أنهى المؤتمر الوطني العاشر أشغاله بانتخاب هياكله الوطنية اللجنة الإدارية والمكتب الوطني، وبعد أن تجاوزت النقابة فواجع التنافس الحزبي المدمر والصراع غير المبرر على المقاعد بدل التنافس المنتج على البرامج، فالمطلوب الآن هو تسطير برنامج نضالي استراتيجي لكل الأساتذة يربط الدفاع على المطالب العادلة لهيئة التدريس والبحث وعلى رأسها القانون الأساسي بالدفاع عن الجامعة الوطنية العمومية المفتوحة لبنات وأبناء الشعب المغربي الراغبين في تعليم جيد منتج وعصري. إن مصادقة المؤتمر العاشر للنقابة الوطنية لتعليم العالي على الورقة التوجيهية من أجل تعليم عال لولوج مجتمع المعرفة التي قامت بإعدادها لجنة الإعداد الأدبي وصادق عليها المؤتمر والتي أعادت القطار إلى السكة بالتأكيد على المبادئ التقدمية والديمقراطية للنقابة بربط إصلاح التعليم وضمنه التعليم العالي بالإصلاح العام لتجاوز تجارب الإصلاحات الجزئية والتطبيقات التجزيئية لتوصيات المراكز المختصة والتي لم تجب على الأزمة المتعددة الجوانب التي يشكو منها تعليمنا العالي. فبعد اثنى عشرة سنة من عمر «الميثاق الوطني للتربية والتكوين «لم يتمكن قطار الإصلاح من الانطلاق في الاتجاه الصحيح فتردد القرار السياسي وتأرجحه بين النزوح نحو اعتبار مسألة إصلاح التعليم مسألة الجميع يقرر فيها المجتمع ديمقراطيا وبين اعتماد المعالجة التقنوقراطية للمسألة، الإصلاح المنشود هو إصلاح يعتمد الشمولية، أي ربط الشكل بالمضمون على الصعيد التربوي والهدف بالوسائل على صعيد التكوين والدمقرطة والفعالية على صعيد البنيات . و في هذا السياق، يجب فهم دعوة النقابة الوطنية للتعليم العالي إلى حوار وطني جدي وصادق لدرء المخاطر المهددة للجامعة الوطنية العمومية والدفاع المشترك عن مهنة الأستاذ الباحث ، إن الإصلاح الذي ترتئيه النقابة للمنظومة التربوية المغربية عموما وللتعليم العالي خصوصا لم يكن ولن يكون أبدا مجرد لمسات تجميلية وإجراءات شكلية كما هو الحال الآن، بل تراه إصلاحا جذريا متسلحا بالحداثة والعقلنة قادرا على تأهيل تعليمنا وتحديثه ليكون قاطرة حقيقية للتنمية وسبيلا سالكا في اتجاه العلم والتقدم والدمقرطة الحقيقية.و بناء عليه فإن النقابة تدعو بقوة إلى بناء جبهة وطنية واسعة للدفاع عن المدرسة والجامعة العموميتين المفتوحتين لبنات وأبناء الشعب المغربي الراغبين في تعليم جيد ، منتج وعصري . ملحاحية البرنامج النضالي الاستراتيجي تتجلى في التصدي للتغيير الأحادي الجانب من طرف الوزارة الوصية ( البرنامج الاستعجالي، مشروع الهيكلة …) للفضاء الجامعي بإنتاج تراتبية جديدة تندر بتوزيع جديد لهذا الفضاء إلى مؤسسات جامعية «نافعة» ومؤسسات جامعة آيلة للسقوط أو«غير نافعة» عبر آليات الدعم والتمويل وتقسيم الفضاء الجامعي إلى فضاء عام وخاص وأجنبي. إن التراجع عن المجانية وتشجيع تعليم جامعي خاص أو أجنبي في بلد ما زال يعاني من مختلف مظاهر التخلف على جميع الأصعدة ، وغياب الشفافية وانعدام آليات المراقبة والمحاسبة ، وهيمنة عقلية اقتصاد الريع لا يمكنه إلا أن يوجه الضربة القاضية للجامعة العمومية ويقدم خدمة للأجندة الرامية إلى التخلص من المرافق الاجتماعية الحيوية المكلفة على المستوى الموازناتي ، كالسكن والصحة