كثير منا يستحضر بنوع من الحنين والشوق ، حديقة أو منتزها قضى فيه لحظات طفولة لا تنسى، وكثير منا يفتقدون اليوم تلك الفضاءات، وهم يشاهدون كيف اجتاحها الإسمنت، ولاشك أن أطفال اليوم بدورهم سيتحسرون بعد سنوات، على ماتبقى من جمال الطبيعة ورونقها، وهي تحتضر أمام أعينهم 0 أين وصلت المشاريع المتعلقة بتأهيل حديقة الجامعة العربية وحدائق البرنوصي، إضافة إلى إعادة تهيئة المطرح السابق سيدي مومن، والفضاءات الخضراء الموجودة بجنبات شارع محمد السادس، وحديقة الحيوانات التي طالها النسيان منذ مدة وحديقة الشباب ؟ وأين هو مشروع إعادة التشجير على مساحة 300 هكتار، وما مصير الحزام الأخضر على جانبي الطريق السيار، ومسار السكة الحديدية ؟ في سنة 1962 أنجز المؤلف المرموق والمخرج السينمائي الشهير جورج لوكاس، شريطا قصيرا يقوم على الخيال العلمي، تدور فكرة الفيلم حول وصف عالم القرن الخامس والعشرين و التحذير من مظاهر التكنولوجيا اللاإنسانية والثلوث، وكذا الهدر العشوائي للإمكانات الطبيعية على كوكب الأرض، حيث سيحول الناس الأرض إلى مكان غير مأهول، مما سيضطرهم للعيش تحت طبقات الأرض في مجتمع آلي صناعي، يفتقد كل مقومات الرونق والجمال الطبيعي، وعلى غير عادة انتاجات المخرج، الذي عرف بأفلام حرب النجوم والخيال العلمي، لم يحقق الفيلم نجاحا كبيرا في اجتذاب الجمهور، فارتأى جورج لوكاس أن السبب هو خوف الناس من الفكرة، ورفضهم إياها في آن واحد، ووجد انه من الأفضل التركيز على الجوانب المشرقة في الطبيعة البشرية 0 عودة إلى سطح الأرض في مدينة الدار البيضاء وخلال القرن الواحد والعشرين، بعيدا عن خيال الفن السابع، يحق لنا التساؤل هل أصبحنا فعلا نعيش داخل مدن عملاقة ، محاصرين بين قلاع وجدران إسمنتية وشوارع إسفلتية، وهل سيأتي يوم تنعدم فيه الساحات أوالفضاءات والمتنفسات الخضراء، في وضع يشبه إلى حد كبير أحداث فيلم لوكاس ، مع بعض التغيرات الطفيفة في السيناريو، إذ أننا سنعيش فوق سطح الأرض وليس تحتها ؟ الإسمنت يقتات على المنتزهات كشفت إحدى الدراسات أن احتضان الدار البيضاء لحوالي 300 هكتار من المناطق الخضراء، مقابل 20 ألف هكتار من الإسمنت، لا يستجيب لتطلعات المواطنين لا على الصعيد الكمي ولا الكيفي، حيث يختلف تواجد هذه الأخيرة من حي لآخر في توزيع غير عادل، خصوصا أن بعض المناطق ورثت ممتلكات خضراء، ومنجزات جميلة بتصاميم ملائمة للأحياء الراقية (مردوخ، الجامعة العربية، لارميطاج...)، عكس غالبية التجمعات السكنية الحديثة والشعبية التي تعاني نقصا كبيرا، إن لم نقل إنعداما للمناطق الخضراء ( سيدي مومن، مولاي رشيد، درب السلطان، عين السبع، الحي الحسني000)، وما يزيد هذا النقص حدة – تضيف الدراسة – هو انعدام صيانة المناطق الخضراء وتعهدها بالرعاية الكافية، مما أدى إلى تدهور ملموس لحالتها على صعيد النياتات والأٌغراس والتجهيزات والمعدات الحضرية 0 و معلوم أن مجلس المدينة بتعاون مع الولاية كان أعلن عن مخطط أخضر يتمفصل حول إعادة تهيئة المجالات الموجودة سلفا، وإحداث مناطق أخرى جديدة عبر إدماجها في مشاريع التهيئة الحضرية « لارميطاج، أليسكو، ابن مسيك ... » كما تم عقد شراكة منذ سنوات تهم مشروع المليون شجرة في إطار الإتفاقية الموقعة مع المفوضية العليا للمياه والغابات وصندوق الإيداع والتدبير، وهي العمليات التي استلزمت غلافا ماليا إجماليا قيمته 30 مليون درهم0 كلام قد يرى فيه البعض