الطريق إلى عمق الأطلس الكبير، وبالضبط إلى دوار "المدينات" لم يكن سهلا أبدا. لنصل إلى هذا الدوار الذي يدخل ضمن الامتداد الترابي للجماعة القروية "أزكور"، كان علينا أن نحط الرحال بالمدينة الحمراء مراكش، ثم نقطع بعدها 54 كيلومتر في اتجاه "امزميز" التي تعتبر البوابة الحقيقية للأطلس الكبير. عند وصولنا إلى "امزميز" كانت رياح باردة ومنعشة تهب على المكان الذي لا يجعلك تحس بالغربة وانت متواجد فيه. "أمزميز" منطقة هادئة لم يعكر صفوها خلال الاشهر القليلة الماضية إلا نبأ اكتشاف منجم ذهب صغير بالمنطقة، ثم القبض على مبشر امريكي كان ينشر دينه بين الناس، وكانت "هسبريس" قد انفردت بخبر القبض على هذا المبشر وتفاصيل التحقيق معه وترحيله بعدها خارج المغرب. لم نمكث في "أمزميز" أكثر من 45 دقيقة قبل أن نبدأ في شق الطريق المعبدة بالجبال نحو دوار "المدينات". كانت السيارة تسير ببطء وكان عمّي حسن، كما كانت تناديه الفاعلة الجمعوية عاتكة التايك يقود بنا السيارة بهدوء وببراعة وابتسامة دائما. اهتم عمّي حسن كثيرا بأن نعرف تاريخ المنطقة التي كانت حصنا منيعا للمقاومة أثناء الاستعمار الفرنسي، حتى أن البعض يتحدث على أن الملك محمد الخامس كان كثير الخلوة مع نفسه بهذه المنطقو، إذ كان يزورها في سرية ويستكن لنفسه لأيام بها قبل أن يتابع مهام الدولة. عمّي حسن رجل طيب في أواخر الأربعينيات من عمره، لا تفارقه الابتسامة وهو مستعد أن يجيبك عن أي سؤال فضولي طرحته عليه. كانت رحلتنا معه ممتعة وهو يقود بنا السيارة التي كانت تسير ببطء شديد لوعورة الطريق الملتوية على طول 27 كيلومتر التي قطعناها من "أمزميز" إلى دوار المدينات، والتي كانت تعني شيئا واحدا؛ إن غفل عمّي حسن ولم ينتبه إلى الطريق أمامه يعني ببساطة أننا سنسقط في سفح جبل نرتفع عنه بأكثر من 1500 متر. كنا كلما اخترقنا جبال الأطلس الكبير ندرك قسوة ما يعانيه مواطنو هذه المناطق البعيدة التي يتحدث عنها وزارء الرباط دون ان يعرف أحد منهم أين توجد على الخريطة. بعد اكثر من ثلاث ساعات من الطريق، وصلنا أخيرا إلى دوار "المدينات". وجوه تطل علينا وعلامات الفقر بادية على ملامحها. بساطة غريبة في عيون الناس. حب متدفق وكرم ضيافة كبير. طبيعة خلابة كما نراه نحن وقاسية كما يراها سكان دوار "المدينات". أطفال يركضون ويحاولون صنع حياة من اللاشيء. نساء عدن للتو من حقول بعيدة وعلى ظهورهن أكوام من الحطب غير مهتمات بشكل مطلق بقوانين نزهة الصقلي ولا بالحديث الفضفاض عن حقوق المرأة والشعارات الكبيرة المعنى والصغيرة في فهم عمق حاجيات المرأة المغربية في المناطق النائية. هنا في دوار المدينات لا تشعر المرأة بأي احتقار او نقص لقيمتها وهي تخرج للعمل طوال اليوم مع زوجها للبحث عن سبل الحياة. هنا المودة والرحمة هي القانون الأسمى بين الزوجين. وكل القوانين التي تصنعها بعض جمعيات "الدفاع عن حقوق المرأة" في الصالونات والفنادق الخمس نجوم لا شأن لنساء "المدينات" بها. كل شيء طبيعي هنا. كل شيء بدائي. حتى شبكة الهاتف تحتاج لمجهود جبار لتلتقطها وقد تنجح في ذلك وقد لا تنجح. مرحبا بكم في دوار "المدينات"، قالت عاتكة التايك مرحبة، مع زغاريد بلفحة أمازيغية اصيلة أطلقتها السيدة عائشة محمد أو لالة عائشة التي يحترمها الكل في "المدينات". هي امرأة طاعنة في السن ترحب بالضيوف دون تردد وبعفوية كبيرة. قبل سنوات زار مصور محترف لأحد المجلات الفرنسية دوار "المدينات" خصيصا لالتقاط صورة ل"لالة