لم يكن ليحظى هذا المركب الصناعي بهذه الأهمية بالمدينة لولا الدور الذي لعبه منذ إنشائه مع نهاية الستينيات من القرن الماضي. بالإضافة إلى دوره الاقتصادي شكل مصدر رزق للعديد من الأسر والعائلات، بالنظر إلى العدد الهام من اليد العاملة التي كان يشغلها، ومساهمته في تحريك الدورة الإقتصادية للمدينة كأكبر مركب صناعي للغزل والنسيج بإفريقيا. رياح الإفلاس لم تمهله كثيرا فحولته إلى بناية مهجورة تمتد على مساحة شاسعة تقدر ب 16 هكتارا، بعد أن غادره العاملون مكرهين. أغلبهم لم يرض بالتعويضات المالية التي تلقوها نظير إفلاس الإنتاج بالمؤسسة ومن ثم إغلاقها. تجهيزاته وآلياته ومعظم محتوياته المقدرة قيمتها بالملايير من السنتيمات أصبحت عرضة للنهب والسرقة والإتلاف والتخريب، بشكل يدعو إلى الحيرة والاستغراب علما أن الأمر يتعلق بمؤسسة عمومية من المفروض أنها توجد بين أيادي الدولة تحميها حتى وإن تم إغلاقها … ! أيام العز! يعود إنشاء مركب الغزل والنسيج بفاس المعروف ب «كوطيف» والذي تمتلك الدولة حصة الأسد فيه بنسبة 98،52 من رأسماله إلى سنة 1967، تبعا لدراسة قام بها مكتب التنمية الصناعية خلال هذه السنة، وذلك بعد أن تم القيام بمختلف الإجراءات الإدارية، وبعدها تم الشروع في بنائه على مساحة ناهزت 10 هكتارات، وتلا عملية بناء المركب شراء العديد من الآليات وتجهيزه بالآلات الضرورية وتركيبها، وهي العملية التي استغرقت قرابة أربع سنوات، ليشرع فعليا في العملية الإنتاجية مع بداية سنة 1972، بعد أن تم وضع هيكلة داخلية لعملية الإنتاج موزعة على خمسة أقسام ، منها قسم الغزل والذي ضم خمسين ألف مغزل ثم قسم تهييء النسيج، وقسم النسيج والذي كان يحتوي على 960 آلة، وقسم خيط الخياطة، وقسم التصفية، بالإضافة إلى قسم الصيانة. أما على مستوى الموارد البشرية فقد تراوح عدد المشتغلين في هذه المؤسسة ما بين 1700 إلى 1800 ، موزعين ما بين عمال ومستخدمين وأطر، فيما تشير بعض تقديرات العمال إلى أن العدد فاق 3500 فرد في حالات عدة، حينما يصل الإنتاج إلى مرحلة ذروته ، حيث يتزايد الطلب الخارجي والداخلي على المنتوج الصناعي لهذا المركب المتميز، وتصنف فترة نهاية السبعينيات وعقد الثمانينيات من القرن الماضي بكونها مرحلة الازدهار القصوى التي عرفتها المؤسسة التي تقدم على أنها أكبر مركب لإنتاج النسيج بإفريقيا، حيث حققت سنة 1988 أعلى فائض مالي بلغ خمسة ملايير سنتيم، عندما كان الطلب على منتجاتها قويا وخاصة على» نوع الثوب 9127 وهو المشهور بالبيضاوية وسط تجار هذه المادة»، حيث شكل قطبا اقتصاديا حيويا بمساهمته الكبيرة في إنعاش الصادرات المغربية من النسيج، بل ساهم في شكل كبير هذا المركب في تدعيم العديد من الأنشطة الاجتماعية والرياضية بالمدينة . الأزمة والإفلاس تحت يافطة إفلاس الشركة بفعل غزو منتجات النسيج الخارجية للسوق المحلية وعجز الشركة عن المنافسة أمام المنتوجات الأجنبية، صنفت هذه الوحدة الصناعية ضمن المؤسسات المرشحة للخوصصة في سنة 1989، بعد تراجع مردوديتها وتفاقم أزماتها فيما «لم تكلف إدارة الشركة نفسها عناء حل مشاكلها، غير التلويح بتفويتها للخوصصة كمخرج وحيد من الأزمة المستفحلة بها» تشير بعض التقارير. عرف الإنتاج في هذه المرحلة تراجعا بسبب توقيف عملية الاستثمار وتجديد الآلات، «إذ أن آخر آلة تم تجديدها اضطرارا لأسباب تقنية ولأن الضرورة كانت تفرض ذلك هي