يخلد المغرب كباقي دول المعمور اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف عاشر أكتوبر من كل سنة. غير أن التفكير في الصحة النفسية يكاد يكون غائبا عن اهتمامات الفرد والمسؤولين، وحتى على مستوى الإعلام. تشير بعض الدراسات أن هذا الاهتمام لا يتجاوز 0,03 في المائة، تحتل جريدة الأحداث المغربية مكانة الصدارة من خلال تخصيص حيز من صفحاتها أسبوعيا للتوعية بالصحة النفسية. ورغم أن الدراسة الميدانية التي أنجزتها وزارة الصحة المغربية بتعاون مع المنظمة العالمية للصحة عام 2008، أماطت النقاب عن أرقام مذهلة، وكسرت جدار الصمت الجاثم على الصحة النفسية العليلة في المغرب حيث 48,9 في المائة، أي نصف المغاربة تقريبا مصابون بإحدى الأمراض النفسية (قلق، اكتئاب، خوف...)، فإن الطب النفسي والعقلي هو الابن العاق لوزارة الصحة على غرار الاختصاصات الطبية الأخرى، بدأ من لا شيء تقريبا في أعقاب الاستقلال، وتطور تدريجيا في بيئة صعبة. في سنة 1960، كان طبيب واحد لجميع سكان المغرب. وإلى حدود سنة 1972، لم يكن المغرب يتوفر إلا على طبيبين اثنين مختصين في الأمراض العقلية والنفسية، وها نحن الآن في سنة 2011، حيث يتجاوز سكان المغرب 30مليون نسمة لا نتوفر إلا على 350 طبيبا أختصاصيا في الأمراض النفسية والعقلية، يعمل منهم 100 طبيب في القطاع الخاص خارج المستشفيات العمومية والجامعات. قد نشعر بالغبن إذا علمنا أن مدينة إسبانية واحدة تتوفر على 1200 طبيب مختص في الأمراض النفسية والعقلية. وتتوفر مدينة جنيف السويسرية على 500 طبيب، ويوجد في فرنسا 13 ألف طبيب أختصاصي في الأمراض النفسية والعقلية ويبحثون عن سبل لرفع العدد. وإذا أردنا أن نأخذ فرنسا مقياسا لنا، فنحن في حاجة إلى قرابة 7 آلاف طبيب، بما أن سكان فرنسا يبلغ عددهم ضعف سكان المغرب، فنحن الآن في المغرب نتوفر على أقل من طبيب نفساني لكل ألف مواطن مغربي. إذا كانت المنظمة العالمية للصحة تشترط ممرضين لكل ثلاثة مرضى، فعندنا في المغرب ممرض أو ممرضة واحدة في مواجهة 40 مريضا، وحسب تصريحات بعض المسؤولين العاملين بالمركز الجامعي للطب النفسي، ابن رشد في الدارالبيضاء، أن هذا المركز الذي يستقبل بين 30 إلى 60 مريضا يوميا، يشتغل أربعة ممرضين في الفترة الصباحية، وثلاثة في المساء، ويتكلف ممرض واحد في الليل إلى جانب الطبيب، وغالبا ما يواجه هؤلاء مخاطر كثيرة من لدن المرضى الذين تجتاحهم حالات هيجان وعنف ويقومون بتكسير الأبواب والنوافذ الزجاجية القابلة للكسر وتخريب مكونات الغرف بسبب قلة عدد الممرضين. اضطرت إدارة المركز الجامعي للطب النفسي ابن رشد إلى تقليص عدد الأسرة من 104 أسرة إلى 84 سريرا مما قلص من الطاقة الاستيعابية للمركز في الوقت الذي يفرض أن يضم المركز بين 600 إلى 700 سرير وفق معايير منظمة الصحة العالمية، خصوصا أنه يوجد حسب الإحصائيات الرسمية أزيد من 100 ألف مريض نفسي وعقلي في مدينة الدارالبيضاء التي تتجاوز ساكنتها 5 ملايين نسمة. ومردُّ هذا النقص في الأسرّة بالمركز الجامعي للطب النفسي في المغرب بصفة عامة، هزالة الميزانية المخصصة للطب النفسي التي كانت لا تتجاوز 1 في المائة من ميزانية وزارة الصحة، وارتفعت الآن إلى 