ها أنت تسلك نفس المسار اليوم أيضا، مع أنه طريق يبعدك عن عملك لمدة لا تقل عن عشر دقائق، دون احتساب وقت الوقوف تحت هذه الشجرة.. أتسائل دائما ماذا يقول فيك جدعها ? و ماذا توشوش أوراق أغصانها لبعضها البعض بشأنك ? في كل مرة أطرح السؤال عليك، تتجاهلني كما لو أن الحروف قد بعثرت داخل لسانك، فتتحاشى الظهور أمامي كالأهبل.. و تستكين لصمتك. أنت ترفض البوح لي و تتظاهر بأن الأمر غير مهم، لكني أعلم أن كل أمر يستطيع تغيير عاداتك هو بالضرورة أمر جلل. أتظن أنني لم أنتبه الى ضوء عينيك حين يمر أمامك طيفها ? ذلك النور القوي حين يخفت، الهادر حين يسكت، كضوء القنديل في العتمة.
يقلقني هدوءك، فيما أنا يعتصرني قلقي، و يبعدني فضولي عن الحكمة، لا أعرف ان كان وقارك البادي دليل حزن عميق، أم شاهد على شعور كامن يستفيق. بريق وجهك يستمر في السطوع كما لو أن الشمس قد اختارته لتمرر عليه أشعتها الصباحية وحده دون غيره، و أفهم أنها الآن.. تمر أمامك. تهرب روحك اليها بسرعة، و جسدك لا يتزحزح و يكتفي بالتفرج، تنظر للعيون، في عمق العيون لاستخراج المخبوء، تنتظر نظرة قبول أو تقطيب حواجب ينذر بسوء.. يرهقك الانتظار يتعبك و يمتعك، تلمح الصبية و هي تتابعك بالجانب الأيسر من العين، هكذا اذن، هي كذلك تنتظر خطوتك الأولى و تتثاقل في مشيتها، تستجمع قواك و تأمر دقات قلبك باسترجاع ايقاعها المعتاد.. ثم يرن الهاتف.. هاتفها.. فتراها تسرع الخطى و تدفق الدم في عروقك يتبع سرعة مشيتها، مع أنك قد تسمرت في مكانك. الواضح أن فؤادك قد اختار، و أنت متردد مرتعد، ما هذا الذي يحصل لك ? أنت لا تدري، وتتمنى أن تستوقف احدى ضربات قلبك لتستفسرها عن هذا الذي يجري، و تحلم أن تستنطق تلك النبضات الواحدة بعد الأخرى، لكنك لا تستطيع.. لقد فقدت السيطرة يا حبيبي. في اليوم الموالي تقف في نفس المكان، تمر أمامك فتيات جميلات، خدود ورود وقدود يصعب أمامها الصمود، لكنك قطعة ثلج عمود، عمود كهرباء متخشب، أنت لا تنتظر فتاة.. أنت تنتظر الفتاة. الشمس قاربت كبد السماء و أنت تنظر الى ساعتك كل دقيقة كالأحمق، كما لو أنك على موعد معها، أنت لم تكلمها أصلا يا جبان. من مدة لم تتذكر ربك، وها أنت تدعوه أن يظهرها لك كما تريد و تتمنى، ما هذا الورع ? أنا لم أعد أفهمك.. يا الهي !!.. لماذا تبتسم وحدك ? تمالك نفسك يا فتى فنحن وسط الجموع.. أ رأيتها ? هل لمحتك ? اذهب وجس نبضها اذن يا شاطر.. السلام أختي بغيت نهدر معاك الا سمحتي، فالحقيقة ما تاخديهاش مني قلة صواب، ما بغيتش نوقفك فالطريق، ها الرقم ديالي، الى عيطتي ليا من دابا خمسة ديال الدقايق، غادي نعرفك باغية تكملي، Si Non، بلاش ما تعيطيش، Bonne Journée.. يا سلام !! ما هذه الثقة في النفس، كانت مجازفة منك هذه الفكرة، لكن لا بأس، هي كذلك الحياة كلها، مجازفة و مغامرة و مجموعة فرص، ثم حظ بجانبك يحنو عليك بحرص، أو سوء طالع يرافقك بعناد.. في انتظار المكالمة تضع على نفسك بعض الأسئلة، ألا يفترض أن تكون أنت من يكلمها في الهاتف? وقبلها أن تطلب أنت رقم هاتفها، ثم ما الذي سيدفع فتاة مثلها الى تركيب