حين كان ضحكُ الأطفال يتجاوبُ وغناء النّساء المشتعلات بين شواهد القبور وأعذاق العسل البرّي. هُنا، في فاس، بمقبرة ابن عربي المقابلة لباب المحروق المسربل بذاكرة النّار، وقفتُ قبل فترة مدفوعاً بفرح جارف. تُرابها بليلٌ بالأمطار الأولى. قبورها الجيرية أو المزلَّجة أو الُمترَّبة راسخةُ السَّهَر في رُباها ومنحدراتها. صُبّارها مرتجفٌ بالهواء الغسقي. وفي أعاليها تتصايح الخطاطيف العميقة. شرفةٌ موقدةٌ من شرفات الأبديّة. وقفتُ، حيّاً وميِّتاً في آن، أصغي للأناشيد الأصلية، والبهجة المتفاقِمةُ ترجُّ الجسدَ وأزمنته. ما من خطابِ قديرِ على النّهوض بأعباء المشهد المشبوب سوى الصّمت المنخطف، السّكران، الذي لا يقول للحياة العميقة "وداعاً"، بل يلتحق بأغوارها مُتْرعاً بنداء العناصر والبدايات، مُوقِناً بأنّه في كلّ لحظةِ من مملكة هذا العالم تتحالف أزمنةُ الحياة كلّها وأزمنة الموت كلّه. الأعمار الآتية لجمال الغيطاني يطالعني وجه المبدع الراحل جمال الغيطاني، فأفكّر، بنوع من الترابط الغامض، أنه حتّى الآن لا تزال بعض القبائل الأفريقية تضع على قبور موتاها الأعزّاء حصتهم اليومية من الطعام والشراب، والأهمّ من ذلك تواظب على استشارتهم والتماس النُّصح منهم، مبرِمة من خلالهم ذلك الميثاق الخلاّق مع الموت الذي تعلّمه كاستانيدا من الهندي خوان في كتابه "قدرات الباطن". إنّ الموت، الذي يضع حدّاً للعمر الأرضي للكاتب، يحرر أعماره الرمزيّة. وبالنسبة لجمال الغيطاني أعتبر أنّه حيّ بأكمله، بأشد الحيوات توهّجاً، في "الزيني بركات"، و"كتاب التّجليات"، و"متون الأهرام" و"هاتف المغيب"، وفي ظلّه المديد والوارف في "أخبار الأدب"، وفي ما لا يحصى من المقالات والمواقف والحوارات، وأعتبر أن اللقاء به، من الآن فصاعداً، يظلّ متواصلاً داخل هذه الأعمال –الأراضي التي استعادت للنّثر العربي عنفوانه التاريخي وردّت على انكفاءات المرحلة بالانتصار لقامة الكتابة وقدرتها على اختراق الرداءات والعتمات والنظر في أعماق البلايا وصيانة الجماليات وابتكار آفاق جديدة. لم نلتق، جمال الغيطاني وأنا، مباشرة أبداً، لكن ظل واصلاً بيننا ما يشبه النفق الفرعوني منذ إعجابه ب "العشاء السفلي" ومبادرته، دون علمي، إلى ترشيح هذا العمل لجائزة الرواية العربية التي كانت ترعاها الشاعرة الكويتية سعاد الصباح (والتي أجمعت لجنتها على استحقاقه لها قبل أن تتوجّس من عدم ترشيحي الكتاب بنفسي وبالتالي من إمكانية أن أتخذ موقفا ًمن الجائزة وأرفضها، ففضّلت عدم المغامرة بها ومنحتها لعمل آخر)… ولعلّني، باعتذاري قبل سنوات عن المشاركة في الندوة العربية "الرواية والتاريخ" التي دعاني إليها الأستاذ جابر عصفور باسم المجلس الأعلى للثقافة بمصر آنذاك، فوّتتُ فرصة ذهبيّة لملاقاة مبدع "متون الأهرام" في موئله الكوني ببرّية الفراعنة وصروح المماليك وقاهرة المُعزّ التي أعاد نجيب محفوظ بناءها… لتسهرْ روح جمال الغيطاني الوثّابة طليقة عبر الزّمن. إيلزا موارنطي : لِيَكُنْ سلام إليكِ في وادي الأمّهات قبل ثلاثين عاماً بالضبط، في نونبر 1985، رحلت الكاتبة الإيطالية الملتاعة إيلزا مورانطي، بعدما أوصت بأن تصاحب مراسيمَ دفنها موسيقى موزار وباخ وبوب دايلن، وبعدما استحقت لقب الساحرة الرُّومانية الذي أطلقه عليها محبّوها الكُثْر (في أوروبا