لا أحد يجادل في وجود أزمة تجديد النخب داخل الأحزاب السياسية. ما الذي يمنع هذه الهيئات من أن تفتح الباب أمام الكفاءات الشابة؟ من المعلوم أن تجدد النخب يظل رهينا في جزء هام منه بطبيعة البنية التي تحتضن هذه النخب؛ فكلما كانت ديمقراطية ومبنية على المنافسة الشريفة ومنطق الكفاءة؛ إلا وبرزت حركية وحيوية هذا التجدد وتعززت وظيفتها من خلال الانفتاح على كفاءات جديدة تسمح بمواكبة التحولات المجتمعية وبتغذية نفسها بأفكار جديدة، وكلما كانت البنية مغلقة إلا وسادت الممارسات الاستبدادية وضعف أداؤها وانحرف مسارها. والنخب الحزبية المستبدة؛ غالبا ما تفرض مجموعة من الشروط التعجيزية للالتحاق بصفوفها؛ كما أنها لا تقر بأهمية الممارسة الديمقراطية إلا عندما تكون هذه الأخيرة في صالحها. إن هذه الوضعية لا يمكن أن نفصلها عن الحالة المزرية التي تعيشها معظم الأحزاب؛ التي لم تستطع تطوير أدائها، وظلت تعيش أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية وبلورة وظائفها الاجتماعية والسياسية والتربوية المفترضة، حيث تصبح الديمقراطية الداخلية بدون معنى أو جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب؛ ويفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة؛ ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية؛ بالشكل الذي يكرس “شخصنة” هذه الهيئات ويحول دون تجددها، ويخلق حالة من التوتر والصراع بين الأحزاب وتنظيماتها الشبابية؛ وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للدولة بإعمال أسلوب الديمقراطية و”التناوب السياسي”؛ في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها في ممارساتها الداخلية؛ وفاقد الشيء لا يعطيه. وجدير بالذكر أن أزمة تجديد النخب الحزبية هي التي تقف خلف بروز مجموعة من المظاهر السيئة ضمن ممارسات الأحزاب من قبيل عدم الانضباط لمبادئها وتنامي ظاهرة الترحال السياسي وإبرام التحالفات العشوائية ومنح التزكيات بصورة عبثية وغير خاضعة لمنطق الكفاءة والمسار النضالي للعضو داخل الحزب.. * هل هذا يعني أن المشهد الحزبي لا يستجيب لما يطلق عليه في علم السياسة بعملية دوران النخب؟ مع وجود حراك مجتمعي بحاجة إلى إشارات تعكس الرغبة الحقيقية في التغيير والإصلاح من جهة؛ ومقتضيات دستورية جديدة تفترض التنزيل من جهة أخرى؛ هناك سؤال يطرح نفسه بحدة مفاده: هل استوعبت الأحزاب السياسية تحديات المرحلة ومتطلباتها؟ من خلال متابعة العشوائية التي تطبع منح عدد من الأحزاب للتزكيات إلى حد الاستفزاز لأعضاء ينتقلون للتو من حزب آخر ضدا على قواعد هذه الأحزاب؛ وانخراط عدد منها في إبرام تحالفات انتخابية هشّة؛ وإصرار عدد من القيادات الحزبية للعودة إلى مواقعها البرلمانية والحكومية من جديد.. يبرز أن هذه الأحزاب تصر على صم أذانها أمام هذه المتغيرات؛ وتريد أن تفرغ ما حدث من تحوّلات من كل مضمون وأهمية؛ وتزج بالمشهد السياسي في متاهات أخرى. فالمضامين الدستورية الجديدة ستبقى بدون جدوى وبدون أهمية؛ بل يمكن أن تخرج عن سياقها إذا ما تنزيلها من قبل بعض نخب انتهى زمنها السياسي الافتراضي؛ ولعل إعطاء هذه المضامين دلالة وقوة لا يتأتي إلا عن طريق نخب جديدة، وهو ما يسائل الأحزاب السياسية في العمق. وأعتقد أن الانتخابات المقبلة ستضعها على المحك، لان رهان هذه الاستحقاقات يتوقف على حجم المشاركة لكي تعطي نوعا من المشروعية والمصداقية للحكومة والبرلمان المقبلين، طبعا هذا لن يتأتي إلا بإشارات من إيجابية من الدولة ومن الأحزاب السياسية، بدل التمادي في سلوكات متجاوزة تنفر المواطن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. * ما تأثير هذا الوضع على التنزيل السليم لمضامين الدستور؟ تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة بصورة سليمة تعيد الثقة للمواطن؛ يفرض فتح المجال أمام إلى نخب جديدة واعدة، وما أكثرها اليوم، وفي شتى المجالات، العلمية والسياسية والتقنية والاقتصادية.. لأن تنزيل هذه المقتضيات بنفس الوجوه السابقة وبنفس العقليات، سيتم حتما بشكل مشوّه وخارج السياق الذي جاءت فيه ومن أجله هذه المقتضيات، لأن النخب التي لا تؤمن بالممارسة الديمقراطية وبالتداول السياسي والمنافسة الشريفة تبعا لمنطق الكفاءة.. في ممارستها اليومية؛ لا يمكن أن تسهم في بلورة نصوص تشريعية وتنظيمة تدعم هذا التحول الديمقراطي البنّاء الذي يريده المغاربة. وقبيل إجراءات الانتخابات التشريعية 2011؛ أعتقد أنه إذا كانت الدولة من جانبها تتحمل المسؤولية من حيث ضرورة توفير الضوابط القانونية والتدابير التي تكفل مرورها في جو سليم؛ فالأحزاب السياسية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بإعطاء نموذج واعد في الديمقراطية الداخلية وتجديد النخب والسلوكات المسؤولة؛ بما يمنحها المشروعية والمصداقية في دعم الانتقال نحو الديمقراطية ويسهم في حدوث المصالحة بين المواطن والشأن الانتخابي والسياسي.