رقم هاتفك ? صحيح أنها شاهدتك غير ما مرة تنتظر اشارتها، لكن لا شئ مؤكد.. في الأثناء ربما تكون قد رمت ورقتك الغالية في أقرب صندوق قمامة تصادفه، أو حتى على الأرض، حتى يتسنى لأحذية المدينة مسح فكرتك الغبية.. ربما الوقت غير مناسب، ربما خجلها سيمنعها، ربما هاتفا غير معبئ، ربما لم تكتب رقم هاتفك كما يجب، أتعلم ? انها أمور لا تقع فقط للاخرين.. طرحك لكل هذه التساؤلات يعطيك الانطباع أنه مرت سنة على طلبك، شاهد الساعة على هاتفك الذكي لتتأكد، ترفض فكرة مشاهدة العداد و تعاند بغباء. فيرن الهاتف كما لو أنه يساندني..
واو!!.. لقد مرت فقط ثلاث دقائق، من الأكيد أنك تخفي سرا "باتعا"، فقد بدى الأمر مستحيلا لوهلة، و دب الشك في مسامك، وأقنعك أناك بأن مغامرتك قد ماتت في مهدها، كما لو أنك طلبت من الظروف أن توزع ظلمها بعدل، أو من الدنيا أن تنشر قسوتها برقة و احساس مرهف، لكنك قدمت له أذنا من طين و أخرى من عجين، و طلبت منه عدم التسرع، و راهنته بعزة نفسك.. أن كبرياءه لن يمس.
أهو سر تخفيه حقيقة، أم هي فقط رياح طيبة جرت في اتجاهك، و دفعت شراعك وسط عباب الحظ في بحر ظنونك، لا يهم.. لك الساعة التي أنت فيها، و الظاهر أن الصنارة.. قد غمزت.
قبل أول لقاء في عيد الحب، تشعر بعصبية زائدة، و حماس يستحيل معه أن تتحكم في قسمات وجهك، تتحدث الى أصدقائك دون أن تتمعن فعلا في مضمون ما تقول، أنت أصلا فاقد للتركيز، تستأذن بشكل ودود للغاية، و تتسلل من الجمع دون ضجيج، و أمنيتك ألا يسألك فضولي، الى أين أنت ذاهب ? انه تواطؤ اللقاء الأول، أحسب الحبيبة تقوم بنفس التصرف، تسألها أمها: الى أين أنت ذاهبة ? فتقول بوثوق: أنا غي مع سامية.. الحقيقة أن سامية توجد في مكان بعيد مع حمزة، انه عيد الحب يا رفاق، ماهذه الأسئلة ?!!.. ما علينا.. انها متعة اللحظة.. أنت بالمقابل، اخترت مكانا يطل على البحر، لماذا على الشاطئ ? انه اختيار رومانسي علق بذهنك و لا شك من فرط مشاهدة الأحبة فوق رمال اليم.. تكون أول الواصلين، و تتفهم تأخر من اختارها قلبك، انه الغنج و الدلال.. ها هي قادمة، تتسائل في هذه اللحظة، كيف سيكون السلام، و كيف ستكون التحية، يداهمك القدر، لا وقت للتفكير، تمد يدها، تمد يدك، و قد كنت تتمنى.. أن تطبع قبلتين على خديها.. لا تتسرع يا بني، أترك ذلك يستوي على نار هادئة.. تهئ لها الكرسي، و أنت تسألها عن الأحوال، تجيبك و هي تحدق في ملامح وجهك، و كلما رفعت عينيك لترى وجهها، أمرت هي عينيها أن تأخدا اتجاه الأرض، تجلس، تستوي، تضع يديك فوق مائدة المطعم، تضع هي حقيبتها جانبا، و تفعل نفس الشئ. في جعبتك الكثير من الأسئلة، و لديك الكثير من الاجابات، اللقاء الأول يجب أن يؤكد الانطباع الأول، لا مجال للخطأ، لا مكان للصدفة، الحقيقة أنك منبهر و مصدوم، انها أكثر جمالا عن قرب، تراقب ثغرها باعجاب و تتفحص تفاصيله و تنحته في ذاكرتك، تريد أن تحفظ عدد رموشها عن ظهر قلب، حتى تبقى معك حتى لو غادرتك، تتمعن في عنقها المؤثت بقلادة ذهبية جميلة، و تصعد بعينيك بشكل بطيئ، كما لو أنك تلمسها براحة يدك اليمنى.. لأول مرة.