طبعاً وليس في العالم العربي الذي لا تعرفها فيه سوى قلّة قليلة)، لأن أعمالها العميقة ليست كتابات، بل رُقى وتعاويذ وتمائم لتحصين الروح الجريحة من شراسة التاريخ ووقاحة المنطق وصفاقة الواقع. وكالولادات الصّعبة، تطلع كلماتها مهتاجة بألم الأحشاء وبهجة الخلاص. لذلك حين بلغها أن الصحافي الفرنسي الذي أوفدته "ماغازين ليترير" إلى روما لمقابلتها (في سياق ملفٍ شامل كانت تعدّه عن تجربتها) اتصل بألبرتو مورافيا، زوجها السابق، ليسأله عنها، أرعدتْ وقالت للصحافي : "سألتَ مورافيا عنّي، ولكن مورافيا ليس أنا، إنه هو، وأنا ليس لديّ ما أقوله عن نفسي أكثر مما كتبتُه. أنا موجودة جسمانيا في كتبي..". وهي موجودة بكلِّ ذرّات كيانها في أعمالها الفخمة: في "الوشاح الأندلسي" و"أباطيل وانتهاكات" و"لاسطوريا" و"آراتشايلي"، روايتها الأخيرة التي تجعل فيها رجلا أربعينيا مضطرب البصر والحواسّ يسافر إلى منطقة "ألميريا" بالأندلس بحثا عن طيف أمّه الرّاحلة آراتشايلي. حتى الآن لا يمكنني النظر إلى صورها دون استذكار وجه "فيدرا" المروّع بموت حبيبها هيبوليت، فقد كان لإيلزا مورانطي حبيب طفوليُّ الملامح هو الفنان التشكيلي الأمريكي "بيل مورو"، ومات باكراً، فاشترت ما أمكنها العثور عليه من لوحاته واعتكفت في سهرة جنائزية طويلة كتبت خلالها مرثية أسمته فيها "الغلام السّماوي". وقبل سنتين من رحيلها، استعادها أقاربها بأعجوبة، وهي شبه محتضرة، حين كادت تفلح في الانتحار بغاز المطبخ. وهي الآن، بالنسبة إليّ، تسهر في وادي الأمّهات اللّواتي يُربّيني ويعلّمنني باستمرار. شُرفة ما ورائية موقدة نادراً ما يتمُّ التفكير في المقبرة كفضاء مُفرِح وفرحانٍ، كمكانٍ حدوديٍّ يقفُ فيه الجَسَدُ أمام سواحله الكبرى. ابْتعَدَ، في الزّمن وفي الخيال، اسمُها الآخر، المعشوشب والمُزْهر : الرّوضة، كما ابتعدت الآماد التي كان الأحياءُ يُصادقون خلالها الموتى في أصائل الرّبيع، حين كان ضحكُ الأطفال يتجاوبُ وغناء النّساء المشتعلات بين شواهد القبور وأعذاق العسل البرّي. هُنا، في فاس، بمقبرة ابن عربي المقابلة لباب المحروق المسربل بذاكرة النّار، وقفتُ قبل فترة مدفوعاً بفرح جارف. تُرابها بليلٌ بالأمطار الأولى. قبورها الجيرية أو المزلَّجة أو الُمترَّبة راسخةُ السَّهَر في رُباها ومنحدراتها. صُبّارها مرتجفٌ بالهواء الغسقي. وفي أعاليها تتصايح الخطاطيف العميقة. شرفةٌ موقدةٌ من شرفات الأبديّة. وقفتُ، حيّاً وميِّتاً في آن، أصغي للأناشيد الأصلية، والبهجة المتفاقِمةُ ترجُّ الجسدَ وأزمنته. ما من خطابِ قديرِ على النّهوض بأعباء المشهد المشبوب سوى الصّمت المنخطف، السّكران، الذي لا يقول للحياة العميقة "وداعاً"، بل يلتحق بأغوارها مُتْرعاً بنداء العناصر والبدايات، مُوقِناً بأنّه في كلّ لحظةِ من مملكة هذا العالم تتحالف أزمنةُ الحياة كلّها وأزمنة الموت كلّه. لَقطةٌ خام من أراضٍ لا تنام المكان: قاعة المعرض البلدي بمكناس. السياق: الشاعر اللاّ محدود محمود درويش يقرأ رائعته "مديح الظل العالي" على هامش ندوة عربية. وصلْنا، الروائي اللبناني إلياس خوري وأنا، متأخّرَيْن. وجدنا جميع المقاعد غاصّة بالحضور، وصوت درويش يُضيء بمصباحه الذّهبي الصارم انكسارات وضعنا العربي، فانتحينا جانبا ووقفنا ننصت. بعد زمن قِرائيّ زاخر، انتهى المديح