عائشة" التي تعاني من مرض الغذة الدرقية بفعل نقص مادة "اليود"، وهو المرض الذي يعاني منه أغلب سكان الدوار. الصورة التي اخذت ل"لالة عائشة" وضعت كغلاف للمجلة الفرنسية وملف كامل عن هذا المرض الذي لم يجد الاهتمام الكاف من طرف السلطات المغربية من اجل ايجاد الحلول العملية والفعالة لمحاربته في هذا الدوار بالتحديد. فالسكان هنا يعانون من سوء التغذية بفعل الفقر وهو ما يجعلهم يصابون بأمراض مزمنة كثيرة يتعايشون معها بألم صامت. الزائر لهذا الدوار يمكن أن يخرج بخلاصة واحدة وهي ان جزء كبير من المغرب مازال غير نافع أو أن البعض يصر بأن يجعله غير نافع. فبعيدا عن أحياء كليز الراقية بقلب مراكش، وبعيدا عن الريضات التي تباع بالملايير والكازينوهات التي يمكن لثري مراكشي او غربي او خليجي ان يصرف فيها ملايين من السنتيمات دون أن يشعر أن رصيده قد تحرك يوجد أناس على بعد كيلومترات فقط من كل هذا العبث يعيشون بشكل بدائي. فقر، وأمية، وانعدام لأي برامج للتنمية. هنا في الجماعة القروية لأزكور التابعة لنفوذ قيادة "كدميوة" والتي تأسست سنة 1959 مازالت الحياة بطيئة وكل وسائل الحياة والاتصال بالعالم الخارجي شبه منعدمة اللهم طريق معبدة تحتاج لجهد كبير لتصبح صالحة وقادرة على لعب دورها المحوري في الربط بين هذه الجماعة وبين دائرة "أمزميز" التي تعد البوابة الحقيقة لجبال الأطلس الكبير. هنا في جماعة أزكور وبالضبط في دوار "المدينات" وقفت "هسبريس" على حقيقة ساكنة هذه المنطقة الذين يعيشون منفصلين عن العالم الخارجي وحتى شبكة الاتصالات التي عادة ما تكون رابطا بين الأماكن والأشخاص هنا شبه منعدمة وتحتاج لجهد كبير كي تتمكن من رصدها، وهي أمنية لا تتحقق لك دائما. تقدر المساحة الإجمالية للجماعة "أزكور" ب 196كلم2 أي ما يعادل 3.15 % من المساحة الإجمالية لإقليمالحوز. ويغلب على المنطقة الطابع الجبلي بنسبة 95 % وهذا ذلك ما يعتبره سكان المنطقة نقطة ضعف بالنسبة للجماعة خصوصا أن نوعية هذه التضاريس لا تساعد على ممارسة الأنشطة الفلاحية والزراعية وهو ما يصعب حياتهم المعيشية، إذ لا يتم استغلال سوى 5% من أراضي الجماعة للزراعة وغرس أشجار الجوز والتفاح. كما أن الجماعة تتميز بمناخ حار صيفا وبارد شتاء. وتعرف تساقطات ثلجية مهمة وتساقطات مطرية قد يصل معدلها في أحيان كثيرة إلى 400 ملم سنويا. وتتعرض المنطقة لمشكل "الجريحة" وخصوصا خلال شهور نونبر، دجنبر، يناير وفبراير والتي تسبب في خسارة مهمة في المحصول الشتوي لسكان الجماعة. كما تعرف المنطقة عبر فصول السنة هبوب رياح جبلية قوية تفوق سرعتها أحيانا 70 كلم في الساعة، وهو ما يزيد من صعوبة المناخ في هذه الجماعة التي تحيط بها جبال الأطلس من كل جانب. الفقر يتجول راجلا في جماعة "أزكور" في قلب دوار "المدينات" المكون المجالي الأساسي لجماعة "أزكور" يمكن للزائر أن يرى كيف أن الفقر يتجول راجلا في هذا الدوار، وكيف أن الناس يبحثون وبشكل دائم عن أسباب الحياة التي تبدو قاسية وصعبة في غياب موارد طبيعية، وبرامج تنموية ترتقي بمستوى عيش مواطني هذه الجماعة الذين يعيشون الحيف بكل تفاصيله يزيده قسوة الطبيعة خصوصا عند فصل الشتاء حيث ينقطعون عن العالم الخارجي بشكل كامل بفعل كمية الثلوج التي تتساقط على المنطقة، والتي قد تدوم لأيام أو لأسابيع وهم في عزلة تامة، يواجهون مصيرهم بأنفسهم كما علمتهم الطبيعة ذلك. وحسب آخر إحصاء، فسكان جماعة "أزكور" يبلغ عددهم ما يناهز 7105 نسمة. خمسة دواوير من أصل