آلة «لونكولاج» بمبلغ مليارسنتيم«. إلا أن ذلك لم يكن هو بداية الأزمة بل تمت أخطاء ارتكبت منذ انطلاق تشغيل هذه المؤسسة وهو ما عبر عنه عبد الرحيم الرماح عضو في مجلس المستشارين في توطئة لسؤال كتابي باسم الفديرالية الديمقراطية للشغل خلال الدورة الربيعية لسنة 2010 ، موجه إلى وزير الاقتصاد والمالية ووزير الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة حول مآل مؤسسة مركب الغزل والنسيج بفاس حيث أكد على أنه «ومنذ البداية ارتكبت عدة أخطاء ومنها سوء الاختيار التكنولوجي، حيث تم شراء آلات قسم النسيج كلها من نوع واحد (بيكانو) متجاوزة التكنولوجيا ، بحيث كان قد مر على وصولها إلى السوق المغربية حوالي عشر سنوات، كما أن السوق عرف آنذاك وصول تكنولوجيات أكثر تقدما ومردودية،» واسترسل صاحب السؤال في القول بأن «قسم التصفية كانت جل آلاته غير صالحة ومنها ما لم يشتغل بصفة نهائية حالة آلة « لارام»، وقد تم القيام ببعض الخطوات قصد تدارك هذا الخلل في الثمانينيات وبالأخص ما بين سنوات 1980 و1984 حيث تم شراء عدة آلات جديدة لتطوير قسم النسيج، إذ توصلت إدارة المركب بقرض بقيمة أربعة ملايير سنتيم من طرف وزارة التجارة والصناعة قصد تجديد تجهيزات المعمل ...». لكن مع بداية التسعينيات بدأت المشاكل تتفاقم بشكل تدريجي وهي المشاكل التي نبه إليها العمال من خلال رسائلهم وبياناتهم وتتمحور معظمها أساسا كما رصدته هذه البيانات في حينها حول «اهتراء الآلات والمعدات وتجاهل تجديدها، وتراكم تدريجي لديون الشركة، تأخير أداء أجور العاملين بالشركة، والتماطل في أداء فواتير الكهرباء لينتقل الأمر إلى التخفيض التدريجي لساعات العمل وغير ذلك»، وكلها مشاكل دفعت بالعمال إلى خوض أشكال احتجاجات انطلقت خلال شهري شتنبر وأكتوبر 2004 بإضراب لمدة ساعة من 11 إلى 12 زوالا كل يوم إثنين، نظموا من خلاله وقفات احتجاجية داخل الشركة رفعوا من خلاله شعارات تندد بالإجهاز على حقوقهم وبالأزمة المستفحلة بالشركة. الاحتجاجات انتهت باتفاق بتاريخ 13 أكتوبر 2004 يقضي بتلبية مطالب العمال مقابل إنهائهم للإضراب، غيرأنه و تحت ذريعة إفلاس الشركة بفعل غزو منتجات النسيج الخارجية للسوق المحلية وعجز الشركة عن المنافسة أقدمت إدارة الشركة على تسريح 502 من عمال الشركة «مقابل تعويضات هزيلة عن تسريحهم عن العمل«. تعويض بطعم الطرد لم يخطر على بال أحد من عمال هذه المؤسسة التي قضوا بها سنوات من عمرهم في العطاء والإنتاج ، أن ينتهي بها المطاف لكي تصبح عرضة لعمليات النهب والسرقة وبشكل يومي بل بطريقة تدعو إلى الحيرة والاستغراب في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة ل«عبد الفتاح – ن» الذي بعد سنوات عمل بهذه الشركة دام ما يقرب من 17 سنة، غادر منصبه كإداري مكرها بعد اتخاذ الوزارة الوصية لقرار إغلاقها وإحالة ملفها على التصفية القضائية، ووقع على التزام يشهد فيه بأنه تسلم تعويضات عن هذه المغادرة التي وصفت ب«المغادرة الإجبارية» ليتذوق بعد ذلك مرارة العطالة لفترة ناهزت ست سنوات قبل أن يلج العمل في وكالة وطنية للأسفار، حيث يتحدث بحسرة على ما آل إليه مصنعه الذي كان مفخرة لمدينة فاس على وجه الخصوص ووطنيا وعالميا بشكل عام، والذي بات اليوم خربة و«وكالة من غير بواب» حسب تعبيره. عبد الرحيم الرماح المستشار بالغرفة الثانية وجه سؤالا كتابيا موجها لوزير الاقتصاد والمالية