مبالغة ، بيد أن المؤشرات السلبية التي تعيشها العاصمة الإقتصادية راهنا، من إجهاز يومي وإبادة متلاحقة للفضاءات العمومية من حدائق خضراء أو منتزهات ، بالتوازي مع ما يسجل من تراجع لمجالس المقاطعات ومجلس المدينة عن التزاماتهم في هذا المجال ، كلها أمور تفضي إلى القول إن الدار البيضاء أصبحت تعيش حالة اختناق بيئى حقيقي 0 منتزهات ومفاخر من الماضي حين التساؤل عن ماهية المشاريع والأرقام والمخططات المعلنة، وسواها التي بقيت حيرا على ورق ، تتجلى حقيقة رهيبة أخرى، أليست كل مفاخر الدارالبيضاء في المنتزهات كلها موروثة عن عهد الحماية ؟ ووليدة تصاميم و إبداعات مهندسين كبار (بروست ، كورتوا )، فماذا أنتجت كل تصاميم التعمير ومخططات التهيئة على مر سنوات طويلة ؟ هل يستطيع مسؤول واحد بمجلس المدينة اليوم، أن يتبجح بإحدى المنجزات الكبرى على عهد (وحلة) وليس وحدة المدينة أو حتى عهد المجموعة الحضرية التي سبقتها، والأدهى من ذلك هل استطاع المسؤولون الحاليون حتى مجرد الحفاظ على موروث المدينة من المنتزهات التاريخية والفضاءات الحضراء التي أصبحت تستدعي الكثير من الشفقة ؟ لمزيد من الدقة الكلام السابق لا يشمل « منجزات» المجلس المتعلقة بإحداث (جريدات) وبساتين لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار مربعة أو (الرومبات) بملتقيات الطرق كيفما اتفق، حتى لو اقتضى الأمر غرسها بالأشواك والصبار 0 في إطار المخطط الأخضر بادر مجلس المدينة حسب مصدر مطلع لإحصاء وتشخيص الفضاءات الخضراء، فتبين أنها تتكون حاليا من 234 هكتار على شكل حدائق وبساتين و117 هكتار من المساحات الخضراء على ممرات التنقل و110 ألف شجرة ونخلة كمغروسات للتصفيف على الشوارع، هذا الإحصاء الأخير كشف مدى الإختلالات التي يتعرض لها المجال الأخضر، خاصة الإتلاف الكبير للبنية الأساسية من المغروسات، واختلالات السير الذي تعرفه عمليات الصيانة، كما بين مدى الخصاص الكبير الذي يعيشه البيضاويون في هذا المجال، فهل 234 هكتار من الحدائق (المكدسة) بطريقة غير متوازنة تكفي مدينة بحجم الدار البيضاء تتجاوز مساحنها حوالي 1615كلم مربع وتناهز ساكنتها الأربعة ملايين نسمة ؟ سكان الدار البيضاء يختنقون ثلوت الهواء بالدار البيضاء بلغ مستويات خطيرة، فأمراض الربو والحساسية وضيق التنفس سجلت أرقاما مخيفة، حيث تؤكد دراسة طبية أن 17 في المائة من سكان المدينة يعانون صعوبات تنفسية تعود أساسا لثلوت الهواء، وآشارت الدراسة التي أعلنها فريق طبي بجناح الأمراض التنفسية بمستشفى 20 غشت أن المدن الأكثر تلوثا تبقى (الدار البيضاء، الرباط، مراكش...) ويعتبر انبعاث غازات السيارات (ديوكسيد الكبريت والآزوت تم الأوزون..) الذي تتآثر منه الرئة بطريقة جد مركزة أكبر الأخطار، ينضاف لذلك عوامل مثل السكن غير الصحي ( قلة التعرض للشمس، غبار الأثاث والأفرشة...) 0 الدراسة المذكورة توقفت عند ثآثير الثلوث على الأطفال، والذين تبلغ نسبة الإصابات في صفوفهم ما بين 30 إلى 40 بالمائة يعانون مشاكل تنفسية، وفي حال عدم تعهدهم بالرعاية والعلاج الفعال، فإن ذلك ثؤثر على الرئتين وتتحول إلى أمراض الربو وضيق التنفس، الأعراض عادة تبدأ بمرض تنفسي يهم الشعب الرئوية، الحساسية التنفسية، تتطور مع الوقت إلى أمراض مثل الربو وغيرها، الدراسة خلصت إلى كون قلة الفضاءات الخضراء، وتزايد البناءات الإسمنتية غير الصحية، وكذا ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء بمدينة الدار البيضاء كلها عوامل مساعدة على تطور الحساسية التنفسية 0 مديرية الأرصاد الجوية الوطنية وولاية الدار البيضاء أبرما اتفاقا من أجل اقامة محطات لقياس ورصد جودة الهواء، وتتكون الشبكة من سبع محطات ثابتة ( مستشفي الأطفال ابن رشد ، نادي السكك الحديدية، مستشفى سيدي عثمان، ساحة محمد الخامس، ثانوية الجاحظ ، مقر عمالة المحمدية ، ثانوية الخنساء ) كلها ترتبط بحاسوب مركزي بمديرية الأرصاد الجوية لتجميع معطيات ميدانية ومعالجة معطيات جودة الهواء، لتحديد مدى تمركز ثاني أوكسيد الكربون في الجو ، ومن المنتظر أن يتعزز هذا الأمر بإحداث 20 محطة جديدة لتغطية جمع مناطق المدينة، خصوصا أن الدار البيضاء تؤدي بيئيا ثمن تطورها، فعلاوة على النشاط الاقتصادي ، فإن الآثار السلبية لحركة السير ( 600 ألف سيارة ) يظلان أهم أسباب التلوث مما يجعل البيضاويين في طليعة المصابين بأمراض الربو والتنفس والحساسية البصرية 0 غابة بوسكورة رئة تعاني غابة بوسكورة في ضاحية الدار البيضاء الجنوبية ، الفضاء الأخضر الشهير، وملاذ هواة التنزه و ممارسة الرياضة هي الآن تحت رحمة آلة تدميرية لا تتوقف، بساطة مدخل الغابة وهو عبارة عن ثلاث أقواس حجرية، والممرات التي تحمل أسماء شهيرة ( نوال المتوكل، سعيد عويطة ) وكذا فضاءات التسلية المخصصة للاطفال والملعب الرياضي كلها أمور لا تعكس حقيقة مايجري في الخفاء 0 للوهلة الأولى يعنقد زائر المكان أن الإيقاع نفسه لا يتغير، لكن قليلون ممن يستكشفون المسالك الوعرة وسط الأشجار يقفون على حقائق ومشاهد مرعبة، ما إن تتقدم مئات الأمتار وسط الغابة في مسالك يتعذر اختراقها، حتى تكتشف زيف وخطأ توقعاتك عند بوابة الغابة، وأنت تشاهد بأم عينيك كيف تتعامل آلة تدميرية مع هذا الكنز الأخضر، مئات الهكتارات تحولت بقدرة قادر إلى مساحات قاحلة وأراضي جرداء تشبه مقابر دفن الموتى، شهود عيان أوضحوا للأحداث المغربية أن مافيات الأخشاب تقوم باستخدام الشاحنات لأجل القيام بمهامها في جنح الظلام، إما عن طريق اقتلاع الأشجار أوقطعها أو حتى كسرها إن اقتضى الأمر، قبل شحنها تحت جنح الظلام إلى أماكن مجهولة وعادة تباع الجدوع الكبيرة من أشجار الأوكالبتوس والصنوبر للصناعات الخشبية، في حين تستغل الجذور والأغصان الصغيرة كحطب في الأفران والحمامات العمومية 0 ويبدو أن شق طريق ثانوية تخنرق جسد الغابة تسبب في إجثثات آلاف الهكتارات من الأشجار في الممر المتوجه شرقا باتجاه ( ابن سليمان )، أعمال القطع والإجثثات والمساحات الفارغة التي تخلفها في قلب الغابة، يتم التحايل عليها ببعض الواحهات الأمامية من الأشجار الخفيفة التي تخدع الزوار، فيما يتم العبث بالأشجار في أعماق الغابة وتجميع «المحاصيل» في أماكن خاصة، أما في المناطق المكشوفة فإن العملية تقتضي تكسير الأشجار ليلا وتركها حتى تتيبس أغصانها ومن تم شحنها في غفلة من الأعين 0 مايجري بغابة بوسكورة يتعارض مع كل الشعارات المرفوعة، من قبل مسؤولي المدينة كرؤية الدار البيضاء 2012 ، حول الحزام الأخضر الذي يرمي الحفاظ على غابة بوسكورة وتقويتها بالمناطق الواقعة على المحاور الطرقية بين سطات والجديدة، كما يتعارض مع برامج الوكالة الحضرية للدار البيضاء التي يعتبر من أولوياتها تقوية الفضاءات الخضراء المحيطة بالميتروبول البيضاوي، فهل سيتم إنقاذ غابة بوسكورة أم ستترك بدورها بين أيدي العابثين ؟ عبد الواحد الدرعي