التوجه للمستقبل بالنسبة لأعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، يبدو هو الحل، لذلك اختاروا لرسالتهم التي توصلت بها «الأحداث المغربية» عنوان «دفاعا عن المستقبل».وأعاد أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، محمد الأشعري والعربي عجول وعلي بوعبيد، التأكيد على انتقاداتهم التي وجهوها للقيادة الاتحادية، ولمسار الاتحاد بعد المستجدات السياسية الأخيرة، وكذا للتوافقات التي بنيت عليها مجموعة من المواقف اتخذها الاتحاد منذ المؤتمر الوطني الثامن. واعتبر الثلاثة الذين لم يستبعدوا أن تتطور مبادرتهم إلى تشكيل تيار داخل الاتحاد، أن «السياسة في بلادنا تعرف أزمة حقيقية في مصداقيتها ، وفي علاقة الثقة التي ينبغي أن تكون لها مع المواطنين، وفي قدرتها على تأطير المجتمع، وابتكار أجوبة مقنعة على أسئلته، فلا يمكن اختزالها في مجرد أزمة في المسلكيات ، بل في إنها أزمة مرتبطة بأعطاب "الانتقال الديموقراطي" التي حولت مشهدنا السياسي إلى مسرح للأقنعة، والتي جعلت من الاضطراب والغموض والتناقض السمات الغالبة ليس فقط في سلوكنا ولكن أيضا في اشتغال مؤسساتنا، وفي تدبير حياتنا السياسية». وبالموازاة مع التأكيد على أن مبادرتهم تأتي في سياق الرغبة في التعبير عن قلق الاتحاديين،نفى الأشعري وعجول ،وبوعبيد أن تكون مبادرتهم موجهة ضد أحد، ولكن هي مبادرة من أجل الحزب.النص الكامل للرسالة :يعرف مشهدنا السياسي كثيرا من اهتزاز القناعات، والشك في النوايا ، لدرجة لم يعد ممكنا القيام فيه بمبادرة سياسية دون أن يصبح ذلك مدعاة لكل التأويلات السلبية، من التلويح بالتآمر والهدم والمساومة، إلى الاتهام بالإضعاف والانشقاق، مرورا بالتعريض بخدمة المصالح الشخصية أو التموقع بالنسبة لحرب المناصب الحزبية أو غير الحزبية. والواقع أن التجربة السياسية المغربية في السنوات الأخيرة قد أعطت ما يكفي من النماذج الصارخة التي تبرر هذه التأويلات السلبية، لكثرة ما رسخت من مشاهد الأنانية السياسية وتنافس الأشخاص والمصالح، عوض تنافس الأفكار والمشاريع، الشيء الذي أفرغ العمل السياسي من كل مغزى. إننا لانصدر في مبادرتنا عن نظرة ملائكية ساذجة، تصادر حق الفاعلين السياسيين في الطموح الفردي والتنافس على المواقع الأساسية للتدبير والقيادة، فالطموح المشروع والمبني على قواعد واضحة، يقع في صلب التنافس الديموقراطي المرتبط بتطلع التيارات السياسية إلى الحصول على ثقة الناخبين ومن ثم على المراكز التي تؤهلها لتدبير الشزن العام. إن هدفنا هو إعادة الاعتبار للطموح السياسي بربطه باستراتيجية جماعية، وبجعله قادرا على إنتاج معنى نبيل للسياسة.لذك نرى من واجبنا أن ندافع عن حقنا في المبادرة التي اتخذناها وأن نجعل منها منطلقا لنقاش سياسي هادئ، بعيد عن محاكمات النوايا، وعن التهويل الذي يختزل المبادرة في ما ستلحقه من خسائر بهذا الشخص أو ذاك. إن السياسة في بلادنا تعرف أزمة حقيقية في مصداقيتها ، وفي علاقة الثقة التي ينبغي أن تكون لها مع المواطنين، وفي قدرتها على تأطير المجتمع، وابتكار أجوبة مقنعة على أسئلته. فلا يمكن اختزالها في مجرد أزمة في المسلكيات ، بل في إنها أزمة مرتبطة بأعطاب "الانتقال الديموقراطي" التي حولت مشهدنا السياسي إلى مسرح للأقنعة، والتي جعلت من الاضطراب والغموض والتناقض السمات الغالبة ليس فقط في سلوكنا ولكن أيضا في اشتغال مؤسساتنا، وفي تدبير حياتنا السياسية. إن السؤال البسيط الذي نقفز عليه كل يوم هو متى تصبح الديموقراطية في بلادنا ديموقراطية عادية كم ا هو متعارف عليها على المستوى الدولي؟ وماهي الإصلاحات البديهية على المستوى السياسي والقانوني والأخلاقي التي تمكننا من هذا المطلب الذي يتطلع إليه المغاربة منذ أزيد من نصف قرن؟ لقد قضينا وقتا طويلا ونحن في المعارضة نصارع من أجل هذا الهدف السامي، صراعا حافلا بالتضحيات، والاجتهادات الفكرية والسياسية، والأخطاء أيضا، ثم في مرحلة ما من هذا المسار النضالي وتحت تأثير التحولات الداخلية والدولية اهتدينا في المعارضة وفي المؤسسة الملكية إلى أن النضج السياسي يقتضي أن نتوافق لتحقيق انتقال سياسي لا غالب فيه ولا مغلوب. هل نحتاج إلى التذكير بأن قيام الاتحاد وهو أبرز قوة يسارية في المغرب بهذا المجهود على نفسه لم يكن سهلا ولم يكن بدون جروح؟ هل نحتاج إلى التذكير كذلك بأن الأمر تطلب اتخراط قادة كبار ذوي عمق وطني وأخلاقي لا غبار عليه وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي؟ وهل نحتاج إلى التذكير أخيرا بأن بلادنا عاشت بسبب هذه التجربة ما لم تتردد كثير من الأوساط الوطنية والدولية في وصفه ب«ربيع الديموقراطية المغربية»؟.أين نحن من هذا الوضع اليوم؟ هناك بالتأكيد من يعتبر في قيادة الاتحاد بأن المغرب قد طوى عهد الصراع والقطيعة بشكل لا رجعة فيه، وأننا يجب أن نقبل نوعا من "التطبيع السياسي" نخرج بمقتضاه من منطق التأزيم وشد الحبل، فالمواعيد الانتخابية تجري في وقتها، والحكومات تتشكل وتعدل وينتهي أجلها، والمؤسسات المنتخبة تشغل المرسوم لها، وإذا كان هناك من إصلاح لا بد من إنجازه فإنه سينجز داخل هذا النسق المرتب. ولا مجال للحديث عن أزمة سياسية طالما أن البلاد تمشي دون هزات أو اضطرابات خطيرة.فبقدر ما نحن لسنا من أنصار التأزيم المخرب، ولا نريد أن نرجع ببلادنا إلى الوراء بقدر مانرى أن هذه المقاربة غير كافية لتشخيص الوضع. كما أننا نعتبر الحديث عن " مخاطر القطيعة"، كلما تمت المطالبة بالتغيير والإصلاح حديثا مغلوطا، يتجاهل التحولات التي عرفها المغرب، ويتشبث برؤية ماضوية تفضل توافق الواجهة على علاقة الحوار والوضوح.ونرفض رفضا قاطعا أن يعتبر النضال من أجل مطالب إصلاحية عميقة نوعا من شد الحبل، كما نرفض أن نجعل من الممارسة السياسية عملا مغلقا في أندية سياسية مغلقة، إنه توجه مضاد للديموقراطية، طالما أن الديموقراطية هي بناء ينهض على المشاركة ، وعلى النقاش العمومي وليس فقط على التفاوض. لقد كان جديرا بنا في الأحزاب الديموقراطية على العموم ، وفي الاتحاد الاشتراكي على وجه الخصوص أن نخضع للتساؤل منهجية التوافق التي بنينا عليها مشروع التغيير في بلادنا.ماهي الأشياء التي تحقققت بشكل جيد، ماهي الأشياء التي تحققت بشكل مبتور أو سيء، ماهي الأشياء التي لم ينجح التوافق إطلاقا في تحقيقها؟ كان يجدر بنا أن ننتبه إلى كون التوافق ليس تقنية لطمس التمايز، أو لقتل المبادرات وخنق الإبداع السياسي، أو لتفضيل الأقل على الضروري، لأن التوافق قبل هذا وذاك هو طريقة حضارية لتسريع وتيرة الإصلاحات بما يكفل أكبر قدر من المشاركة في تحقيق المصلحة العليا للبلاد وهو تبعا لذلك حوار علني ، وممارسة جماعية، وليس تقنية سرية لتدبير أوضاع فردية أو حتى جماعية. ولكوننا لم نقم بهذه المساءلة فإننا نجد اليوم أنفسنا سجناء لممارسة سياسية مكرورة، لا نستطيع الفكاك منها. إننا نشارك بواسطة توافق غامض في كل العمليات السياسية التي تجري في بلادنا سواء تعلق الأمر بمسؤوليات تمثيلية أو حكومية، وفي كل مرة نبرر ذلك بخطابات متناقضة تجعل المناضلين والرأي العام في حيرة من أمرهم الشيء الذي يجعل الحزب في أزمة دائمة ،ويدفع الناس للتساؤل: ولكن أين هو رأي لاتحاد الاشتراكي؟ أين هي مواقفه الخاصة التي ينبغي له سياسيا وأخلاقيا أن يعبر عنها حتى ولو قبل بأقلها أو بغيرها في إطار التوافق المزعوم؟ لماذايقول الاتحاد الاشتراكي نعم لكل شيء ولايبلور رأيا منبثقا من هويته في كل القضايا الكبرى، المرتبطة بتاريخ نضاله السياسي. إن الأمر لا يتعلق بحنين مرضي إلى عهد معارضة كل شيء، بل بالمسؤولية الأخلاقية التي تقتضي أن نقول لا دفاعا عن الحقيقة، وتوخيا للصدق في العلاقات بيننا، هذ العلاقات التي لن تخدم بلادنا إذا بنيت على الصمت أو على النفاق السياسي.إن الخروج من هذا المأزق يقتضي مواجهة صريحة للذات، إذا كنا قد أخفقنا في أن نجعل من الانتقال السياسي " انتقالا ديموقراطيا"، يجب أن نعترف بإخفاقنا، ونتحمل مسؤوليتنا في نصيبنا من هذاالإخفاق ، ويجب أن نبلور مشروعا للمستقبل، مشروعا تحمله أجيال جديدة، بلغة جديدة، وبرؤية جديدة. لا يمكن أن نرهن مشروع الإصلاح بين أيدي طبقة سياسية واحدة لكل المراحل والأزمنة، ولا يمكن أن نعتبر الإصلاح مجرد اختصاصات دستورية فحسب ، إنه أيضا رؤى ومواقف متمايزة، وتعبئة شعبية، ومشاركة واسعة.وعندما نتحدث عن المشروع المستقبلي يجب كذلك أن لا نختزل الإصلاح في الإجراءات السياسية والدستورية، على أهميتها، إننا حزب اشتراكي للقوات الشعبية، يهمنا بناء ديموقراطية حقيقية في بلادنا ولكن يهمنا أيضا وبالأساس بناء نظام اجتماعي عادل ومحاربة الفوارق الاجتماعية ، واقتصاد الريع، والرشوة والفساد وفي هذه الأمور لا يمكن بناء شيء على التوافق، فالمستفيدون من الأوضاع القائمة لن يتوافقوا أبدا إلا مع مصالحهم.لماذا فشلنا حتى الآن في إنجاز هذه المواجهة الصريحة مع الذات؟ لأننا ببساطة، سعينا إلى تغيير كثير من الأشياء في بلادنا، ولكننا لم نغير عميقا حزبنا بما يجعله مجالا مفتوحا لتنافس المشاريع والأفكار، وبما يجعله إطارا مفتوحا لممارسة ديموقراطية داخلية، تقطع مع أساليب الولاء الشخصي والزبونية.لقد أدى هذا الجمود إلى هيمنة الاستراتيجيات الفردية، وإلى سيادة النزاعات الشخصية، وحرم الحزب من مكانة تاريخية تميز بها منذ إنشائه، مكانة الحزب المنتج للاجتهادات الفكرية والسياسية والثقافية، والمؤطر للمعارك الحقوقية والاجتماعية. إن هذا الوضع لا يرجع إلى غياب مناضلين أكفاء داخل الحزب، ولا إلى عزوف مبدئي للأجيال الجديدة عن الانخراط فيه ، ولكنه يرجع بالدرجة الأولى إلى عجز الحزب عن تحديث بنياته ، وتنظيم التنافس في صفوفه ، واعتماد مقاييس الاستحقاق و الكفاءة و المحاسبة كمنهجية حديثة لتدبير العضوية في الحزب . لهذه الأسباب كلها، نقوم بهذه المبادرة . لانوجهها ضد أحد ، ولكن من أجل الحزب. لا ننشىء بها حلقة محدودة، ولكننا نتوجه بها إلى كل المناضلين الاتحاديين معتبرين أنها تهمهم جميعا على اختلاف حساسيتهم .إننا نرفض أسلوب الانشقاق، و نعتبر أن المطلوب هو أن يقوم الاتحاديون بواجبهم داخل حزبهم، وأن ينتصروا لقيم الاتحاد الأصيلة، ويجتهدوا لوضع استراتيجية سياسية للمستقبل عوض الاستمرار كما هو الشأن الآن في تدبير الحزب يوما بيوم. إننا نعتبر أن الرؤية التي ندافع عنها، نستمدها من صميم قناعاتنا، ونتقاسمها مع أغلبية الاتحاديين وإن كنا لم ننجح في جعلها توجها سائدا في المكتب السياسي. إننا لاندعي أية بطولة فردية في هذه المبادرة، ولا ننكر نصيبنا من المسؤولية في ما آلت إليه أوضاع الحزب، ولكننا نعتبر أن من واجبنا ونحن نقوم بما يلزم من نقد ذاتي أن ندافع عن المستقبل، وأن نعبر عن قلق الاتحاديين المؤمنين بأن حزبهم قادر على التوجه نحو المستقبل بإرادة متفائلة تراهن على توحيد اليسار، وعلى تضامن الصف الوطني، وعلى تجديد الفكر الاشتراكي، وعلى انضمام أجيال جديدة من الاشتراكيين من مغرب اليوم. إننا سنعمل بكل إخلاص على تقوية حزبنا، وتوسيع صفوفه، وإعادة الاعتبار للنقاش العمومي، وسنعمل مع كل الاتحاديين المخلصين ومع كل المواطنين المؤمنين بالاختيار الاشتراكي وبضرورة التغيير و الإصلاح على فتح أفق جديد لنضالنا الديمقراطي.محمد الأشعري -علي بوعبيد - العربي عجول الرباط : 27 أبريل 2010