لاحظ أمارتيا سين (Amartya sen)، الحائز على جائزة نوبيل للاقتصاد عام 1998، وصاحب أبحاث حول المجاعة والميكانزمات الأساسية للفقر ونظرية التنمية البشرية، لاحظ أن المجاعة لا تتفشى في البلدان التي تتوفر على أنظمة ديمقراطية وتمارس فيها حرية الصحافة. مبرر الإدلاء بملاحظة هذا الخبير، هو النقاش الذي يتواصل، ويكاد لا ينتهي، داخل حكومتنا حول الحق في الحصول على المعلومة. كلام أمارتيا سين يعني أن الحق في المعلومة ليس ترفا، ولا صدقة أو هبة يمكن أن تتكرم بها حكومة من الحكومات على مواطنيها. إنه ضرورة اقتصادية، بالإضافة إلى أنه حق من الحقوق الأساسية للمواطن، نصت عليه المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان، وجعلت الدول الديمقراطية احترامه وممارسته آلية محورية في علاقاتها مع شعوبها، اقتناعا منها بأن حرية تدفق وتداول المعلومات تشكلان المادة الحيوية والضرورية لتغذية الديمقراطية، وتقويتها، وتطويرها نحو الأفضل. فهل تتجه حكومتنا نحو تبني مشروع قانون يكرس ويضمن حق المواطن في الحصول على المعلومة، أم تراها تسعى إلى الحد من هذا الحق فتدفع إلى سن قانون ينحو منحى معاكسا لما يستشف من روح الفصلين 27 و28 من الدستور، اللذين ينصان على الحق في الحصول على المعلومات وعلى حرية الصحافة؟ ما يخشى هو أن تتحكم ثقافة السر واحتكار المعلومات في صياغة القانون، فتنتصب الحواجز وتكثر الشروط من أجل تضييق مجال ممارسته. الطريقة التي تتعاطى بها الحكومة مع هذا الموضوع تعزز هذا التخوف. لقد مضى ما يقرب من عام على انطلاق التداول حول ما تنوي الحكومة اقتراحه لجعل المواطن يمارس حقه في الحصول على المعلومة. تقدمت فرق نيابية بقترحات قوانين، لكن الحكومة تجاهلتها، واختارت الانفراد بصياغة مشروع القانون. وسرعان ما اتضح أنها لا تملك رؤيا موحدة. تجلى ذلك في خضوع المشروع الذي أعدته لعدة نقاشات بين أعضائها. جرت آخر مداولة حوله، يوم 23 يناير 2014. منذ ذلك التاريخ، لم نعد نسمع شيئا عن المرحلة التي وصلت إليها صياغته الجديدة، مع العلم أن قضية الحق في المعلومة تكتسي صبغة استعجالية، استجابة لما نص عليه دستور 2011، وبفعل ما تؤاخذه على بلادنا المنظمات الحقوقية التي تراقب ممارسة حرية الصحافة في العالم. لقد ترسخت ثقافة السر واحتكار المعلومات والمعطيات في دواليب الإدارات والمرافق العمومية، ولدى القيادات السياسية وأصحاب القرار، حتى أصبحت كل معلومة، كبرت أهميتها أو صغرت، تعد سرا من أسرار الدفاع الوطني. أكيد أن امتلاك المعلومات والتحكم فيها يمنح صاحبها سلطة واسعة. سلطة، سيظل مالكها يقاوم من أجل الاحتفاظ بها، لأنه يعتبر إشراك المواطن في امتلاكها إضعاف لسلطته، وتفريط في امتياز يعتقد أنه حق مشروع له وحده. لتغيير هذا الوضع، يحتاج تشريع هذا الحق إلى التحلي بالشجاعة السياسية، وبثورة على الذات من أجل مواجهة الثقافة السائدة لدى أصحاب القرار، على مختلف مستوياتهم، وتغييره بثقافة وبسلوك يعترفان بأن الحق في الحصول على المعلومات جزء لا يتجزأ من الحقوق الأساسية للمواطن. قد يعتقد، لأول وهلة، أن تأجيل المصادقة على مشروع القانون المعد من طرف وزارة الوظيفة العمومية، أمر إيجابي؛ فلعل تكليف لجنة وزارية لإعادة النظر فيه، وتوسيع النقاش حوله، يؤديان إلى صيغة قانونية تؤسس لبزوغ سلوك جديد لدى المؤسسات والإدارات العمومية تطبعه الشفافية، ويكرس احترام حق المواطن في الإعلام والمعرفة. غير أن المؤشرات التي بإمكانها تعزيز هذا الاعتقاد تبدو غائبة، وبالتالي فالمرجح أن هذا التأخير لن يصدر عنه ما يعزز عنصر التفاؤل. لماذا؟ رفضت الحكومة تبني مقترحات القوانين التي تقدمت بها بعض الفرق النيابية حول الموضوع، ولم تبد حتى الاستعداد للاستفادة من أفكار النواب والاستئناس بها، المسودة المعروضة للنقاش، كانت من إنتاج وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، وهي وزارة ليست نموذجا لثقافة الشفافية. تعاقب عليها عدد كبير من الوزراء منذ عشرات السنين وكان من مهامهم تحديثها، لكنهم لم يستطعوا حتى تغيير العقليات السائدة وسطها، فبالأحرى تحديثها وجعلها تساير متطلبات العصر. كيف تكون، والحالة هذه، مصدر قانون، يحقق الشفافية، والانفتاح؟ لم تنهج الحكومة مسطرة تشاركية حقيقية لإعداد القانون. تجاهلت منظمات المجتمع المدني التي ما انفكت تناضل من أجل الحق في الإعلام والمعرفة، مثل جمعيات حقوق الانسان، والهيئات المهنية لقطاع الصحافة، والمنظمات التي تحارب الرشوة…الخ. اختيار الحكومة الإنفراد بإعداد مشروع يقنن حق المواطن في الحصول على المعلومات، يعني أنها لا تبحث عن التوافق، وأنها ليست على استعداد لتغيير سلوكها، الذي يعد جزءا أساسيا في مشكلة غياب الشفافية. إنها من أكثر المؤسسات التي جعلت من التعتيم على المعلومات منهجا في علاقتها بالمواطنين. تمارس مهامها، وتدير العلاقات داخلها، وبينها وبين باقي المؤسسات الدستورية الأخرى، بعيدا عن علم الجمهور. تتحكم في طبيعة ونوعية الأخبار التي تسربها لوسائل الإعلام، بغية تكييف الرأي العام، التكييف الذي يحوله إلى معجب بنشاطها ومؤيد لقراراتها. تغضب عندما تنشر عنها أخبار لا تعجبها خشية أن تؤثر على الصورة التي تسعى للظهور بها. لا يخالجها الوعي بأن غياب التواصل وحجب المعلومات يغذيان الإشاعة، وأن الإشاعة سلاح فتاك، وبأن أحد أسباب عدم ثقة الجمهور في الخطاب الرسمي (إن لم نقل السبب الرئيسي) يعود إلى ممارسة التعتيم، وإلى اعتماد سياسة تواصلية تمارس الوصاية على المواطن، وتتعامل معه بأبوية، فتختار مكانه ما يحق له معرفته، حسب المقاييس التي وضعتها الحكومة، وحسب المصلحة التي تريد تحقيقها. صحيح أن هناك مجالات لا يمكن إخضاعها للشفافية المطلقة، وبالتالي يكون تقييد الحق في الحصول على المعلومات المتعلقة بها مشروعا، وضروريا، مثل مجالات الدفاع الوطني، والأمن الداخلي والخارجي للدولة، والحياة الخاصة للأفراد. حماية الأمن القومي، بالنسبة لبلدنا الذي تواجهه مخاطر الإرهاب والانفصال، تعلو على الحق في المعلومة. هذه بديهية يؤمن بها كل غيور على وطنه، ولا يحق لأي كان أن ينازع في هذه البديهية. لكن يجب تجنب المبالغة، كما يجب أن يتم ذلك التقييد بمقتضى القانون، وبالدقة التي لا تترك مجالا للتأويل المغرض وغير الصحيح، حتى لا يحل الاستثناء محل القاعدة التي يجب أن تظل هي الحق في الحصول على المعلومات. أما فيما يتعلق بحماية الحياة الخاصة للأفراد، فإن معالجتها تتطلب مقاربة تختلف عن تلك المتعلقة بالدفاع الوطني والأمن الداخلي والخارجي للدولة، وذلك بتحديد دقيق لفهوم الحياة الخاصة، ورسم حدودها وحدود تقاطعها مع الحياة والشأن العامين، حتى لا تصبح سيفا يعلقه المكلفون بتسيير الشأن العام على رقاب الأدوات المجتمعية التي تقوم بدور اليقظة والرقابة، مثل الصحافة ومنظمات المجتمع المدني، وممثلي السكان. ليس من المبالغة القول بأن الحق في الحصول على المعلومة، يعد بمثابة تقاطع طرق، تلتقي في مداره مجموعة من الحقوق الأخرى التي تعطي لمفهوم المواطنة معناه الحقيقي، كالحق في المشاركة السياسية، والانخراط في تنشيط الحوار والنقاش الديمقراطيين، وامتلاك أدوات تكوين الرأي الحر والمستقل، والمساهمة في مسلسل صياغة القرارات التي تهم الحياة العامة، ومراقبة المسؤولين عن تسيير الشأن العام، وقيام الصحافة بدورها المجتمعي… عدم توفر هذا الحق وغياب ضمانة ممارسته يعطلان كل هذه المفاهيم. elberini.blogspot.com