3 في المائة. بمعنى الزيادة المضافة لا تكفي حتى للدواء. في الوقت الذي يعجز فيه مواطن مغربي، مصاب بمرض عقلي أو نفسي في إيجاد سرير في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، يتيه في الشوارع، أو تأويه رحاب فضاءات أولياء الله الصالحين التي تستوعب ما عجزت عنه الطاقة الاستيعابية الوطنية للمرضى العقليين والنفسيين التي لا تتجاوز 2000 سرير، حسب الإحصائيات الرسمية، موزعة عبر التراب الوطني في كل من جناح 36 بالمستشفى الجامعي ابن رشد، ومستشفى الرازي بسلا، ومستشفى ابن نفيس بمراكش، وتيط مليل نواحي البيضاء. ورغم الأرقام المذهلة التي كشفت عنها الدراسة سالفة الذكر، وما يقابل ذلك من بنيات استقبال هشة، تكاد تصل إلى درجة الصفر من العناية بمرضاها العقليين والنفسيين داخل أجنحة تشبه معازل نفسية غاية في الانحطاط الإنساني، فإن هذه المستشفيات ترفض كثير من المرضى بسبب محدودية الأسرّة رغم أن ظهير 1959 يكفل حق المريض العقلي في العلاج. وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن المسؤولين في المغرب لا يهتمون بأهمية الصحة النفسية والعقلية للمواطن، علما بأن منظمة الصحة العالمية، تُعرّف الصحة بأنها الحالة الجيدة عضويا ونفسيا واجتماعيا. الغريب في الأمر أن المسؤولين الحكوميين يتقشفون ويشحون في الميزانية المخصصة للطب النفسي وينسون أو يتناسون أن علاج المرض النفسي يساعد على علاج مشاكل الصحة العضوية التي تضاعف من تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية. فحسب المختصين أن المريض، مثلا بالاكتئاب يصاب أكثر من غيره بالأمراض التعفنية، وبأمراض أخرى كالقلب أو السكري أو الأمراض الجلدية، بسبب ضعف المناعة. أمام ضعف اهتمام المسؤولين بمجال الصحة النفسية، وضعف بنيات الاستقبال لولوج العلاج، من الطبيعي أن تغيب ثقافة الوعي بالصحة النفسية لدى المواطنين وتتجذّر في المجتمع ظاهرة اللجوء إلى الأضرحة والمشعوذين، وتتأصل ثقافة عدم الاقتناع بدور الطبيب النفساني، رغم أن هذا الأخير هو المؤهل علميا ومنطقيا لمساعدة المريض على تخطّي مشاكله النفسية بأدواته العلمية. هكذا كنا، وما زلنا نرى أضرحة أولياء الله الصالحين تتقاسم مهمة استيعاب المرضى النفسيين والعقليين بل تفوقها، نعم نحن بلاد مائة ألف ولي. صدق “بول باسكون” القائل أن أضرحة الأولياء تلعب دورا أساسيا في تشكيل الأفكار الأخلاقية لدى المجتمع المغربي. احتار علماء النفس في العالم من أمر لجوء المرضى المغاربة المصابين بأمراض نفسية أو عقلية، إلى أضرحة الأولياء قصد الاستشفاء. وقد تمخضت عن هذه الحيرة رغبة قوية في عقد مؤتمر علمي دولي بسيدي عثمان نواحي مراكش نهاية التسعينيات، تمحور حول “ظاهرة الاستشفاء ببويا عمر”. وفي ختام هذا المؤتمر رجّح بعض المشاركين أن العوامل المساعدة على الاستشفاء في فضاءات الأضرحة، هي الثقافة اللاهوتية المغروسة في أعماق الفرد المغربي المريض، لأن هذا الأخير يكون له استعداد نفسي تهييئي قبل الزيارة، من خلال الاعتقاد الشعبي والمعرفة العامية المتجدرة في المجتمع حيث يوهم نفسه أنه على الطريق الصواب من أجل الخلاص من معاناته النفسية، وهذا الاستعداد النفسي يعالج 50 في المائة