قلما ينقضي شهر من شهور السنة الجديدة، دون أن تسمع بعملية انتحار شخص في هذا الدوار أو ذاك، وفي هذه الجماعة أو تلك من إقليم تاونات، إلى درجة أصبح الحديث بين العديد من الأوساط عن “ظاهرة” أضحت تتفشى بشكل مقلق. وهو إقليم كان من المفترض أن يخلو من مثل هذه الظواهر، بحكم مميزاته الطبيعية الفاتنة المترامية على مساحة تقدر ب 5585 كلم مربع، وبهدوء لياليه واخضرار غاباته، وكرم وتضامن ساكنته الموزعة على ما يناهز 1600دوار متناثرة بين أطراف هذا الإقليم الفتي الذي يشكو من الإهمال والتهميش على أكثر من صعيد . الإنتحار! أضحت عمليات الا نتحار بتاونات متفشية بشكل أصبحت معه تثير أكثر من سؤال بين مختلف الأوساط الاجتماعية، خصوصا أنها تمس فئات عمرية متباينة ويقدم عليها الجنسان معا. كان آخر عملية العثور يوم الأربعاء فاتح يونيو الحالي 2011 على تلميذة في مقتبل العمر مشنوقة بحبل مثبت بإحكام في غصن شجرة في موقع غير بعيد عن منزل والديها، بدوار تابع لجماعة بوعادل، وكانت الهالكة ذات الربيع الثاني والعشرين من العمر، تتابع قيد حياتها دراستها بمستوى الثانية من سلك الباكالوريا بالثانوية التأهيلية خالد بن الوليد ببني وليد، وتبقى ظروف وملابسات انتحارها غير معروفة. ويأتي انتحار هذه التلميذة على بعد ساعات من اليوم نفسه بعد إقدام شاب آخر في ربيعه الخامس والعشرين في دوار الخندق التابع لنفوذ جماعة تبرانت الواقعة على الحدود الإدارية بين إقليمي تاونات والحسيمة، على الإنتحار شنقا بالطريقة ذاتها التي تمت بها عملية انتحار التلميذة السالفة الذكر. وقبل هذين الحادثين، وعلى بعد أقل من أسبوع وتحديدا في ظهيرة يوم السبت 28 ماي الماضي، أقدم شاب يبلغ من العمر أربعا وعشرين سنة بدوار «حلابة» الواقع في نفوذ جماعة الرتبة بدائرة غفساي على الانتحار، حيث أفادت بعض المصادر أنه «اختار» وضع نهاية لحياته بشنق نفسه بطريقة محكمة بواسطة حبل متدل وكرسي يشبه المشنقة داخل حجرة بيت أسرته، مستغلا غياب أفرادها. وكان هذا الشاب حسب نفس المصادر يعاني من بعض الاضطرابات النفسية التي تنتابه من حين لآخر منذ مغادرته لسلك الجندية. وكانت جماعة المكانسة التابعة لتراب دائرة قرية با امحمد، اهتزت خلال شهر مارس الماضي على وقع خبر عملية انتحار أخرى لتلميذة قاصر في ربيعها الثالث عشر، كانت تدرس بإعدادية الحسن الثاني بالمكانسة التابعة لنفوذ دائرة قرية با محمد بالمستوى الأولى إعدادي، بعد أن أقدمت صبيحة يوم 12 من شهر مارس الماضي على وضع حد لحياتها شنقا. وهي العملية التي تم ربطها بعلاقة غير شرعية جمعتها بممرض بعد أن أقدم على التغرير بها وربط علاقة معها على أساس أنه سيتزوجها، وهو ما جعلها تدخل في دوامة نفسية واضطراب عاطفي جعلها تلجأ إلى الانتحار. وشهد دوار «عين بوشريك» بجماعة الوردزاغ يوم 12 مارس الماضي حالة أخرى من الإنتحار حين أقدمت طفلة في ربيعها الثالث عشر، على الانتحار شنقا بباب منزل أسرتها ولم تعرف أسباب إقدام هذه القاصر على وضع حد لحياتها بتلك الطريقة تاركة وراءها أسرة مكلومة . الحالة الأخرى لعملية الانتحار بهذا الإقليم، تلك لجأت إليها فتاة في ربيعها الخامس عشر، وكان دوار «تاغصة» بجماعة الوردزاغ مسرحا لها، حيث عمدت الضحية يوم 28 مارس الماضي إلى شنق نفسها بجذع شجرة زيتون دون أن تتوضح أسباب إقدامها على الانتحار، وكانت الفقيدة انقطعت عن الدراسة منذ موسم دراسي واحد. وسُجلت حالة انتحار أخرى هذه المرة ل «فقيه» في الثلاثينات من عمره، بدوار وكسات بجماعة كلاز خلال نفس الفترة وتحديدا أواسط شهر مارس الماضي، حين أقدم على شنق نفسه بغصن شجرة زيتون غير بعيد عن مسجد الدوار، ولم تعرف دوافع إقدام الفقيه على وضع حد لحياته. وقد فوجئ بعض الأطفال الذين كانوا يتابعون دراستهم بكتاب المسجد بإقدام الضحية، بشكل غير منتظر، على الانتحار. أرقام مقلقة؟ وبين هذه الحالات وأخرى ربما لم يتم الإعلان عنها، أصبح صيت عمليات الانتحار بإقليم تاونات يسمع بين الفينة والأخرى بشكل يثير الإنتباه، على اعتبار أنها أضحت في السنوات الأخيرة، تهم جميع الفئات من كلا الجنسين بما في ذلك شباب وشابات في عمر الزهور، وهو الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول دوافع اختيار هذه الفئة وضع حد لحياتها، تاركة وراءها «عائلات مكلومة من هول هذا المصاب الذي يصعب على المرء أن يتقبله»، يقول فاعل جمعوي بالإقليم، خاصة «حينما يحس أولياء الضحايا بمسؤولياتهم فيما وقع بتقصيرهم في تفهم احتياجات أبنائهم»، فهذا الأب «يندب حظه عندما فاجأه ابنه البالغ 13 ربيعا بإقدامه على الانتحار بعد أن أرغمه على رعي الغنم»، وتلك الأسرة التي لا تدري أنها «أشعلت نار الغيرة في صدر ابنتها حينما فضلت ولدها الذكر، فتفضل الفتاة داخل مثل هذه الأسر الموت على العيش في كنف أسرة لازالت تفكر بمنطق العصر الجاهلي». تشير بعض المصادر إلى تسجيل أكثرمن 11 حالة انتحار منذ حلول السنة الجديدة لأسباب مختلفة تتراوح بين خلل عقلي ونزاع عائلي وعتاب الأسرة، فيما تحدثت تقارير إعلامية استنادا إلى دراسة أجريت سنة 2006 تناولت ظاهرة الانتحار بإقليم تاونات، بأن هذه الدراسة خلصت إلى أن الفئة العمرية من 20 حتى 35 سنة تشكل نسبة 60% من مجموع حالات الانتحار بالإقليم، متبوعة بالفئة التي عمرها أقل من 20 سنة، التي مثلت نسبة 33، بينما لم تتجاوز هذه النسبة 6% من هم فوق 40 سنة. وسجلت مصالح الوقاية المدنية بتاونات 18حالة انتحار سنة 2001، وارتفعت إلى 23 حالة سنة 2002، وفي سنة 2004 سجلت 35 حالة انتحار، بمعدل ثلاث حالات في الشهر الواحد، فيما سجلت 21 حالة سنة 2005، وخلصت الدراسة إلى أن 33% من ضحايا الانتحار هن إناثا. واكدت التقارير ذاتها على التنوع في طرق الانتحار، بين الشنق والارتماء من المنازل والقناطر، وكذلك الغرق عمدا في بحيرات السدود ووديان الإقليم، فيما شكلت وسيلة الشنق بحبل إلى جذع شجرة، خاصة أشجار الزيتون 87% من مجموع حالات الانتحار. وكشفت المصادر ذاتها، أن 19 من الضحايا استعملوا الحبال لشنق أنفسهم إلى جذع شجرة أو عند غرفة النوم أو الإسطبل أو مرآب المنزل، وسجلت المصالح ذاتها حسب نفس المصادر 14 حالة انتحار غرقا، وحالتي انتحار بالارتماء من سطح المنزل والطعن بالسكين. وتراوح مجموع حالات الانتحارحسب التقارير ذاتها بين سنة 2005 و2010 بين 21 حالة و 53 حالة كل عام، من بينها 23 حالة انتحار خارج المدار الحضري لمدنية تاونات سنة 2010، ضمنها 5 حالات في صفوف النساء خلال نفس السنة. الأسباب متعددة والموت واحد! وتتعدد تفسيرات عمليات الانتحار بين ما هو نفسي واجتماعي، حيث يؤكد المتتبعون لهذه «الظاهرة « على ثلاث دوافع أساسية غالبا ما تكون وراء عملية «قتل النفس «، أولها الخوف والهلع والإحساس بالاضطهاد، خصوصا في صفوف الأطفال والمراهقين بالإقليم ، حيث غالبا ما تدفع مثل هذه الحالات النفسية المتضرر إلى الانتحار لتخليص نفسه من هذا الخوف، ومن الأسباب التي تدفع إلى الانتحار كذلك الاكتئاب والانفصام ، وهما دافعان رئيسيان ، إذ «أن 10 % المصابين بهذين المرضين النفسانيين يموتون بالانتحار» حسب المختصين ، أما ثالث الدوافع الرئيسية للإقدام على الانتحار هي ما يعرف بالإكتئابية الهوسية ، حيث «15 في المائة من المصابين بها يموتون انتحارا». كما أن الظاهرة تقف وراءها أيضا أسباب اجتماعية واقتصادية وأحيانا عاطفية تدفع بالشخص إلى «إنهاء حياته للتخلص من ‘الجحيم' الذي يعيش فيه، وخاصة إذا لم يجد من يأخذ بيده ويساعده على الخروج من الدوامة التي يتخبط فيها جراء هذه الظروف، سواء من محيطه الأسري أو من طرف معارفه وزملائه وأطره التربوية» يقول أحد المهتمين بهذه الظاهرة قبل أن يضيف بأن «الجهل بالوضعية الاستثنائية، النفسية أو الاجتماعية، لأي شخص يجعل منه ‘مشروع منتحر' ويزيد في الطين بلة ويسرع من وتيرة إقدامه على ارتكاب هذا الفعل الشنيع» ، « فلا بد من الإنصات إلى هذه الفئة والأخذ بيدها حتى تجتاز هذه المرحلة الحرجة، رحمة بها وتقديرا لحالتها النفسية والاجتماعية التي تجعلها في وضعية لا يطيقها الكبار، فما بالك بالصغار». تاونات : محمد المتقي / سعيد بقلول