الرّثائي المهيب، وتعالت من القاعة أناشيد فلسطينية ملتهبة، والعزيزة الناقدة العربية خالدة سعيد، غير بعيد عنّا، تغالب دموعها من التأثّر العميق. التفتتُ إلى إلياس خوري وسألته عن أحواله في بيروت فحدّثني قليلاً، وصمت برهة ثم استطرد: "في بيروتَ ، بفتح التاء، ألم تلاحظ أنّ كثيرين يجرّون هذه المدينة وهي لا تُجَرُّ.." فبادرته: "أنا لا أجُرُّها يا إلياس ولا أطيق أن تُجَرَّ، سواء نَحْوِيّاً أو واقعيّاً" فهتف بي ضاحكاً "يا أخي جُرَّها الله يخلِّيك أحسن ما يجرّوها الصّهاينة..". جهة غامِضةٌ آسِرَةٌ جهة غامِضةٌ آسِرَةٌ ، تحاوركِ وتحاورينها، ترقُبكِ وترقُبينها، رأيتها ما وراء وجهك المظلم والخصيب، وجهك النَّيِّر والمُزْهِر، جهة يسكنها "تحوت"، إله الكتابة الفرعوني، و"عشتار" أمّ الخصوبات السُّومرية، وقد تجاورتْ فيها الأزمنة والمَمرّات، وتجمهرت الدّماء والسّهرات، جهة هي برزخكِ، حديقتك العميقة، نوركِ المهيب، ظلامكِ المرئي، تُرابك، هواء سطوحكِ، نيران غابتك القديمة ونيران بذوركِ، علامة فقركِ الأزلي وعلامة ثرائك، داركِ، مداركِ، أعيادكِ، سُطوع شموسكِ، نشيد ليلك الزّاخر بالليالي، مهوى أحلامكِ السحيقة وموئل أزمانكِ، جبالكِ وهاد لياليك، وهاد رقصتك الأخيرة، أُبَّهة كلامك، عطور صباحاتك، عطور موتك المحدق، حضور غيابكِ الذي هو دائما غيابٌ آخر، سلامكِ البرّي وسلام برهانِك، غواياتك، ألحانكِ، أساطير أعماركِ، أساطير حبّكِ المبذول بسخاء، حبّك المهجّج للذاكرة والأعضاء والكلمات وأقاليم الموتى، مخاوفكِ، أحاجيكِ، أقمار صيدكِ الغابوي، أقمار استعاراتكِ القديمة وأقمار موتك … كاتب ياسين: "نريد سيدة هذه البلاد" بعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة على مغادرته زمن الأرض، يظلّ المبدع الجزائري العميق كاتب ياسين اسما مفصليّاً حقّق امتداداً عربيّاً وعالميا بروايته الفخمة والأليمة والمتوهّجة "نجمة"، المستحقة لهذا الاسم العميق والمضيء. هو الذي جُنّت أمّه لاعتقادها بأنه قُتِل في مظاهرات "سطيف" (1945)، فيما كان معتقلاً وعمره لا يتجاوز ست عشرة سنة، سيُتاح له بعد خروجه من السجن أن يعثر في الحبّ الكبير لفتاة من قريباته على الخميرة الكيانية التي تفاعلت مع الثورة المفتوحة وأنضجت دواخله. مِثلُه مثْل نجمة التي تخلّقَتْ بذرتها في إحدى المغائر، تخلَّق هو ككاتب ثائر داخل عزلة اللغة الفرنسية نفسها، خائضاً حرباً قبائلية عميقة بين أجراف كلماتها، ومنجزا ثورة رمزية داخل الثورة التاريخية. لأنه أدرك أن الاجتثاث الممنهج للرّموز الهوياتية، الذي كان يمارسه (ولا يزال بصورة أشدّ وأفتك) النظام الاستعماري وآلياته الجبّارة ومرتزقتُه المحلّيون المنتفعون به، أخطر وأكثر تدميراً –في مقياس التاريخ الطويل –من قتل الأجساد ودكَّ المدُن، لأنّ الرّمز هو الأساس الكياني الذي ترتكز عليه الحيوات الفردية والجماعية، وتنهض عليه المجالات جميعها، ويشعل الضوء في ليل المعني. من جهة هذا التورّط الغائر ينبغي قراءة صرخته في أحد نصوصه الشعرية: "نريد سيدة هذه البلاد/ وليس خليلاتها…". حي بن يقظان أنا الغابة الأولى قلبُ الأرض المهتاج وابن اليُتم العميق، رضيعُ الظّبية الوثنية ذاتِ الرّأفة العُليا وسليلُ ظلمة المعْنى حيث رأيتُ الإشارات تنبتُ بين ينابيع الموتى وأجراف القَلْبِ السحيق