كان شهر دجنبر أطول شهور هذه السنة ! ما يدفع للتساؤل: هل سينتهي حقا هذا العام؟ هل سنفتح أعيننا غدا على سنة جديدة تختلف أرقامها فعلا؟ لقد حصد الموت في هذا الشهر ضعف ما حصده طوال العام. ورغم أن السنة مرت بأفراحها وأقراحها بإيجابياتها وسلبيتها كما هي عادة كل السنوات، إلا أنها سجلت في نهايتها أحداثا ووقائع مؤلمة وغريبة، وهي تأبى إلا أن تواصل خرجاتها بفضلنا طبعا، آخرها مستفز للعقل وتعبير قوي عن تخلفنا، وهو مؤلم بقدر ما آلمنا فراق العديد من الناس الذين طبعوا هذه الدنيا بأخلاقهم وبفكرهم المتنور الذي لا يعوض للأسف في هذه المجتمعات المظلمة. على المشتغلين بالفكر والسياسة أن يتأملوا جيدا هذه الوقائع في المغرب وموريتانياوالجزائر وهي وقائع تم فيها استغلال الدين بشكل بشع. في المغرب تم هذا الأسبوع بحمد الله، منع فيلم Exodus كان لا قدر الله، سيزعزع عقيدتنا ويجعلنا نكفر بالله !! الأوصياء الجدد على السينما وعلى الأخلاق وعلى الدين منعوا الفيلم بضربة مقص، أقصد بمبرر تجسيد الذات الآلاهية، وهذا أحد مخارج هذا المأزق فقط، إذ أن مصر التي منعت الشريط دفعت بمبرر آخر هو تشويه الوقائع التاريخية، وقد انساقت العديد من الدول العربية وراء قرار المنع واستنسخته، وعلا ثغاؤها في صالات الفن السابع كالقطيع. أنا لا أدافع عن الشريط لكنني أثق في ذوق زميلنا بلال مرميد ذو العين الناقدة للسينما و«صاحب ركن» كما يصر على تذكيرنا بذلك مع كل إطلالة على إذاعة ميدي 1، والذي اعتبر بأن الشريط لا يرقى إلى مستوى الفن الرفيع صناعة وإبداعا. غير أننا هنا ننتقد فكرة المنع التي ناضل من أجلها العديد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين بعضهم قضى نحبه وبعضهم سجن وتعرض للتعذيب من أجل أفكاره. ومن هذا المنطلق فإن منع شريط سنيمائي أو أغنية أو مقال أو كتاب ... هو عمل بقدر ما يتصف بالتخلف ويبعث على البكاء إلا أنه في نفس الوقت مضحك بسبب التطور التكنولوجي الذي لا يعترف بالمنع في سنتنا الرابعة عشر من هاته الألفية. أما في جارتنا الشرقية الجزائر فقد قام شيخ سلفي قبل أيام فقط على نهاية هذه السنة بتكفير الروائي كمال داوود، فكان التكفير بمثابة ضوء أخضر أطلق سيلا من الفتاوى بإهدار دمه لا لسبب سوى لأنه قال في برنامج تلفزيوني على قناة فرنسية إنه جزائري وليس عربيا. والتفاصيل كما نقلتها بعض الصحف الجزائرية تتمثل في تعبير الكاتب الجزائري عن آرائه بخصوص الدين واللغة والهوية وذلك في برنامج «لم ننم بعد». وقد سأله مقدم البرنامج حول اعتقاده بوجود هوية عربية فأجاب «أنا لم أشعر بنفسي يوماً عربياً»، وقال بأن «هذا الحديث عادة ما يسبب له هجمات تمس شخصه» مؤكدا أنه «جزائري وليس عربياً» مبررا ذلك بكون العروبة ليست جنسية، بل هي حسب اعتقاده «احتلال وسيطرة». وقال كمال داود إنه كان إسلامياً في بداية شبابه بسبب غياب بدائل إيديولوجية، وأضاف أن «الشاب الجزائري