والتعليم، ولكنها في واقع الأمر تعتبر نزرا يسيرا من حقوق الدولة في مجتمع سماته الأساسية الظلم والاستبداد ونهب الخيرات وحالة الاحتكار . إن الرهان على التعليم العالي الخاص لحل أزمة التعليم العالي ببلادنا هو رهان فاشل . لأن فلسفة الجامعات الخاصة فلسفة سلبية تضر بالمجتمع , إذ تقوم على الربح كهدف رئيسي ولا تخدم إلا الأثرياء فقط وتعمل على تمكينهم من التمتع بامتيازات خاصة مقابل جني الأرباح الطائلة . إن الهدف الحقيقي من إقامة هذه الجامعات هو التخلص من مبدأ تكافؤ الفرص وذلك بعكس الجامعات الخاصة فى الدول الرأسمالية والتي برغم كونها ملكية خاصة إلا أنها تقدم خدمة عامة للمجتمع ولا تهدف للربح. التعليم العالي الخاص سيكرس التفاوت الاجتماعي والثقافي داخل بنية المجتمع ويشكل خطرا على فكرة الولاء والانتماء للوطن. فمن المسلم به أن تحقيق السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع يتوقف بدرجة كبيرة على شعور أفراده بأنهم متساوون أمام الفرص المتاحة في المجتمع ، وأن التمييز يتم على الأقل بالنسبة للخدمات الأساسية ، لا على أساس من الإمكانيات المادية .فمن واجب الدولة إزاء مواطنيها أن توفر لهم الخدمات الأساسية ومن بينها بطبيعة الحال التعليم. إن بروز ظاهرة التنامي غير المراقب وغير الموجه لقطاع التعليم العالي الخصوصي ببلادنا ، يطرح العديد من التساؤلات المشروعة حول جودة وأدوار ووظائف هذا التعليم : ما هي أسباب ومبررات الكلفة الباهظة لبعض انماط هذا التعليم ؟ كيف يتم تحديد برامجه ومناهجه؟ ما هي آليات المراقبة المعتمدة فيه ؟ ما هي شروط وأوضاع البحث العلمي والأطر الباحثة فيه ؟ ما هو المصير المهني لخريجيه؟ ما هي الحاجات الفعلية والمفترضة أو المطلوبة والمتوقعة لشعبه وتخصصاته التكوينية والمهنية؟ هل يستجيب لطلب تربوي واجتماعي حقيقي، أم لطلب افتراضي أو وهمي؟ وبالتالي ما حدود وإمكانات ومصاعب مساهمته في التنمية البشرية والاجتماعية وتكوين المواطن بشكل عام؟ . إن سياسة فتح الباب على مصراعيه للجامعات الخاصة ببلادنا تحت دعوى « عولمة التعليم العالي « يعتبر مدخلا لعملية التصحر المعرفي بتجريف التربة الأكاديمية بالمغرب .فالجامعات الخاصة ستقوم بجذب خبرة الكفاءات العلمية الوطنية , ولا يهم هذه الجامعات الرامية إلى الربح أساسا إلا المرحلة الجامعية الأولى حيث أعداد الطلاب الغفيرة وضخامة الرسوم التي تحصل منهم , وهو الأمر الذي أحال الخدمة التعليمية إلى عمل تجاري محض ، هدفه الأول هو تحقيق أقصى عائد استثماري . في ظل هذا الوضع علينا أن لا نتوقع أن تنشغل هذه الجامعات الخاصة بالدراسات العليا والبحث العلمي الجاد , نظرا إلى ارتفاع الكلفة وقلة العائد على المدى القصير . أمام هذه المخاطر التي تهدد الجامعة الوطنية العمومية ، على النقابة الوطنية للتعليم العالي أن تتحرك بسرعة ، مسلحة ببرنامج نضالي استراتيجي لكل الأساتذة خلال السنوات الثلاث القادمة ، لتعود إلى مركز الأحداث كشريك وازن له فعل داخل الوسط الجامعي ، مسلحة ببرنامج دقيق لكل الأساتذة لمواجهة التهميش الذي تعيشه الجامعة العمومية عبر آليات التمويل . برنامج نضالي يوحد مصالح الشرائح المختلفة المكونة للجسم الجامعي لمواجهة المراسيم المتعددة الصادرة عن الوزارة