أربعة عشر دوارا تشكل 58 % من مجموع سكان الجماعة. وتشكل الإناث ما يزيد 54 % من عدد السكان. أما الكثافة السكانية بالجماعة فهي ضعيفة أي ما يزيد عن 32 نسمة في كلم 2 مقارنة مع باقي المستويات الإقليمية والجهوية والوطنية. أما نسبة الأرامل بالجماعة فتشكل 12% من السكان وهو ما يجعل حياتهم صعبة وموارد عيشهم قليلة مما يدفع بعض جمعيات المجتمع المدني جاهدة من أجل البحث عن مشاريع صغيرة بالجماعة بشراكة مع عدة جهات لتنويع دخل هؤلاء الأرامل، وكذا فقراء هذه المنطقة. إلا أن هذه المشاريع تعرف العديد من العراقيل من المشرفين على تسيير الجماعة، وهو ما أكدته ل "هسبريس" عاتكة التايك رئيسة جمعية "تونزا" التي أقدمت على العديد من المشاريع المدرة للدخل بالنسبة لساكنة الجماعة، لكن العراقيل التي تواجهها اليوم جد صعبة مما يجعل المجتمع المدني يطرح العديد من التساؤلات حول مدى قدرة السلطة الوصية على تشجيع الفاعلين الجمعويين في خلق هذه المشاريع، وتذويب كل الصعاب التي تواجهها، تقول عاتكة التايك ل "هسبريس". هذا، وتقول هذه الفاعلة الجمعوية النشطة أن كل المشاريع مهددة بالإيقاف مادامت الجماعة لا تتجاوب بشكل إيجابي مع هذه المبادرات التي ترمي إلى تحسين وضعية ساكنة الجماعة التي يتميز هرمها السكاني بالفتوة إذ أن ما يفوق 60% من سكان الجماعة لا يتجاوز سنهم 30 سنة، ويمثل السكان المسنون حوالي 10 % من مجموع الساكنة. هذا في الوقت الذي تبلغ نسبة الأمية 69 % حسب آخر إحصاء، وهي تفوق النسبة المسجلة على المستوى الإقليم. وتسود هذه الظاهرة خصوصا في صفوف الإناث حيث تبلغ 81 % أي ما يمثل 65% من مجموع الساكنة. وهذا ما دفع المجتمع المدني للعمل على محاربة الأمية ومحاربة الهدر المدرسي بين سكان دواوير هذه الجماعة، وهو المشروع الذي يجب أن يحض بالأولوية حسب عاتكة التايك رئيسة جمعية "تونزا" التي تعتبر أن الأمية عامل أساسي في انعدام وجود أي تنمية، خصوصا وأن اغلب الساكنة تُستغمل وبشكل بشع في كل استحقاق انتخابي دون أن ترتقي حياتهم بالشكل المطلوب. وإذا علمنا- تقول التايك- أن معظم السكان البالغين 10 سنوات فما فوق بالجماعة لا يتوفرون على أي مستوى دراسي حسب إحصائيات 2004، إذ يمثلون 66.4% من مجموع السكان، أما الساكنة التي لها مستوى ابتدائي فتمثل 26.5% من سكان الجماعة، سنعرف مدى أهمية محاربة الأمية في هذه الجماعة التي يوجد بترابها 16 كتابا قرآنيا تستوعب 370 طفلا و3 مركزيات ابتدائية و11 مدرسة ابتدائية يدرس بها 437 تلميذ. كما تتوفر الجماعة على إعدادية واحدة تستوعب 104 تلميذا. ويبلغ معدل التأطير الابتدائي بالجماعة 15 تلميذا لكل مؤطر، أما معدل التأطير الإعدادي فهو تقريبا 11 تلميذ لكل أستاذ. ويبلغ معدل التمدرس بالنسبة للابتدائي 52.7% سنة 2008، أما معدل التمدرس بالنسبة للإعدادي فقد سجل % 33,4وهي نسب ضعيفة بالمقارنة مع المستوى الإقليمي. ضعف كبير في البنية الصحية ووضع صحي هش في جماعة يبلغ تعداد سكانها ما يزيد عن 7105 نسمة، لا يوجد إلا مستوصف قروي واحد وآخر هو كمشروع يدخل في إطار المخطط التشاركي ل 2009/ 2014 الذي أعدته المندوبية السامية بتعاون مع جماعة "أزكور" والمجتمع المدني، وصادق عليه المجلس القروي السابق. وتوجد بتراب الجماعة سيارتي إسعاف الأولى في ملك الجماعة والثانية في ملكية إحدى الجمعيات نادرا ما تستعمل، وهو ما يدخل ساكنة الجماعة في مشاكل لا تعد ولا تحصى خصوصا أثناء الحالات الصحية الحرجة التي تستدعي منهم