ووزير الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة في تقديمه للسؤال الكتابي بالقول «في سنة 2005 تقرر إغلاق قسم الغزل بناء على دراسة أنجزتها الإدارة العامة للشركة آنذاك دون إشراك الإدارة التقنية، اتضح في ما بعد خطأ هذا القرار رغم تشبث وإصرار السيد المدير العام به، لكونه اعتبر أن الخيوط موجودة في الأسواق بثمن أقل من تكلفة إنتاجه بالمعمل، فتقدمت ساعتها إدارة المركب بطلب إلى السلطات الإقليمية للاستغناء على 502 من العمال وهو ما يعني جميع عمال قسم الغزل بناء على المادة 67 من مدونة الشغل، إلا أن السلطات الإقليمية رفضت الترخيص لها بذلك مما جعلها تلجأ إلى التوافق مع مندوبي العمال وفق ما تنص عليه المادة 66 من مدونة الشغل…»واسترسل المصدرذاته في القول إنه « في 30 شتنبر 2005 غادر هؤلاء العمال بعد أن توصلت إدارة المركب بخمسة ملايير سنتيم لتعوضهم من طرف الحكومة ، وكان الأصح إذا كانت الضرورة تفرض التقليص من عدد العمال أن يتم ذلك من جميع الأقسام مع الإبقاء على قسم الغزل، إذ أنه مباشرة بعد إغلاق قسم الغزل وكما أشرنا إليه لم تتمكن الشركة من تلبية حاجياتها من الخيوط في السوق حيث ظل باقي العمال عاطلين عن العمل يتقاضون أجورهم دون القيام بأي مهام وخاصة عمال قسم النسيج « ، وأشار ذات المسؤول في معرض سؤاله إلى أنه «يبدو من خلال قراءة الوقائع والمعطيات أن قرار الإغلاق النهائي للمؤسسة تزامن مع إغلاق قسم الغزل، وما تم بعد ذلك كان مجرد تسويف ومماطلة قصد تهييء الشروط لتنفيذ قرار الإغلاق النهائي. وهو ما كان واضحا من خلال مواقف السيد المدير العام…» يؤكد سؤال الكنفدرالية الديمقراطية للشغل في استفساره حول مآل هذه المؤسسة بعد إغلاقها. قضية المصنع ظلت دائما موضوعا للنقاش تحت قبة البرلمان، ففي ماي من سنة 2010 أجاب صلاح الدين مزوار، وكان آنذاك وزيرا للصناعة والتجارة، عن سؤال في الموضوع للبرلماني الاتحادي محمد البقالي ، بخصوص المرحلة الثانية من إعادة هيكلة هذا المركب، فكان جواب الوزير مزوار، آنذاك، بأن وضعية المقاولة صعبة بالنظر إلى أن ما بين 50 إلى 60 في المائة من رقم معاملاتها تمتصه أجور المستخدمين فقط، وذلك إلى جانب صعوبة العثورعلى مستثمرين. مع ذلك، فإن الوزير التجمعي أكد على أن الحكومة لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع، وأخبر الوزير النائب الاتحادي بأنه تقرر ضخ حوالي 20 مليون درهم من أجل إعادة الدينامية للشركة، ومواصلة العمل، إلا أنه مباشرة بعد الدخول من العطلة السنوية تم التراجع عن هذا القرار بعد أن كانت لجنة مركزية تابعة لوزارة التجارة والصناعة انتقلت في يوليوز 2006 إلى المنطقة الصناعية لسيدي إبراهيم بفاس لإعداد تقرير حول الأوضاع بهذا المركب الذي كان يوجد في آخر مراحل احتضاره ولم يعد يشغل سوى 340 مستخدما، بعدما أقدمت الإدارة على تسريح عمالها بالتدرج، هؤلاء تمت مطالبتهم بمغادرة المعمل ليتم إغلاقه بشكل نهائي خلال 30نونبر 2006 وإحالة ملفها على التصفية القضائية، وقامت الحكومة بمنح مبلغ مالي ثان بقيمة 3 ملايير و500 مليون سنتيم ، لتعويض ما تبقى من العمال. لتطوى بذلك مرحلة الإنتاج والتشغيل والتحرك النقابي لهذه المؤسسة لكنها فتحت صفحة أخرى أكثر سوداوية تحمل عنوان «التخريب والنهب». نهب وتخريب … من المسؤول ؟ رغم الدوريات التي تقوم بها مصالح الأمن بمدينة فاس، إلا أنها تبقى غير كافية لأن الأمر أكبر من أن تقوم هذه المصالح بدورية بل إن هذه المعلمة أو على الأصح ما تبقى منها تتطلب حراسة مستمرة ودائمة، إلى درجة أن الحفاظ عليها وعلى ما بقي من محتوياتها بات ضرورة أمنية ملحة، بالنظرإلى قيمة التجهيزات والآليات التي تحتويها والتي تقدر بالملايير. أضحت المؤسسة في السنوات الأخيرة تتعرض لنهب وتخريب ، يتخذان مظاهر متعددة، فالأسوار المحيطة بهذه المعلمة على طول كل من شارع الزهور وشارع ميدلت ثم زنقة الفارابي أصبحت تتخللها العديد من الثقوب وفي حالات أخرى تعرضت للانهيار والهدم، وعلى ما يبدو تشكل المنافذ الرئيسية إلى داخل هذه المعلمة. البناية الإدارية بدورها أكلتها ألسنة اللهب في حريق ظلت ظروفه غامضة، كما أن الأبواب الحديدية والزجاجية، أصبحت مشرعة على مصراعيها. «وما يحدث لهذه المؤسسة من سرقة وتخريب جريمة لا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام» يقول محمد العسري أحد الفاعلين الجمعويين بحي اعوينات الحجاج القريب من هذا المركز ، قبل أن يحمل المسؤولية في حماية هذه المعلمة لكل من والي الجهة وعمدة المدينة وفعاليات المجتمع المدني على حد سواء. ويحكي العسري وهو الكاتب العام لجمعية النجاح للتنمية والتكوين عن مظاهر التخريب التي وقف عليها من خلال جولة ليلية قام بها مؤخرا في العديد من الوحدات الإنتاجية داخل هذا المركب حيث وقف على حجم الدمار الذي يتعرض له ما تبقى من هذا المركب الصناعي، ويتحدث عن تخريب ما يناهز 60% من محتويات هذه المعلمة، حيث تم إضرام النار في العديد من الوحدات الداخلية للمصنع، والعديد من الوثائق الإدارية أحرقت ، فيما وجدت أخرى بالمستودعات. العديد من شاحنات نقل المستخدمين تعرضت للتخريب شأنها شأن آليات أخرى متطورة بدت وكأنها تتعرض لعملية تفكيك بطريقة تقنية، يضيف العسري، لكن السؤال الذي يرى الفاعل الجمعوي أنه لم يلق له جوابا يتلخص في «كون رغم هذا العدد الهائل من الكتابات الصحفية والنداءات الجمعوية وأسئلة البرلمانيين إلى المسؤولين الحكوميين، كلها تصب في اتجاه إما حماية أوتحديد مصير هذه المعلمة، لكن لا أحد من هؤلاء المسؤولين استطاع الجواب عليها»، يقول نفس المتحدث قبل أن يضيف متسائلا «هل أن الأمر يتعلق بتسليط الضوء على هذه المعلمة وإبرازها على أنها أضحت تشكل عبئا وجب التخلص منه ، ليس إلا ، أم أن الأمر شيء آخر، خصوصا وأنها تمتد على مساحة عدة هكتارات من شأنها أن تسيل لعاب المنعشين العقاريين من أجل الظفر بهذا المركب ومن تم تحويله إلى مركب سكني يبيض ذهبا. الخلاصة التي وصل إليها الفاعل الجمعوي ذاته هي أن إغلاق المركب الصناعي « كوطيف» تعتبر جريمة اقتصادية ارتكبت في حق أهل فاس والمغاربة « وأن المآل الذي انتهت إليه هذه المعلمة يطرح أكثر من علامة استفهام في ظل غياب العدد الكافي من الحراس الذين لا يتعدى عددهم اليوم حارسين اثنين وهو ما يسهل عملية اقتحام غرباء ومجهولين يعيثون فسادا ونهبا في هذه المعلمة . ليبقى سؤال توفير الحراسة الأمنية الضرورية لتوقيف مسلسل السرقة والحرائق الذي تتعرض له المؤسسة ، أمرا ملحا في انتظار تقرير مصيرها، حيث استغربت المصادر ترك هذه البناية، بكل هذه التجهيزات والآليات المتطورة، ومواد أخرى متعددة ، دون حراسة في الليل والنهار، مع الإبقاء على أبواب زجاجية هشة مغلقة معرضة للتكسير بأبسط الوسائل وفي أي لحظة. فاس: محمد المتقي