من المشكلة النفسية إذا لم تكن معقدة. واكتفى البعض الآخر بطرح السؤال الفلسفي حول الظاهرة النفسية المعقدة وما يكتنفها من غموض. أغلب المواطنين عندنا في المغرب، لا يعيرون اهتماما لصحتهم النفسية إلا بعد فوات الأوان، عندما يتعمّق المرض ويصل إلى الدرجات والمراحل الحرجة. والسبب هو تجذّر ثقافة عدم الاقتناع بدور الطبيب النفساني وغياب الاهتمام بالمعرفة العلمية للأمراض النفسية الناجمة عن الهلوسات، والأحلام المنكسرة والطموحات المجهضة، والقهر الاجتماعي والنفسي والجسدي وكل المشاعر السلبية التي تنتج عنها شحنات مضادة، والإفراط الشديد في التكتّم والحرص على عدم ائتمان بعضنا البعض بما يختلج في صدورنا خوفا من الوصم. وعملية البوح يعتبرها علماء النفس جدّ صحيّة، شريطة أن تتلقاها أذن صاغية أمينة، حتى لا تنقلب نقطة ضعف ضد المريض تلهب آلامه. وفي غياب التلاحم الاجتماعي وخوف المرضى من وصمهم وإبعادهم اجتماعيا وتداول أحاديث جانبية حولهم، ينكفؤون على أنفسهم، مستأنسين بمرضهم حتى يتعمق المرض خصوصا عند المصابين بالاكتئاب الذي يمس مغربيا من بين أربعة حسب بعض الدراسات، والقلق والفوبيا الاجتماعية أو ما يعرف بالخوف ومرض الذهان والوسواس القهري. الأمراض النفسية بصفة عامة، هي مشاعة بين الناس، وأكثر ديمقراطية لأنها لا تُفرق بين المرضى في الجنس أو السن أو الغنى أو الفقر. فالواقع يؤكد أن هناك أغنياء يملكون كل شيء، ومع ذلك هم مرضى نفسيون. الفرق بين المريض الفقير، وزميله الغني، هو إمكانية الولوج إلى العلاج والطرق المعتمدة وطبيعة تفسير المرض النفسي. وعلى كل حال فكل تفسير يتأسس على معرفة عامية سطحية ساذجة تعتمد على مرجعية ميتافيزيقية أسطورية، يشكل عائقا في طريق المعرفة العلمية للمرض النفسي أو العقلي كما يقول “غاستون باشلار”. نحن في المغرب، نفتقر إلى ثقافة الوعي بالصحة النفسية، وهي خاصية نشترك فيها مع باقي الدول المتخلفة التي يضطرّ مرضاها النفسيون والعقليون إلى الاستعانة بالأضرحة والمزارات والدجل والشعوذة كوسائل للعلاج. عندما يصاب مواطن مغربي بمرض نفسي أو عقلي ناتج عن خلل وظيفي في الجهاز النفسي أو خلل وظيفي في مركز الجهاز العصبي، الذي هو الدماغ، أو ناتج عن حادثة أو تسمم في الدماغ، يعتقد أنه مسّ من الجن. قد يتهم الجني (الباشا حمو) أو الجني اليهودي (حمادي)، أو الجني (ميمون لكناوي)، أو الجنية (عيشة الحمدوشية) أو الجنية (للاميرة)، أو الجنية (مولات المرجة). وأمام هذا الاعتقاد يلجأ المريض إلى محاكم الجن التي توجد مقراتها بالأضرحة الموزعة عبر التراب الوطني لمقاضاة الجنّي المعتدي. وفي حالة عدم الاختصاص يمكن اللجوء إلى أقوى وأعلى المحاكم هي محكمة “بويا عمر”. إن الجنّ والمس به هما حقيقة دينية مسلّم بها لأنها مذكورة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشرف. غير أن المسّ بالجنون، لا يشبه في أعراضه المرضية الكثير من الأمراض النفسية والعقلية التي تنتج عن عدة عوامل وراثية وعضوية، وبيولوجية ونفسية وبيئية، والمرض النفسي مثله، مثل أي مرض عضوي واستجابته للعلاج مشابهة لاستجابة المرض العضوي، تحتاج إلى تشخيص وعلاج، ولا مجال لنسبتها إلى قوى غيبية من جن وغيره.