الوصية التي تهدف إلى تعميق «التجزيئية « والفوارق وتراكم حيف على حيف وتهدف إلى قتل أي روح وحدوية لهيئة البحث والتدريس ، مؤسسة على وحدة الرسالة ووحدة الفعل ، وبالتالي قتل الأساس الثقافي والمهني لأي عمل نقابي هادف ومنتج . إن أولى المعارك التي تنتظرنا هي معركة القانون الأساسي وربطه بالدفاع عن الجامعة العمومية . لقد فرض علينا نظام LMD وقيل وقتها أن هناك ضرورة علمية واستراتيجية لملائمة النظام الجامعي المغربي مع النظام العالمي خصوصا الأوروبي ، لماذا توقفت الملائمة عند النظام الأساسي لنساء ورجال التعليم العالي ؟ إن إقرار الإطارين أي أستاذ محاضر وأستاذ التعليم العالي كما هو متعامل به في أوربا سيمكن من تقليص الفوارق داخل هيئة الأساتذة الباحثين وبالتالي تقريب المصالح المشتركة ويمكن من تجاوز عادل للحيف الذي طال الأساتذة الباحثين «السلك الثالث الدكتوراة الفرنسية ، الموظفون بمرسوم 97 ، دكتوراة الدولة ….» بجانب معركة النظام الأساسي هناك معركة المضامين ومعركة استدامة مهنة الأستاذ «ة « الباحث «ة « بخلق مناصب مالية كافية وحصر نسبة العرضيين لان غلبة العرضيين والمتقاعدين هو تقليص للقاعدة النقابية المجندة فعليا ، لذا هناك ضرورة لهذه المعركة ،و يجب أن تتجسد في إقرار مناصب مالية في الإطارين « أستاذ محاضر واستاذ التعليم العالي» وتنظيم دوري لمباريات الولوج إلى أستاذ محاضر . المعركة الأخرى هي معركة الدمقرطة ، إن الأساتذة الجامعيين ليسوا أقل شأن من أعضاء المجالس البلدية التي تنتخب رؤساءها بشكل مباشر ، ولهذا نطالب الانتقال من التعيين بالبرامج إلى التباري الديمقراطي بالدراية والبرنامج . إن دمقرطة مؤسسات التعليم العالي بعد إقرار وتعميم مبدأ الانتخاب ، تركيز الاستقلالية الحقيقية للجامعة تربويا وماليا وإداريا ، وإقرار مبدأ المراقبة البعدية ووضع حد لكل أشكال الوصاية على الأساتذة الباحثين وتوحيد التعليم العالي داخل جامعات موحدة المعايير ومتعددة الاختصاصات والرفع من تمثيلية الطلبة داخل جميع هياكل مؤسسات التعليم العالي وإشراكهم في تدبير المرافق الاجتماعية . على سبيل الختم ، فإذا كان سؤال التنمية الشاملة والمتكاملة سؤالا يمس في العمق وجودنا وقيمنا وحضارتنا وإذا كان العصر الذي نعيشه كل تجلياته عصرا للتحولات الكبرى الاقتصادية والسياسية والفكرية والإيديولوجية ، وعصرا يتأسس على الإنسان في علاقته بمجالات المعرفة والعلم والتكنولوجيا ،و إذا كان من غير الممكن لنا أن ندخل هذا العصر إلا عبر بوابة التقدم والتنمية بما يحمله ذلك من دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية ، فإننا مطالبون بإبلاء كامل العناية لإصلاح التعليم العالي ويتظل المسألة التعليمية وأوضاع نظامنا التعليمي الجامعي وما قبل الجامعي وما تتطلبه من إصلاح ، جزءا من هذا الكل وأداة من شأنها أن تساهم في إعداد الإنسان ليحيي كل أبعاده ، باعتباره كائنا مفكرا وكائنا منتجا وكائنا سياسيا وكائنا اجتماعيا ، ففي هذا السياق يجب فهم دعوة المؤتمر العاشر للنقابة الوطنية للتعليم العالي إلى بناء جبهة وطنية واسعة للدفاع عن المدرسة والجامعة العموميتين المفتوحتين لبنات وابناء الشعب المغربي الراغبين « والراغبات « في تعليم عصري جيد ومنتج .