الانتقال عبر منعرجات طرقية صعبة إلى دائرة "أمزميز" التي تبعد عن الجماعة بما يزيد عن 27 كيلومتر من أجل تلقي أبسط الإسعافات الأولية، وهو ما يجعل الساكنة تستعين بالطب الشعبي كبديل عن غياب التطبيب الحديث، وهذا ما يتضح جليا في إحصائيات تطبيب سكان الجماعة حيث بلغت نسبة التأطير الطبي طبيب لكل 6314 مواطن سنة 2007. وبلغت نسبة التأطير شبه الطبي ممرض لكل 3157 مواطن، وهي نسب ضعيفة مقارنة مع المستوى الوطني. كما أن مؤشرات وفيات الأطفال في الجماعة تعتبر مقلقة إذا قارناها بالمعدل الوطني، حيث تشير آخر الإحصائيات أن نسبة الوفيات هي57,7 لكل 1000 ولادة حيّة، أما عدد النساء الخاضعات للمراقبة الصحية فهي 1147، ونسبة التغطية بالتلقيح هي %50، أما عدد السكان لكل طبيب فهي 7147، و3574 لكل ممرض. ويتبين أن معدل وفيات الأطفال بالجماعة يبلغ 57,7 لكل 1000 ولادة، ويبقى هذا المعدل بعيد عن الهدف المسطر من طرف الإستراتيجية الوطنية في أفق 2012. أما نسبة التغطية بالتلقيح فهي جد متدنية مقارنة مع المستوى الوطني، حيث بلغت % 84 سنة 2007. ونظرا لطبيعة المنطقة المتميزة بتضاريس جبلية ومناخ بارد، فإن أمراض آلام الظهر والروماتيزم هي أهم الأمراض التي تسود بالمنطقة، حيث تطال 20 % من الساكنة. ويعد مرض التهاب الغدة الدرقية من أخطر الأمراض التي تهدد صحة السكان بالمنطقة وبالخصوص صحة الحوامل والأطفال حيث تعتبر جماعة "أزكور" من أكثر الجماعات تضررا من نقص مادة "اليود" على صعيد إقليمالحوز، وهو ما دفع جمعية "تونزا" في أن تقتني كميات مهمة من الملح المزود بمادة "اليود" وتوزيعها على صعيد الجماعة بثمنها الأصلي. من أجل التخفيف من أعراض مرض نقص اليومد تقول عاتكة التايك، التي تبرمج حاليا لمشاريع أخرى بالمنطقة مع فاعلين جمعويين واقتصاديين خارج المغرب. قسوة الطبيعة تتخفى وراء جمال خلاب الزائر لجماعة أزكور" لن يمل أو يتعب من رؤية جمال طبيعة هذه المنطقة التي تصنع سحرها الخاص. جبال ساكنة ترسم ملامح جمال الأطس الكبير في صمت وعظمة وشموخ. جبال مرصعة قممها ببقايا ثلوج لا تستعجل في الذوبان طوال السنة. هذه الطبيعة تخفي وراءها قسوة كبيرة عند فصل الشتاء حيث الأمطار الغزيرة والفيضانات والثلوج الكثيفة التي تغلب على الجماعة وتجعل كل الطرق المؤدية إليها مقطوعة ومنفصلة عن باقي المنطقة، لتصبح حياة السكان جحيما لا يختلف عن جحيم "أنفكو". ويغلب على تضاريس الجماعة الطابع الجبلي مما لا يساعد على ممارسة الأنشطة الفلاحية والزراعية. وتهيمن الأراضي الغير الصالحة للزراعة بنسبة 38 % من المساحة الإجمالية، أما الأراضي الصالحة للزراعة فلا تمثل سوى 13% من مساحة الجماعة منها 28% أراضي مسقية. وتبقى الطريقة السائدة بالجماعة في السقي تقليدية، وذلك نظرا لصغر مساحة الاستغلاليات بسبب الطبيعة الجبلية للمنطقة. بالنسبة لتربية الماشية خاصة الغنم والماعز يطغى عليه الطابع التقليدي، وذلك بنسبة 95 %من مجموع عدد رؤوس الماشية بالجماعة. كما أن معظم الفلاحين بالمنطقة يهتمون بالنشاط الرعوي أكثر مما هو فلاحي بفضل شساعة المساحة الرعوية على 6500 هكتار. هذه هي حياة الناس في منطقة لم تصل لها قنوات دار البريهي ولا قناة عين السبع، ولم تطأها قدم أي وزير ولا مسؤول لكي يطلع على حياة أناس فقراء، عاشوا فقراء، وعلى ما يبدو انهم سيموتون فقراء مؤمنين بقدرهم وبقول لا حول ولا قوة إلا بالله حينما يأتي أحد على ذكر اسم لوزير في حكومة لا تعرف عنهم شيئا. [email protected]