يجد نفسه مجبولاً على الإسلاموية منذ صغره بوصفه فكراً شمولياً». ما أن انتهت حلقة البرنامج حتى طالت سياط التكفير جسد الكاتب الجزائري في البداية على لسان السلفي عبد الفتاح حمداش داعيا إلى تطبيق الحد في حقه من خلال مطالبته «النظام الجزائري إلى الحكم عليه بالإعدام قتلا علانية»، معتبرا أن كمال داوود يشن «حربه الفاجرة بالعدوان على الله تعالى وكتابه العظيم ومقدسات المسلمين»!!. واصفا إياه ب«الكاتب الزنديق الكافر». وقد فتحت هذه الاتهامات الباب لباقي المتطرفين الذين انساقوا وراء فتوى القتل، دون أن تحرك السلطات الجزائرية ساكنا رغم تعريض مثل هذه الدعاوى حياة الكاتب للخطر باعتبارها تحريضا على القتل! استمرارا في جرد هذه الوقائع نحط الرحال بالجارة الجنوبية موريتانيا حيث تنتظر المشنقة عنق الصحافي محمد ولد مخيطير بعد أن حكم عليه قضاؤها بالإعدام في نواديبو لأنه كما قالت المحكمة «تكلم عن الرسول (ص) بشيء من التهكم».. والمقال الذي حوكم ولد مخيطير من أجله نشر في يناير الماضي ومنذ ذلك الحين والصحافي رهن الاعتقال في انتظار محاكمته التي انتهت بالحكم القاتل، وفي المقال استند الصحافي لعرض أفكاره على مراجع الرواة، دون أن يشكك لا في الاسلام ولا في الرسول وقال إن النبي (ص) تعامل مع بني قريضة ليس كمعاملته مع أهله بني قريش مع أن كلاهما حارباه، مستندا كما أسلفنا ذلك على كتب الرواة. وقد كان ذلك سببا كافيا لحبسه على امتداد السنة وتهيئة الرأي العام وتجييشه من طرف الأصوليين والمتطرفين تمهيدا للحكم بالإعدام على الصحافي !! هذا على الرغم من أن بعض العلماء المتنورين دحضوا ما استندت إليه المحكمة لإدانة ولد مخيطير بحجج دامغة من الكتاب والسنة لتقويض ما اعتبره الظلاميون أدلة على ردة الصحافي. تفوح من كل هذه الوقائع رائحة استغلال بشع للدين، غير أن هذا الاستغلال للأسف استطاع أن يجد صداه داخل المجتمع، وذلك بسبب تراجع علماء الدين المتنورين الذين لم يعد يسمع لهم صدى، وأيضا بسبب تغلغل الفكر المتطرف في المجتمع، بل أكثر من ذلك شروعه في بناء مجتمع بمواصفات خاصة يؤمن بالعنف ويستغل معتقدات الأفراد كي يحولهم إلى ممثلين لله على الأرض يتهمون الناس ويحاكمونهم ويعاقبونهم. لطالما كان الارهاب يستعمل الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق مآربه مستغلا نسبة الحقد والكراهية المتغلغة في نفوس البعض، ليصنع منها قنابل بشرية. واستغلال الدين بهذا الشكل من أجل تحقيق مكاسب سياسية ومادية هو خطر يهدد الاستقرار، فعمل المجموعات المحرضة يستهدف الأفراد الذين يشكلون النواة الأساسية للمجتمع بكل فئاته وطبقاته، وهو عمل يستند على كل أشكال التواصل في غياب فظيع للدولة التي لا تستطيع سوى التعامل مع النتائج دون معالجة المشكل من جذوره التي تترسخ شيئا فشيئا في تربة مهيأة لاحتضانها بسبب التهميش والفقر والجهل، لكن أيضا بسبب الاستعداد الذاتي لدى البعض.