ثم يرن الهاتف.. هاتفها.. تستأذنك فهي لا تريد أن ترد أمامك، تعطيها الاذن و أنت مكره، لقد قطع عليك ذلك الهاتف اللعين متعتك.. عند قيامها، تتجه عيناك بطريقة طبيعية الى الخصر، تتبعها في حركة سيرها، ثم يثير انتباهك لون حمالة الصدر، من الوراء هذه المرة، فقد رمقت رافعة النهدين من الأمام عندما نزعت الجاكيط الجلدي الأسود، و ظهر قميصها الأبيض الشفاف، كنت تقول لي دائما أن الأحمر متمرد بطبعه، معتد بنفسه يريد أن يراه الناس، أنا اليوم أصدقك، خصوصا و أن اليوم هو عيد الحب، لا تتريب عليك و لا لوم.. انه منظر لا يقاوم. تنتهي المكالمة و تستدير البهية بنرفزة، متضايقة تبدو من بعيد، في استدارتها أعلن الشعر المسدول على الظهر بعناية تمرده وأخد مكانه في الأمام على الجانب الأيمن، تقبض عليه بعصبية و ترجعه للوراء و هي تبتسم باستحياء، تقترب منك و تعتذر، تنقل اليك بصوت خفيض استمتاعها برفقتك، لكنها مضطرة للمغادرة، أعرف أنك لم تشبع منها كما هي لم تشبع منك، لكنه وقت الرحيل.. و قد أزف. ترافق خطواتها عن بعد، و قد أعطتك وعدا بلقاء آخر، أطول هذه المرة، وأخدت عهدا عليها أن تبقي هاتفها في البيت، أو أن تتركه عند صديقتها، لست متأكدا من كونها ستفي بالوعد، أنت مرتبك حزين، تتابع الوضع ذاهل العينين فاغر الفاه، وقلبك يلح عليك بالسؤال، متى ستلتقي بها ثانية ?.. و أين ?.. هل كانت فعلا مضطرة أن تقطع ذلك اللقاء ? أم هي مجرد حيلة لبقة للتخلص من موعد لم يرقها و صاحب موعد لم ينل اعجابها و لم يفز برضاها ? أنت متضايق لأنك فقدت البوصلة، أنت لا تحب هذا الشعور، لقد ألفت التحكم في الأمور، والتخطيط لكل شئ، الحب يبعثر الأوراق، يجعلك ضعيفا هشا سريع الكسر.
تأخد قرارا بالتوقف عن التفكير فيها، و كلما حاولت.. فكرت فيها.. أخدت قرارا آخر، لن تهاتفها، اذا لم تفعل هي، الأمر صعب، لكن ليس هناك خيار، هكذا فقط سترجع لك ثقتك في نفسك..
