول له: تشبه كثيرا جدك الطاهر وابني محمد. ثم تلتفتُ نحو مريم المندهشة للمشهد فتحضنها بقوة وتقول لها: مريم ابنة حفيدي الغالي، إنك تشبيهين أمي. (مقطع من نص طويل)