شكلت السنتان: 2011 و2012 فترة استثنائية في تاريخ بعض البلدان العربية(مصر، تونس، اليمن)؛ إذ منذ استقلالها لم تشهد أحداثا داخلية، بحجم ما شهدته في هذه الفترة تحت ضغوط ما اصطلح عليه إعلاميا وأدبيا: «الثورات العربية ». لقد أتت هذه الأحداث بتغييرات عميقة في بُناها السياسية، وأهم هذه التغييرات زوال الأنظمة الديكتاتورية السابقة. وهو ما جعل شعوب هذه البلدان تضع تصورات كبرى في أذهانها، فعقدت آمالا كبيرة عليه؛ إذ جعلته مفتاحا سحريا قادرا على حل كل مشاكلها. إلا أن الأمر لا يبدو كذلك، على الأقل في الوقت الراهن، وهو ما أثار وسيثير مجموعة من الأسئلة ذات العلاقة بهذه الثورات مفهوما وتوظيفا. الثورة مفهوم متداول في النسق اللغوي والاجتماعي والاقتصادي العربي، فالمادة اللغوية [الثاء، الواو، الراء] استُعملت في مناح اجتماعية واقتصادية وسياسية تكاد تتفق على سياق واحد وهو: التقلب التام من حال إلى آخر، فنجدها في لسان العرب تحت مختلف الصيغ والتقاليب:«[ثار]،[ وَثَرَ]، [ رَوْثُُ]،[ ثور]،[ وَرَثَ]،[ رَثْوُُ]،[ رثا ] و[ ثرو]». إن دلالة المادة اللغوية تنصرف في عموميتها إلى معنى التقلب التام من حال أو وضع إلى آخر، فيغلب على الدلالة التقابلات التالية ثارَ: (التقلب من حالة السكون إلى حالة الغضب). وَرَثَ: (انتقال الملكية من مالك هالك إلى مالك حي). رثى: (ذكر مناقب الهالك بعد أن انقلب حاله من عالم الأحياء إلى عالم الموتى). رثو: (انتقال الجسم من الحالة السليمة إلى الحالة المرضية ). ثرو: (تقلب الحال من الفقر إلى الغنى) ثور: (التقلب من حالة الخفاء إلى الظهور). وخارجها عثرنا على دلالة الفتك والقوة في صيغة [ روث ]؛ إذ تطلق على منقار العقاب، وما يلي الخنصر من السيف، وفي نفس سياق التقلب من حال إلى آخر وردت المادة اللغوية في القرآن الكريم في الآية: 71 من سورة البقرة : « تثير الأرض »أي تقلبها. إلا أن هذا الوضوح في الانتقال من وضع إلى آخر، وإن عرفه المعجم اللغوي العربي بشكل واضح فإن الاصطلاح يحتاج إلى مزيد من الدرس قبل استعماله. إن تعاقب السلطة في التاريخ العربي كثيرا ما يقع لأسباب داخلية، وكثيرا ما يرتبط بالصراعات والأزمات اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا. إلا أن المصطلحات الأكثر ورودا في وصف أسباب تلك الأحداث هي: التمرد، العصيان، الثورات، الصراع على الحكم… إلخ فتؤدي هذه الأحداث إلى انتقال السلطة من حاكم إلى آخر، أو من سلالة إلى أخرى بشكل يؤدي إلى التعاقب عليها حتى أضحى مفهوم الدولة يرتبط من حيث الدلالة اللغوية بالتعاقب، وفي ذلك يقول الشاعر أبو البقاء الرندي: هي الأيام كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان. إلا أن هذا التعاقب وهذا الانتقال وإن ارتبط بالثورة لا يكون انتقالا تاما على غرار ما هو واضح في الدلالة اللغوية؛ إذ كثيرا ما يتغير التنظيم السياسي مع استمرار نفس الايدولوجيا أو نفس النسق الثقافي أو الاجتماعي، بمعنى أن التغيير لا يكاد يمس سوى مستوى واحد من البناء المجتمعي في قُطر من الأقطار، وهو نفس الوضع الذي تعيشه البلدان المذكورة أعلاه حاليا، ما يجعل إطلاق مفهوم الثورة إعلاميا وأدبيا في هذه الحالة يندرج في خانة: «اللعب اللغوية». لعل أشهر الثورات على الإطلاق هي الثورة الفرنسية: (1789)، وذلك لاعتبارات كثيرة نذكر منها: - إنها شكلت قطيعة مع ما كان قبلها من الحكم المطلق، والتقليد، والإبهام، والغموض. - عدم تأثرها بأي تيار إيديولوجي من خارج أوربا على شكل ما حدث في بعض الثورات الإيديولوجية في أمريكا اللاتينية في فترة الصراع الأمريكي- السوفيتي، والتي أدت إلى قيام ديكتاتوريات مازالت تحكم باسم الثورة إلى اليوم. - الاستفادة من التنظير السياسي، والثقافي، والعلمي، الذي هيأته كتابات: فولتير، ومونتسكيو، وجون جاك روسو، وديكارت… - الأثر الثقافي والعلمي الذي أحدثه انخراط المجتمع الفرنسي في تلك الأحداث باعتبارها حاملة لمشروع مجتمعي أسس بهدف القطع مع الماضي وكل ما يعرقل مسار العقل و الحداثة. لقد عكس الإعلان الفرنسي 1789 روح القرن 18، والتي دبت في كل شرايين المجتمع الفرنسي، ونجحت في إحداث القطيعة مع الوضع السابق، وهو ما يجعلنا لا نتحدث عن الثورة إلا إذا توفرت فيها شروط ثلاثة مستقرأة من تتبع معظم الثورات الناجحة في العالم, وهي كما حددها آلان تورين في: «نقد الحداثة » ترجمة عبد السلام الطويل ص:72 - إرادة تحرير قوة الحداثة. -النضال ضد نظام قديم يعيق التحديث وانتصار العقل. -إرادة وطنية تتماهى مع التحديث. إن هذه العناصر الثلاثة هي نفسها التي نجد في مقاربة الثورة الأمريكية 1775 من حيث القطع مع بريطانيا، والتأسيس للدستورانية، والانخراط المجتمعي، مستفيدة من التنظير السياسي على يد مفكرين كبار من أمثال:جون سميث . والاطلاع على هاتين الثورتين وهما الأشهر على العموم يحيلنا على ما اصطلح عليه: «الثورات العربية». وانطلاقا من التتبع المستمر لأحداثها نرى أن ما يحدث في هذه البلدان لا يساير السياق المفترض بالنظر لما تم الحديث عنه من خلال النموذج الفرنسي أو الأمريكي وإن كان يساير الإرادة العامة التي تحلم بالتغيير والغد الأفضل، وهو حق مشروع لهذه الشعوب. صحيح أن كل ثورة تخلق بحكم منطق الأشياء أعداءها الذين يدافعون عن النظام القديم بهدف الحفاظ على امتيازاتهم من مسؤولين سياسيين, وعناصر أمن, و«بلطجية» بتعبير المصريين…إلخ, أو ما يسمى: «مهندسي الخراب» بتعبير الانجليزي:ماكولاي» «إلا أن نجاح ثورة ما كفيل بالقضاء على كل تلك العناصر، وإحلال السلم الاجتماعي، ووضع أولى خطوات البناء الديمقراطي والتحديث الاقتصادي والعلمي. وهو ما لا نلمسه في الأحداث الحالية التي تشهدها هذه البلدان؛ إذ تبين أن التنظيمات التي استفادت من الثورة لا تنخرط في المشروع المجتمعي المفترض, بل أحيانا تتولى مسؤولية وأدها وهندسة خرابها هي بنفسها في غياب الجهات التي كانت تقف وراءها وتمولها؛ إذ بمجرد ما يُقضى على النظام القديم، تختفي الجهات الداعمة وتَترك الشعوب تواجه مصيرها الذي غالبا ما يكون أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة. انطلاقا من كل هذه الأحداث وغيرها، نطرح السؤال: ما الجدوى من الحديث عن الثورة وتناولها أدبيا وإعلاميا إذا كان كل هذا التغيير هو من أجل أن لا يتغير أي شيء, أو أن يكون أسوأ؟ وعن أية ثورة نتحدث؟ هل نتحدث عن الثورة حقيقة أم مجازا؟ وعن أية قطيعة؟ إن تناول مسار الانتقالات السياسية في الغرب، تاريخيا، يفرض الحديث عن مفهومين أساسيين : المفهوم الأول : الثورة، بالمعنى الفرنسي أساسا، والأمريكي على العموم، و هو الذي تم الحديث عنه. المفهوم الثاني : التوافق، وخير نموذج يمكن التمثيل به هو: النموذج البريطاني. إن الديمقراطية الإنجليزية أساسها «التوافق التاريخي»؛ يعرض الأستاذ امحمد مالكي في كتابه :»تاريخ الأنظمة السياسية» خصوصيات النظام السياسي البريطاني ومساره التاريخي موضحا كيف بدأ منذ : 1215 انطلاقا من محطات كبرى هي: - وضع «الميثاق الأعظم» الذي أرخ لعهد جديد في العلاقة بين الملكية والشعب في عهد الملك :جون «سان تير» . - «عريضة الحقوق سنة 1628. - «شرعة الحقوق» سنة 1688. وهي الوثيقة التي حددت حقوق البرلمان والأفراد وحددت مهام الملك. وعبر عدة قرون استُكمل الاتجاه نحو الديمقراطية بكل مؤثراته والتي جعلت بريطانيا «أم البرلمانات» ومن أرضها وُلدت جل مقومات النظام النيابي والديمقراطية الضامنة لحقوق الجميع. يرىأليكس دوتوكفيل أن التوافق التاريخي هو أنسب المسارات وأنجعها لصنع الديمقراطية ويرى أن «للتاريخ دلالة : ثمة ضرورة حثمية, طبيعية تقود من الأرستقراطية إلى الديمقراطية, من اللامساواة وقيام حواجز بين الطبقات والطوائف إلى مساواة في الفرص ». لقد انخرط النظام البريطاني في التوافق التاريخي منذ زمن بعيد، وانخرط فيه النظام الإسباني منذ 1978، وهو الذي انخرط فيه المغرب كذلك قاطعا الطريق عن ما دون ذلك، إيمانا بأن البناء الحداثي العقلاني لا يمكن أن يكون إلا نتاج العقل والعلم والتكنولوجيا والتربية، لانتاج الاستبداد المتنور كفي بعض الأنظمة الاشتراكية سابقا، أو الثورات الشعبية غير المؤهلة في دول العالم الثالث، وإن التوظيف السياسي والإعلامي والأدبي للثورة هنا وهناك كثيرا ما يتم خدمة لأجندات سياسية كبرى في المنطقة؛ إذ يتم توظيف الانطباع الجيد الذي خلفته بعض الثورات الغربية على العموم في أذهان شعوب العالم، وما تركته من تحولات إيجابية في مجتمعاتها من أجل التأثير في شعوب المنطقة إيجابا أو سلبا، وهو ما جعلها تعيش على إيقاع مخالف لذلك الذي عاشته شعوب أوربا الثورة، إن بنية العقل الأوربي والغربي عموما حددته مؤثرات كبرى تتجاوز الثورة الفرنسية. وإن هذه الأخيرة ما هي إلا محطة وجيزة من التاريخ الطويل الذي بدأ بحضارة الإغريق والرومان، وما تركته القرون الوسطى من أثر عميق حَفَّزَ على إعادة النظر في نمط التفكير السياسي والاجتماعي والعلمي؛ بتحرير العقل وبناء الدولة الوطنية والاستفادة من تجارب الحربين الكونيتين الأولى والثانية وهو ما أدى إلى تحقيق الحرية واستقلالية الفرد وبناء المجتمع التعددي القائم على المواطنة ولا شيء غيرها..إلخ. هذه جزء من المؤثرات الكبرى في العقل الأوربي والغربي على العموم، مؤثرات منها ما يشاكلها في بنية العقل العربي يجب البحث فيها، ومنها ما يباينها يجب ايجاد الصيغ العقلية المناسبة لتكييفها مع خصوصياته. وإن ما يحدث حقيقة في البلدان العربية المذكورة أعلاه، يحتاج إلى تقييم عميق ليس من زاوية الثورة، أو معها، أو ضدها. ولكن من زوايا أكثر عمقا ترتبط بالوعي الجمعي بأهمية البناء الحداثي للدولة، وما يقتضيه ذلك من الإرادة العامة والتضحية والاستعداد المتبادل من كل أطياف المجتمع من أجل تقديم المزيد من التنازلات، والتضحيات، ونكران الذات، من أجل تحقق المواطنة كقيمة أساسية تسبق حتما كل القيم بما فيها قيمة الإنسان.