الدستور غاضب وأعضابه مشدودة إلى أقصى الحدود، والحداثة في السياسة تحتضر في انتظار تهيئ مثواها الأخير. ليس في هذه التلوينات المجازية من مبالغة، بل على العكس من ذلك، لو كان الدستور رجلا يمشي بيننا لاستقال وصفق الباب في وجه الجميع ورحل، ولو كانت الحداثة امرأة بلسان سليط للعنت مدعيها وانتحرت كي ترتاح من الخزي الذي يلصقونه بها... هكذا مر الأسبوع الذي ودعناه، نكوص وتراجعات بلاحدود، و"زعامات" قادرة على تبرير التفاهات، لدرجة أن تجعل الأسوأ منها، و«بجرة لسان»، إنجازا عظيما لاسابق له وقد لايجود الزمان بمثله. لا أحد من العقلاء أراد أن يصدق أن ذلك حدث فعلا، المعارضة بجلال قدرها ترتعش خوفا من الهزيمة في الإنتخابات، لامشكل في ذلك، في الأمم الديمقراطية كلها تنهزم الأحزاب يوما وتفوز يوما آخر، وهاهو فرنسوا هولاند القريب إلينا، وبعد أن ثمل خمرا ونساء بهزم ساركوزي في انتخابات رئاسة الجمهورية بالأمس يتجرع اليوم مرارة الهزيمة القاسية في انتخابات الأقاليم، لكن غير العادي، هو أن تستنجد المعارضة بسلطات الملك وتجره إلى خرق الدستور، في حنين طفولي إلى زمن الملكية التنفيذية، كي يتدخل ليلجم لسان رئيس حكومة لم يفعل سوى أن رد لقيادات الإتحاد والاستقلال والأصالة والمعارصة الصاع صاعين، وتلك مبارزة باللسان فيها «العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم». إنه« ينتهك اخيبارات الأمة المغربية» و « يعرقل الاختيار الديمقراطي» .. يا له من مصاب جلل حين تسمع الإتهامات وتعتقد أن الرجل مسه جون الإقتداء بمحمد مرسي الذي سعى لأخونة الدولة والمجتمع المصرين وشرع في الفتك بمعارضيه بقوة السلاح. لكن وحين تقرأ نص المذكرة، لاتجد أن ابن كيران متهم بتوظيف الدين في السياسة ، ولا بتحضير مشاريع تشريعية إخوانية أو طالبانية حتى، ولا حديث عن ارتباطه بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين أو تمويله لتنظيم الدولة في سوريا والعراق أو حتى عمالته للموساد، كل ما في صك الإتهام، أن الرجل، في تدخلاته يعطي الإنطباع، كما تقول المعارضة المترتجفة خوفا من الهزيمة في الإنتخابات،بأن «الحزب الذي يترأسه يظل الحزب المميز لدى جنابكم الشريف وأنه الحزب الوحيد الذي يهدف إلى الإصلاح وحسن التدبير». يا لها من عبارة تجعلنا ننزلق من علم السياسة إلي علم النفس وربما يتطور الإندحار نحو علوم الجريمة!!، يبدو لي الأمر كما لو أننا في حضرة الغيرة التي تفتك بأفئدة العشاق الولهانين، والأكثر من ذلك يصبح مجرد أن تقول إن الملك يحبني أو يحميني تهديدا للاختيار الديمقراطي وفتنة تهز ثوابت الأمة!! والأكثر من ذلك تفاهة، أنه ومن أجل مكاسب انتخابية ظرفية وتسجيل نقط سياسوية غير ذات قيمة، يتم التعسف في تأويل لفصل 42 من الدستور ليعود إلى حالة الفصل 19 القديم وإلى روح ظهير «كل ما من شأنه » الشهير. ولايملك المرء غير أن يهزه الإندهاش وهو يقرأ في البلاغ الصادر عن المكتب السياسي للإتحخاد الاشتراكي أن «الاستجابة الفورية لجلالة الملك بخصوص المذكرة التي رفعتها أحزاب المعارضة إلى جلالته، وذلك بتكليف مستشاريه إلى الانصات إلى قادة هذه الاحزاب مؤشر لعمل مؤسساتي جديد». الاستقبال في الديوان والسرعة وحدها حدثان عظيمان، ولايهم أن الملك قلل من أهمية الخطوة ولم يستقبل رؤوس المعارضة شخصيا، مثلما لم يصدر