لم يقتنع بعد عدد من قادة الأحزاب المغربية القدامى، الذين يلوحون ب»الشرعية التاريخية» كل حين، بأهمية فتح الفرص أمام الفعاليات الشابة، التي أثبتت جدارتها وإمكانياتها في عدد من المجالات والميادين، لتحتل مواقع قيادية داخل الأحزاب السياسية وتسهم في إخراج الأحزاب من جمودها وانغلاقها. والمؤسف أن هذه الظاهرة غير السليمة أصبحت تطبع عمل عدد كبير من الأحزاب، بما فيها تلك تعتبر نفسها محسوبة على الصف الديمقراطي. فقد أضحى عدد من الأحزاب السياسية المغربية مجرد مؤسسات مغلقة، تغيب فيها مظاهر الشفافية والممارسة الديمقراطية، بل ووصل ارتباطها بأشخاص معينين في المخيال الشعبي إلى حد الحديث عن حزب فلان بدل التركيز على اسم الحزب أو إيديولوجيته، وهذا أمر يترجم الهالة التي تعطى للزعيم الحزبي أو التي يحاول أن يخلقها لنفسه والتي تسمح له، في كثير من الأحيان، بتحويل الهزائم إلى انتصارات وإطلاق وتوظيف خطابات وشعارات وتصورات لا تتلاءم وتحديات وواقع المرحلة الراهنة. ومعلوم أن الممارسة الحزبية في عدد من الديمقراطيات التقليدية أو الفتية حسمت مع هذه المظاهر المتجاوزة. إن هذه الوضعية، التي تعكسها مظاهر التوتر بين «شبيبات» الأحزاب وقياداتها، لا يمكن أن نفصلها عن الحالة المزرية التي تعيشها معظم الأحزاب التي لم تستطع تطوير أدائها وظلت تعيش أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية والتي عكستها الانشقاقات المتتالية في صفوفها، أو على مستوى بلورة وظائفها الاجتماعية والسياسية والتربوية المفترضة، فالديمقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب، حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية، بالشكل الذي يكرّس «شخصنة» هذه الهيئات ويحول دون تجددها ويخلق حالة من التوتر والصراع بين الأحزاب وتنظيماتها الشبيبية، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب الدولة بإعمال أسلوب الديمقراطية و«التناوب السياسي»، في الوقت الذي تتنكر فيه هي نفسها له في ممارساتها الداخلية. ويزيد من تأزّم هذه الوضعية تفشي ظاهرة الترحال في البرلمان من حزب إلى آخر بصورة مستفزّة لإرادة المواطن/الناخب ومسيئة إلى عمل هذه الأحزاب التي لم تعد قادرة على إنتاج نخب ملتزمة ومؤمنة ببرامجها وأفكارها ومستعدة للتضحية في سبيل مبادئها وأهدافها في مواجهة كل إغراء أو تهديد، ناهيك عن تهافت الأحزاب على استقطاب الأعيان خلال الانتخابات، مما يؤكد عدم قدرتها على تحديث وتطوير بنائها ووظائفها الاجتماعية والسياسية، وعدم استحضار الكفاءة والموضوعية في تزكية المرشحين، والرغبة في الفوز بأكبر عدد من المقاعد بكل الطرق والوسائل.. وظاهرة الانشقاقات، التي تحدث بين الفينة والأخرى داخل بعض هذه الأحزاب والتي كان من نتائجها بروز أكثر من ثلاثين حزبا في المشهد السياسي المغربي، تحيل على القول بأنها تعبير عن عدم القدرة على تدبير الاختلافات بشكل ديمقراطي، وهي أيضا مؤشر على الأزمة التي تشهدها هذه القنوات على مستوى تجديد نخبها وقياداتها بما يسمح بتشبيبها أو انفتاحها على مكونات وكفاءات اجتماعية.. مختلفة. ومعلوم أن تنامي هذه الانشقاقات، بالإضافة إلى عودة الزعماء القدامى إلى قيادة الأحزاب تحت ذرائع ومبررات عدة، كانت من ضمن عوامل عدة أسهمت في مغادرة عدد من الطاقات الشابة للأحزاب وامتناع عدد كبير منها عن الانضمام إلى أحزاب لا تسمح لها بإبراز طاقاتها وإمكاناتها وانتظاراتها وتصوراتها.. وأدّت إلى تنامي العزوف السياسي بشكل عام والانتخابي على وجه الخصوص الذي بلغ 37 في المائة