1 والآن، كلانا يضيء الآخر.. كأنني أستفيق على رنة خلخال فضي في قدم غزال. لم تكوني مجرد موجة تمسح بيديها المالحتين طرف سريري، ولم تكوني مجرد ملاءة زرقاء سكبت عليها يداي النحيلتان علبة فراشات ووردتين وقبلة كقطعة حلوى على الجبين. حين توقفت الحافلة في الساعة الخامسة عصرا، أدركت أن الجنة صغيرة، أصغر من الوسادة التي أرتادها كل حلم.. وأصغر من المرأة التي تنتظرني وراء حقيبتها، غامضة وضاحكة وساحقة. وأنا أعانقها، شعرت أن أنفاسها تعض روحي، وأنني رجل مقضوم مثل نصف تفاحة. وعرفت كل شيء.. أنا برفقة امرأة غزيرة من ملح وقلاع عتيقة وألوان. أغمض عيني، وحين أفتحهما تمتد يد لا يراها سواي لتعبئ جسدها الوفير بما يربكني. هل أربكتني رائحتها؟ عيناها؟ صوتها؟ شعرها الغجري؟.. أم ما لم يقع بعد؟ ما سر هذا الاشتعال الفاضح الذي جعلني أحلم بمقعد هزاز بين خاصرتيها؟ ومن أين أتت الغيمة التي أخذت ترقص فوق قلبه؟ كان معا في المقهى يدا في يد، وقلبا في قلب. هي مثل طفلة صغيرة تتخلى له عن دميتها بمحض إرادتها، وهو مثل صبي يركل الكرة نحوها لتبادله قهقهة بقهقة، وركضا بركض. أنه يعرفها دائما.. ورآها تخرج من رحم أمها مكتوفة الصرخة والهواء. زرقاء وزرقاء وزرقاء وملفوفة في كركرات مرتعشة.. ورآها تحبو على البلاط القارس بدون حفاظات أو قماطات.. ورآها تعض الثدي التي انشقت عن ثوب مشرب برائحة الخزامى.. ورآها تقفز على الحبل وتقامر بمشبكات الشعر والأقلام والقطع النقدية.. ورآها تجلب الماء من السقاية وتعجن الخبز وتفتل الكسكس وتغسل الصحون وتذهب إلى المدرسة.. ورآها تكتب القصص وتغني وتصارع الظل على الجدران.. ورآها في حانة "بيكاسو" تجلس على يساره، يشربان النبيذ الأحمر ويأكلان بيتزا بفواكه البحر. الموسيقى صاخبة، والموجة العارمة في عرشها الأزرق تغرق في الضحك.. عاوووووووووووووووو.. كان هناك ذئب لطيف يعوي، كلما تناول جرعة نبيذ. وكان شيء غامض يعوي داخله، ولم تكن عيناه مرآة لما يتوقعه. ماذا سيفعل ليمسك بأسماكها الكثيرة؟ هل ستمزق قميصه بأظافرها؟ كان يعرف أنها تمتحن جرأته، وأن آلاف الينابيع تتفجر على دفعات في جسدها الحارق. كان يعرف كل شيء، ولم يكن واثقا من شيء، ولم يكن يريد أن يجازف بكل ما في جعبته من نبض. تذكر أنه كان محاصرا معها في سيارته، وأنه كان يغسل قوة حضورها بالمطر. ولما تظاهر أنه منشغل عنها، بدأت تقرؤه سطرا سطرا، وتفترسه شريحة شريحة.. 2 وكما لو امتلأ بالجنيات البخاريات اللواتي يمتزجن في دمها، لم يشعر إلا وهو يغمرها بعناق لا يدرى أين كان يخبئه. تحول إلى أنياب مهذبة، وغرس قبلته الدراكولا في انفراج شفتيها. لم يكن يدري ما الفاتورة التي سيدفعها؟ هل ستبادله عناقا بعناق، أم سترسم صفعة متخمة ببعض العتاب على خده؟ لم يكن يدري أنه سيعثر في حضنها على الزعتر الشهي. لطالما انتظر أن تسطع في قلبه امرأة تشبه شجرة، وها هي الآن تضيء بغضب. حاول أن يهدئ من روعها قليلا، لكن دموعها كانت بنكهة الفأس في الخاصرة. بكت كجدول صغير، ورأى كيف تتحول الدموع على وجنتيها إلى قذائف. لم يكن وراء أي خندق رملي. كان أعزل أمام رحابتها، وكانت أدفأ امرأة تسعل تحت المطر. تمنى لو يلحس دموعها بلسانه، لكنه أغمض عينيه وترك جميع الاحتمالات مفتوحة.. 