بيان عن الديوان الملكي ليضفي الطابع الرسمي على اللقاء، ولم يهم إدريس لشكر المئات من عبارات التوبيخ التي صدرت تسهجن المبادرة حتى من أشد الناس مقتا لابن كيران في الايديولوجيا كما في السياسة، بل وحتى من داخل المكتب السياسي لما تبقى من حزبه. في لاشعور المعارضة وعمق إحساسها بالوهن الإنتخابي، حنين إلى زمن المخزن والسلطان الذي يقوم بالتحكيم بين زعماء القبائل وليس العيش في زمن الملك الدستوري الذي ينيط به الدستور التحكيم بين المؤسسات وليس بين رئيس الحكومة والمعارضة في قضايا تتعلق بالمنازلة الإنتخابية. صحيح أن الملك يمكنه أن يتدخل لحماية الإختيار الديمقراطي لكن ذلك لايكون إلا في حالة تهديد وشيك ومحقق ، وهو ما لايتحقق في حالة رئيس الحكومة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بل إن النقيض لذلك هو الذي يحصل الآن، لإنه وبإقحام المعارضة للملك في الصراع الحزبي المفتوح، تعود الملكية التنفيذية، وتنكمش مساحات الملكية البرلمانية فتضيق هوامش الإختيار الديمقراطي. إن كان ابن كيران يقول إن الملك يحمي حكومته، فلاشيء يمنع المعارضة من أن تردد أن الملك ينتقد الحكومة، بل ويقوم بتقريعها بلغة صريحة ومباشرة في أكثر من خطاب ومناسبة، ولاأعتقد أن عاقلا سيصدق أكذوبة أن ترديد حزب ما لاسم الملك سيجعله يحصد أصوات الناخبين، في الستينات حين كانت القوات الشعبية قواتا شعبية والاستقلال استقلالا لم تحقق «أحزاب الملك» فوزها إلا بالتزوير، وفي الإنتخابات التشريعية الماضية لم يحصد «البام» مقاعد مجلس النواب رغم ترديد أنه «حزب صديق الملك»، وإذا كان قد اخترق الإنتخابات الجماعية سنة 2009 فقد حقق ذلك بالترحال السياسي واللعب الإنتخابي غير النظيف، وليس بصور فؤاد عالي الهمة وهو يجلس إلي جانب الملك في سيارته.. وإني لأجزم أن لاشيئ يبرر مذكرة المعارضة إلى الديوان الملكي غير مخاوفها الإنتخابية مستنجدة بالثقافة المخزنية وسياسة الأحكام السلطانية والمناورات الميكيافيلة. بل إن حتى اللغة والمفردات والتعابير تنهل من القامومس المخزني المعتق، فبين فقرة وأخرى تتكرر عبارة «مولانا صاحب الجلالة أعزكم الله» حتى تكررت ست مرات في مذكرة من أربع صفحات، وحتى داخل الفقرات ترد عبارات «سدتكم العالية بالله» و «جنابكم الشريف» بشكل مكرورر وممل، في حين أن عبارة «جلالة الملك» وحدها كانت لتفي بالغرض في التوقير الضروري وفي الإنسجام مع لغة المتن الدستوري، وقد كان من سخرية القدر والصدف أن نشرت الرسالة المكتوبة بهذه التعابير في نفس الوقت الذي أعلن فيه مصطفى الرميد وزير العدل والحريات أن الملك طلب عدم متابعة أي مواطن يتحامل عليه لأنه يريد أن يحبه الموامنون ويحترموه، وقبلها بأيام قليلة فقط، طلب الملك من حارسه الشخصي أن يطلب من الوفد الرسمي الذي يستقبل ملك الأردن وقبله ولي عهد أو طبي عدم تقبييل يديه، وتسربت أخبار في ذات التوقيت عن توجه ملكي نحو مزيد من تخفيف قواعد البروتوكول الذي تصر المعارضة، في زمن البؤس السياسي هذا، على أن تعود به إلي زمن عتيق في ممارسته وأسلوبه ... زمن السلطان والقبيلة والآداب السلطانية. يونس دافقير شارك هذا الموضوع: * اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة) * شارك على فيس بوك (فتح في نافذة جديدة) * اضغط للمشاركة على Google+ (فتح في نافذة جديدة)