حسب إحصائيات رسمية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة. من الواضح أن فسح المجال أمام فعاليات شابة لقيادة الأحزاب يحمل دلالات نفسية وسياسية إيجابية يمكن أن توفر شروط المصالحة بين المواطن والشأن السياسي بشكل عام وترسّخ لديه القناعة بأهمية الانخراط في الأحزاب، طالما أنه سيجد نفسه داخلها، وبالطبع فلا يمكن أن نتصور أن الشباب سيشيحون بوجوههم عن قياداتهم التاريخية إذا ما تحملوا مسؤوليات قيادية، لأن تطوير عمل الأحزاب يقتضي أيضا الانفتاح على تجارب هؤلاء الزعماء وخبراتهم. ومن المؤكد أن فتح المجال أمام الجيل الجديد ليتبوأ مواقع قيادية داخل الأحزاب ينبغي ألا يترك لمزاجية القادة، بل ينبغي أن يؤطر بقواعد وضوابط قانونية حتى لا يسمح بتكرار نفس التجارب وإنتاج نفس النخب المنغلقة. إن سلوك بعض القادة في هذا الشأن، لا يسيء إلى وحدة الأحزاب ذاتها وبرامجها وتصوراتها بقدر ما يؤثر بالسلب على المشهد السياسي برمته. وجدير بالذكر أن الاختلالات التي تعيشها الأحزاب المغربية حاليا ليست في صالح المجتمع ولا هي في صالح الدولة ولا في صالح الأحزاب السياسية نفسها. ذلك أن تأمين انتقال ديمقراطي حقيقي يتطلب انخراطا من قبل الدولة والمجتمع، بمختلف مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والأحزاب السياسية، باعتبارها محور وأساس العمل السياسي، تتحمل مسؤولية كبرى في هذا الصدد. ولا يمكن أن نتصور أن المشهد الحزبي في وضعيته الراهنة يسمح بتحقيق انتقال ديمقراطي مبني على أسس متينة، فهناك عدد كبير من الأحزاب السياسية لم تعد قادرة على إنتاج وبلورة تصورات وأفكار ومشاريع اجتماعية وسياسية واضحة المعالم تستمد مقوماتها من الواقع، كما أن خطاباتها لا زالت جامدة ومتجاوزة ولا تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية وتصورات وانتظارات الأجيال الجديدة، فيما تفتقر غالبيتها أيضا إلى مشروع مجتمعي واضح المعالم بعدما تحولت من مؤسسات مفترضة لدعم المشاركة السياسية وللتأطير السياسي والتعبئة والتنشئة الاجتماعية وبلورة المطالب وتمثيل المصالح.. إلى قنوات انتخابية مغلقة تغيب فيها مظاهر الشفافية والممارسة الديمقراطية، تنتج نخبا تبرر الخطابات الرائجة ولا تستحضر سوى مصالحها، فحضورها -الأحزاب- تطبعه المرحلية، وغالبا ما يقترن بالمناسبات الانتخابية. وإذا كانت الأحزاب السياسية بحاجة إلى اعتماد إصلاحات داخلية تسمح بتجديد نخبها وتدبير اختلافاتها الداخلية بشكل ديمقراطي وبلورة وظائفها الاجتماعية والسياسية والتربوية المفترضة وانفتاحها على مختلف مكونات المجتمع وقضاياهم بما يتيح تجاوز مختلف الاختلالات التي تميّع العمل السياسي وتنفّر منه، فإن الدولة نفسها مطالبة بأن توفر الضمانات الدستورية التي تتيح للأحزاب تطبيق برامجها والوفاء بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها أمام الناخبين من داخل البرلمان أو الحكومة، وتوفير الشروط الموضوعية والقانونية التي تسمح بمرور الانتخابات في أجواء صحّية وسليمة مبنية على النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص واحترام إرادة الجماهير بما يسمح بوصول نخب على قدر كبير من الكفاءة والمصداقية إلى المجالس التمثيلية، وبالشكل الذي يتيح مواجهة مختلف التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. المطروحة، ويقوّي ثقة المواطنين المغاربة وإيمانهم بأهمية الاهتمام بالشأن السياسي ومؤسساته، وبما يعطي مدلولا ومعنى للانتخابات ويسهم بالتالي في إنضاج تجربة ديمقراطية حقيقية.