3 تُرى ماذا بوسع طائر ارتطم بزجاج نافذة أن يفعل؟ هل سيكترث لجناحه المكسور، أم سيفكر أن السماء تناثرت على الأرض، وتحولت إلى حبات لؤلؤ؟ تركها تعود إلى غرفتها في الفندق، تصطحبها أنفاسه التي تأخرت كثيرا قبل أن تسيل. كانت تظن أن كل شيء على ما يرام، وأن الغراب الذي يتثاءب في عينيه ليس سيئا تماما. 4 أمسكها من خصرها الهائل، وغادرا السينما برغبات ممزقة وخبرة جيدة بملمس الحواف. قالت له: "أريد أن أظل معك الليل كله. لا أريدك أن تنصرف. بما أنني معك هنا، عزلاء من كل شيء، أنا بحاجة إلى أن تترك يدك في يدي لنمطر معا. لا أريد أن أعود إلى الفندق. فهل بوسعك أن تفعل هذا من أجلي؟". لم تقل شيئا. كانت تصله كلماتها بلا أصوات. فلا شيء يشغله الآن سوى الإنصات إلى كتاب الرغبة المغلق. هل كان كتابا مغلقا حقا، أم كانت تحرص بإمعان على كتابة رغباتها بالحبر السري؟ هل ينتظرها خارج الأسوار التي تعلو، أم يتحول إلى آلة حفر ليحطم أكوام الحجر التي تضعها بمهارة أمامه؟ كان يشعر أنها ماكرة جدا، وأنها لن تطيق أي شبهة غباء يمكنها أن تحط على كتفيه. ظلت ترمقه وسيارته تنهب نفق المحج الملكي، وهي تعبر شارع الموحدين، وهي تخترق شارع الجيش الملكي، وهي لا تلوي على شيء.. وكان يشعر برائحة زهر الليمون تلفح وجهه. من أين جاءت هذه الرائحة التي تبعثره الآن؟ للحظة ظن أن الرائحة تتسلل من الدفتر الصغير الذي يحتفظ به في علبة القفازات. قصائد مثل زعانف سمك قرش تختبئ بين موجتين. متربصة وهادئة ومفترسة. لم تحاول أن تفتح العلبة. هل كان يريدها أن تفتحها فعلا؟ لو فتحتها لظفرت بغيمات ملونة تتناثر هنا وهناك كقطيع شياه شارد.. كانت لا محالة ستكون الراعي.. ومن بعيد لاح الفندق، وانغلق الخط. "أريد أن أقضي معك الليل كله.. هل تسمعني؟". أيها اللفح اللذيذ، يا قصب النايات، كيف يكتم هذا المطر الذي لا يتعب صراخها الذي يمزق أكياس عينيها.. قال لها: - هل تجيدين الغناء؟ - ردت عليه: - وأجيد الرقص أيضا.. 5 لم تكن تريد أن تستيقظ في سرير آخر، ولا على أنفاس أخرى. ما زال صوت بيفرلي وهي تنضو عنها منامتها الحريرية يجرح أسماعه: "إذا لم نفعلها الآن، فلن نقوم بها أبدا في وقت لاحق!". تخيلها في غرفته، تتعرى ببطء وترقص ببطء أشد. لا يصدق أنها تفعل ذلك.. كانت تسيح أمامه موجات موجات، وكان يفرك عينيه بالملح ليتابع الاستدارات وهي تقتلعه من الأرض لتغمسه في أبعد غيمة على كوكب يتحاشى السقوط فوق حقول التبن. كان يحترق، ويزداد احتراقه اتساعا كلما همت بفك مشدات صدرها. كان يشعر أن سلة برتقال ستتدفق بين ساقيه. وفي آخر لحظة، كانت ترفع عينيها متحدية وتعفو على السوتيان في المنتصف. تستدير وتستمر في الرقص ورأسها مرفوع. ويمتنع البرتقال عن يديه، يظل عالقا في شجرته التي تتلوى كمجزرة. ولجت الفندق دون أن تلتفت. أحس بأن عشبا على النهر احترق، وبأن يديه اللتين أحاطتا بخصرها تقطعتا، وبأن الأرض توقفت عن شفط الهواء. ومع ذلك ابتسم.. كما لو أن قلبه لامس حزنا جديدا. ما الذي كان سيحدث لو أضرب عن العقل قليلا.. لو اقتادها عن طيب خاطر إلى حرب أخرى.. لو مزق كل الأسلاك الشائكة ليرسم معها عشا من العناق والقبلات؟ هل كانت ستمانع؟ هل كانت ستدير له ظهرها وتصفق الباب خلفها؟ هل كانت ستشق ثوبها لتكشف لها عن حدائقها السرية؟ هل كانت ستتحول إلى لبؤة؟ وهل كان سيتحول إلى تمساح؟ وهو في سيارته السوداء، تخيل أن التي أدارت مفتاح غرفتها وارتمت على السرير يائسة، بحر من التماسيح، وأنه مجرد موجة تأكل بعضها بإصرار. تمساح يعلو تمساحا يعلو تمساحا.. عاصفة من التماسيح. 6 قبل أن تتحول وهي توليه ظهرها إلى غيمة زرقاء تبتلعها جدران الفندق، أدرك أن القبرة التي تنقر اللوز في عينيها لم تكن ملاكا. كانت شيئا آخر، مثل نجوم بيفرلي في فيلم "حب الشتاء".. انكمشت فيه، واستسلمت لمداعباته مغمضة العينين. كان يأكلان الفشار المملح، يطعمها بيده حبتين حبتين وثلاث حبات ثلاث حبات، ويلثم وجنتيها ويمرغ لسانه العاري في ملح عنقها ويحشو شفتيه بخصلات من شعرها ويغيب. وكان بين حين وآخر يسترق النظر إلى ذلك البريق الذي يتكئ على سلم عال من الارتياب في ما تشعر أنها راغبة في وقوعه. كان يشعر أنه وعل طليق في مروج نهديها. يتحسسهما بأصابعه المالحة، وشيء كالجرس ينشر الفوضى في عقله، وشيء كالأنياب يعض روحه، وشيء كالأزيز يجعلها مقطوعة الأنفاس ومستسلمة تماما. كانت تفكر أن ذراعيه اللتين تطوقانها تأخذانها نحو الاتجاه الخطأ. انكمشت في مقعدها. لم تطلب منه أن يتوقف، أن يرخي ذراعيه، أن يسدل لسانه الذي كان يستغرق قرطها الذهبي العالق بهدوء بين أذنها وخصلات طائشة من شعرها. كانت تتفرج على الحصان الأبيض الطائر الذي يرفس الأرض بحوافره قبل أن يفرد جناحيه بين ناطحات السحاب. ماذا تفعل هنا مع هذا الرجل الذي يعبر بها البحر والصحراء والثلج؟ ماذا تفعل مع رجل مدجج بالصواعق والبروق؟ لماذا لا تكون هي الصاعقة؟ لماذا لا تكون هي سوط تلك البحيرة التي تنشق مياهها على الجانبين؟ لماذا لا تكون هي الملح عوض أن تكون هي الارتواء؟ ورآها، تماما كذراعي بيفرلي، تقول أهلا لبيتر، وتمزق بأسنانها الشباك التي انطلت على حصانه الأبيض.. ورأت نفسها خلفه على ظهر الحصان يعبران جسر بروكلين. لم تكن بيفرلي تعبأ بالموت، ولهذا ربما كانت تضمر الموسيقى للكواكب. كانت تؤمن بأن الضوء هو الشيء الوحيد الذي يربط بين الأشياء.. حين انتهى الفيلم، عرف أنها امرأة مقسومة نصفين، وأن غابة من الغرائز العالية هي التي تملأ المساحة الفاصلة بين الشطرين. امرأة زرقاء، وامرأة رمادية. لم يشعر قط بمثل هذا الترنح.. 7 في تلك الليلة، لم يكن للمطر أسماء كثيرة. والأرض كانت تتعثر في خمس قارات من البرك الضاحكة. وكان هو في أكثر من مكان، يعلق كل الاحتمالات على جدران غرفته. ترى ماذا تفعل الآن؟ هل تثرثر مع وسادتها حول ما لم يقع؟ هل تكسر العادة بمهاتفة رجل بعيد؟ هل تلعن بيتر الذي أسرته امرأة تعزف البيانو على حافة الضوء؟ هل تغفو في مغطس الحمام؟ لم ينم. كانت تنام في الفندق على بعد شارع واحد، بينما ظل يأكل بعضه على مهل وبأفواه كثيرة. لماذا تركها تعود إلى الفندق؟ هل لأن رغبته فيها أقصر قليلا من قامته، أم لأنه كان يدرك أنها تمتحن صبره بقدر ما تمتحن ذلك النمر الذي رأته يختبئ وراء عينيه الضيقتين؟ هو يدرك أنها تقرأ أفكاره بمهارة، وهي تدرك أنه يستطيع أن يمسك بكاشفة ألغام ليعبر أرضها بسلام. كلاهما في نزال مفتوح مع الآخر، والمعركة تدور بسلاح غير معلن، والفائز من يستطيع أن يباغت الآخر، من ينجح في إدهاش الثاني من حيث لا يتوقع، فمن منهما سيمسك بغريمه من الشعرة التي لا يعرفها الثاني؟ من منهما يملك شجاعة ذبح كل الاحتمالات القائمة؟ ليتها تعلم أن شوقه إليها يتأرجح، الآن، في الزوارق التي تركتها رموشها راسية في مرافئ قلبه. ليتها تعلم أنها شجرة تكبر بأمان في أحلامه. ليتها تعلم أنه خشي أن يصير فأسا في الوقت الذي يريد أن يعدها بعشرة آلاف نهر. ليتها ترحم تلك الرائحة التي تملأ كفيه.. رائحة الغابات والرغبات الحارقة. فكر أن يهاتفها على المحمول. الساعة الرابعة صباحا. خشي أن يوقظها من حضن آخر غير حضنه. فكر أن يكتب لها رسالة.. لكن ماذا عسى هذه المدامع المرتجفة أن تكتب في هذا الوقت المتأخر من القلب؟ فكر أن يكتب لها قصيدة. هو يعرف أنها تحب الشعر، وأنها مغموسة في مياهه الغاوية.. لكنه صرف نظره إلى شيء آخر. تخيل نفسه قرصانا أعور مأخوذا بغواية الأزرق. سيأخذها، في الصباح، إلى جزيرته الزرقاء، سيجعلها تصيخ السمع إلى هؤلاء الغرقى الذين اهتدوا إلى ساحل من الأصداف الآهلة بالنور والمطر. سيمتطيان معا سمكة حنكليس عملاقة، وسيزوران ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. سيضربان موعدا مع غزلان بلون النعاس.. وسيخترقان قطيعا من الدعاسيق بمعاطف من فرو الثعالب القطبية.. وسيجعلها تمتطي الحصان الطائر الأبيض الذي كان يركض على جسر بروكلين.. 8 لوهلة، بدأ يشك أن له قلبا واحدا مثل جميع البشر. هُيِّئَ له أن صدره تحول إلى جراب قلوب نابضة، وأن القلوب تتحول إلى قطط جائعة، تخمش وتموء وتفح كالثعابين. حين غادرت إلى الفندق لم تكن تبتسم. لم تلتفت نحوه بعذوبة. لم تلوح له بيدها كالمروحة. لم تجعله يشعر بأنها حبة الكراميل، وأنه قبيلة الأطفال الجوعى الذين تدلت ألسنتهم وسال لعابهم ودمعت عيونهم وفشلت ركبهم. كانت مثل موجة تعبر إلى الجهة الأخرى على أطراف أصابعها. تذكر أنها أجابته بوثوق حين سألها عن السعادة: "السعادة هي جبل من الشكولاتة السوداء مع كأس نبيذ وسحابة كبيرة من أغاني لينا شاماميان أو هبة قواس أو إيللا فيتزجيرالد". لم لا يشتري لها لوحا من الشكولاتة السوداء؟ سيجعلها تسعد قليلا. ربما تنسى كل آيائل الجبن التي كانت تهرول باطمئنان تام في مراعي قلبه حين تركها تخرج من سيارته بكتابين في اليد وجرح غوير في الخاصرة. هكذا لن تنقطع أنفاسه بالركض خلفها حين سيراها في الغد. لن يجري وراءها من الفندق إلى المكتبة إلى المقهى إلى المطعم إلى الحانة إلى البيت. سيجعلها تهدأ قليلا. سيحرص على يكون صوته أول من تسمعه حين تستيقظ صباحا. ربما ستظن أنه كان بجانبها على السرير، وأنها تفتح عينيها بعد غيبوبة طويلة. وغفا.. ورآها تعانق رجلا يشبهه، وأنها تفتح كل أبوابها أمامه لتجعله يستنشق الروائح التي تبلل الملاءة التي تضطجع فوقها كأميرة سريرها محمي من اللصوص والبصاصين. في الصباح، لم يستيقظ في أرض غريبة. كان يعرف أن امرأة بمزاج خاص تنتظره هناك. امرأة ربما لم يغمض لها جفن بسببه. امرأة بعينين حمراوين ورغبة مكسورة.. امرأة تنثر وجهه وتتفحصه على مهل لترى حجم ما يخبئه لها من عواصف. هذا الصباح، لن يذهب إلى المكتب. لن يقع شيء إذا جعل عينيه تنجوان من رؤية غابة الخفافيش التي تعود أن يرآها كل يوم. سيتغيب وليقع ما يقع. وماذا تفعل هي الآن؟ هل استيقظت؟ هل ارتدت موجة كما تفعل في الغالب؟ هل تتبرج من أجله الآن؟ هل تنتظره؟ 9 "لن أرحمك". كانت تلك هي الجملة التي تفركل في كل مكان من دماغه حين قذفتها نحوه على الهاتف. لم تكن من نوع النساء اللواتي يفتحن الباب كيفما اتفق لرجل ملتهب ينتظرهن في الخارج. كانت مستعدة لجعله ينتظر دهرا، وكان عليه أن يملأ الثواني التي تفصل بين جملتها الصاعقة ورده الذي يشبه يدا تمتد بسرعة إلى مقبض الباب. ولم تترك له أي فرصة للحديث.. "انتظرني في الخارج ريثما أرتدي ملابسي. بعد دقائق سأكون معك". تحسس ساعده. كان لنبرة صوتها الرائحة التي يخلفها وسم النار على الجلد. انكمش في مكانه وراء مقود السيارة، وأغمض عينيه، ورأى محاربة أمازونية تلعق سيفها، وتعيده إلى غمده بسرعة خاطفة.. كان يراها ولا تراه. امرأة غفيرة تربي النسور في عينيها، وتنبت في شعرها المنسدل على ظهرها وكتفيها أغصان خضراء. انحنت على الأرض قرب باب كهف، وصارت تعبئ بحرص كنانتها بالسهام، سهما تلو سهم.. ورأى على رأس كل سهم رأس أفعى فاغرة الفم.. ورآها تبتسم للظل المختبئ وراء الشجرة. لم يكن ظل نعجة أو عنزة أو حصان. كان ظله الذي يشتعل بالرعب، رغم بتلات الورد التي كان يحملها بين يديه..ثم انتصب ظلها أمامه. نقرات خفيفة على زجاج السيارة كأنها دلاء ماء هبت على وجهه لإطفاء حريق يثرثر بمليون لسان ويلعن بعشرة آلاف شتيمة، وابتسامة بطعم بذور الصنوبر. قال لها بارتباك واضح: - صباح الخير. نمت جيدا؟ - تماما كالملائكة. تصور أنني لا أعرف متى نمت. لم أشعر بنفسي إلا وضوء الصباح يتسلل إلى غرفتي ويلفح وجهي. منذ أمد بعيد لم أنم هكذا. أشكرك على عنايتك بي.. - المهم أنك ارتحت. لا بد أنك رأيت البارحة حلما لذيذا. أراهن أنني كنت رفيقا لك، ربما نجلس على طاولة مقهى أو حانة وبيننا أكثر من كأس وسكين.. - هههه.. لا. حلمت بأنك قمر من ورق يضحك، وتتعالى ضحكاته كلما قضم جزءا منه لحن حزين على ساكسفون.. أتعلم بأنني رأيت نفسي أتحول إلى مليون ذراع تحمل مشاعل الزيت لتضرم القمر واللحن.. ما رأيك؟ هل يمكنك تفسير هذا الحلم؟ - ههههه. هذا كابوس. كنت أفضل أن أكون قمرا محاطا بمليون موجة زرقاء ضاحكة.. بقدر ما كان يشعر بأنها تصنع من قشرة تغضناته جغرافيا جديدة، كان على يقين تام بأن وشاحا من فراشات الحب يخرج من عينيها ليرفرف فوق رأسه. وابل من الأفكار الحارقة يموج في رأسه ويرتد باردا أمام فستانها الأزرق ذي الأزرار المذهبة. وكانت السيارة تنهب بنا المسافة إلى عين الذئاب كأنها تتأرجح من تلقاء نفسها على جسر تغمره المياه. لم يكون صامتين، كلاهما كان منشغلا بالكراسي المقلوبة في رأسه، وكلاهما كان يبارز الآخر فوق رقعة من جمر، بينما كان صوت خوليو إغلسياس يكسر قشور كبريائهما على مرمى قدر. "عانقيني ولا تقولي لي شيئا، فقط عانقيني، تكفيني نظرتك لأفهم بأنك ذاهبة، قبليني الآن كما لو كانت المرة الأولى". كان خوليو يحلق، وكان هو كالنائم يردد لازمته بصوت مرتفع. هل كان سعيدا وهو واثق أنها كانت تكنسه برموشها؟ هل كان يغني أم يتظاهر بأن كل شيء على ما يرام؟ ولماذا يقودها هذا الصباح إلى مقهى الغروب؟