في نفس اليوم، الساعة تشير الى العاشرة مساء، تسمع تنبيها من هاتفك، أنت متعود على سماع هذه الموسيقى، لعله فاعل الاتصالات، يريد منك أن تعبئ لتربح رصيدا مضاعفا و ساعة أو ساعتين من المكالمات المجانية، و اسيميسات، و لا أدري كم ميغا انترنيت. تجاهل الأمر، فالهاتف بعيد، وقد بدأت للتو بالشعور بدفئ الماء، لا تنسى أن تغير الرشاش أو السخان، خمس دقائق ليصلك ماء دافئ، انه أمر يشعرني يقشعريرة، ماذا عنك ?.. بعد أن أخدت الدوش البارد في لقاء المساء، ها أنت تأخد دوشا دافئا في البيت، مع أنك غيرت قنينة الغاز البارحة فقط. هناك أيام هكذا.. و لا اعتراض. عندما تخرج من الحمام، تذهب يدك الى الهاتف، و رجليك يسايران قرار اليد بتأفف، الهاتف تركته في المطبخ، بعد بحث قصير، تجده قرب الخلاط، يترحم على جثت زجاجات مشروبك الغازي المفضل. قلبك دليلك ويقول لك ربما تكون هي، عقلك يشكك في الأمر و يرثي لحالك، قرأت النص المبعوث، يقول صاحبه :
دابا كاين مع من.. عرض استثنائي خاص بيك.. الى غاية.. شارجي مائة درهم و استفد من ألف......
تحس بحرارة الغيض و قد عوضت برودة دوشك اليومي تسري من أخمص القدمين الى حدود أذنيك، و تشعر أن لونهما قد أصبح قريبا من الأحمر القاني.. أحمر لا علاقة له طبعا و اطلاقا بالأحمر الثاني، لون عيد الحب..
عقلك يقمع قلبك بعنف، وقلبك يحني رأسه للعاصفة على مضد، مدحورا وحيدا بلا سند، تضع شعرك المبلول على الوسادة، تحاول اغماض الجفون.. فتفتحها على ظل خصرها. كلما أمعنت في غلق عينيك، كانت الصورة أوضح، لدرجة يصل معها عطرها وصوت ضحكتها.. ثم يرن الهاتف..
هاتفك هذه المرة، انه صوتها الذي لم ينقطع صداه بداخلك مذ غادرتك في العشي، وبعد تبادل المجاملات بأصوات تخفي فرحها بالكاد، تسمعها تقول: مابغيتكش تبات مقلق، خصوصا فنهار بحال هذا، الى فهمتيني شنو بغيت نقصد، و الى حبيتي غدا نتلاقاو ما عنديش مشكل..
تأخد نفسا عميقا على طريقة مسدس كاتم الصوت، تبعد الهاتف عن وجهك و تخرج من صدرك تاني أوكسيد الارتياح، توافق على الاقتراح، و تحدد أنت التوقيت و المكان، تنهي المكالمة بلطف و لين و أدب، تضع الهاتف برفق، ثم تصرخ ملئ الضلوع، شعورك في هذه اللحظة.. لا يوصف..
أنت ملك متوج، أنت سجين مظلوم عانق الحرية، أنت سلطان سمع بخبر فوز جيشه في معركة، أنت ميسي سجل الهاتريك في شباك اشبيلية، أنت من حطم رقم تيلمو زارا القياسي بعد تسعة و خمسين سنة انتظار.. وأنت من دخل التاريخ..
أنت أمير وجد صاحبة الحذاء بعد طول عناء، أنت بكل بساطة انسان يحب، شعور تأكد في يوم عيده، و الحب جنة الله في أرضه.. و قد يكون جحيما أيضا يا ولدي..
ففي غير ما مناسبة مثل هذه، الجانب البارد في تكوينك، العاقل المنطقي الحاد ثار عليك، و ليست هذه هي المرة الأولى التي يقطع على الحب كل سبيل إليك، يضع الحواجز و المتاريس و العجلات المحروقة أمام كل شعور لديك، بأن تعشق و ترغب، و يسد عليك دروب الولع و الوله، يغلق في وجهك باب ريح عاتية و يمنع عنك طريق السفه. فهل تنتصر عليه كما في مرات سابقات ? أم تراه يهزمك كما فعل في سنوات أخريات ? ما الذي يحجبه عنك مكتوب قصتك بعد قراءتك للصفحات الأولى ? و ماذا تخبئه لك الأقدار.. وراء ظهرها يا ترى ?..