منذ أن بدأ الحديث عن الأزمة في العالم مع بداية الثمانينات والأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا.. أين هي الأزمة إذن؟ ( جان زغلر، المفكر السويسري الكبير المضاد للعولمة) في أقل من عشرين يوما، تمكن فريق من الأصدقاء المتحمسين الذين لم تكن لهم معرفة مسبقة ببعضهم البعض ( جاؤوا من أكادير ومراكش وتادلة والبيضاء والرباط وسلا وفاس) من إطلاق عملية «من أجل أطفال أنفكو و النواحي» لإيصال مساعدات إنسانية لساكنة (كروشن والنواحي) تعيش أوضاعا تذكر بفترات اعتقدنا أنها انتهت نهائيا من وجه الأرض.. عند وصولنا ليلة 22 من الشهر الماضي، صدمنا لشساعة جغرافيا الفقر والهشاشة والجوع.. كان أول ما تذكرته ونحن في قلب عملية الفرز والتوزيع (العملية التي ساهمت فيها السلطات والجمعيات المحلية بحيوية وصدق)، قلت تذكرت «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية».. في نقاش حار على طاولة عشاء أخوي جميل أخبرني فاعلون من المنطقة بأن كروشن صنفتها الدولة ضمن المناطق «الفقيرة» ومنذ 2006 وهي تستفيد من دعم المبادرة لكن واقع الحال ظل هو هو إن لم يزدد تفاقما.. لماذا؟ الرؤية الرسمية – كما طرحت على مائدة العشاء ليلة التوزيع – تدفع بفرضية أن المشكل يوجد في الأفراد الذين لم يفهموا أو لايريدون أن يفهموا «الفلسفة العميقة» للمبادرة التي ليست في الواقع سوى دعوة/تحفيزا للبشر لكي يخرجوا من ذهنية الاتكالية والانتظارية والجمود وسب العالم نحو « التفكير الإيجابي والفعل والانخراط في الإنتاج و تطوير آليات خلق الثروة…».. المشكل الأكبر في وجه المبادرة حسب الرؤية الرسمية دائما أن الناس مازالوا يرون في الدولة الفاعل الأول والمغذي الأول والمربي الأول والمطبب الأول.. لم يفهموا أن المبادرة جاءت لأهداف أخرى، لوضعهم على سكة الفعل لا لتوزيع المال.. لدفعهم لإنتاج الثروة لا لمنحهم سمكة كل يوم.. (كذا). نظريا، تقوم المبادرة على فكرة «ثورية».. غير أن إشراك الساكنة يتطلب أولا أن تحسم الدولة في ثلاثة ملفات كبرى لا يمكن «التكعرير» بشأنها.. أولا: وضع البنية التحتية الأساسية (طرق، مدرسة، مستشفى..).. ثانيا. تكوين البشر على الفكر المقاولاتي الخلاق.. ثالثا تثمين المبادرات من خلال مواكبة مجهودات/مشاريع الساكنة (سواء في الفلاحة أو في السياحة الجبلية…).. لنر بسرعة ما تحقق على هذه المستويات الثلاثة.. البنية التحتية أولا.. عندما استدرنا يمينا عند نقطة 33 في اتجاه لقباب قطعنا حوالي 30 كيلومترا في طريق مقبولة.. لكن ما إن دخلنا الى لقباب في اتجاه كروشن ( حوالي 30 كيلومتر أخرى) صدمنا للخراب الهائل الذي توجد عليه الطريق التي لم تجدد منذ نهاية الثمانينات.. في الطريق كنا نختار «أحسن» الحفر لنمر منها. في قلب كروشن، توجد دار طالبة مولتها المبادرة لكنها مغلقة بسبب عدم توفر السيولة المالية لإيجاد الأفرشة والمعدات الأخرى.. يضطر الآباء ذوو الأوضاع المالية الكارثية أصلا لكراء دور لاانسانية لإيواء بناتهم اللواتي يدرسن بإعدادية كروشن التي صدمتنا هي الأخرى برداءة مرافقها.. صحيا، يوجد ما يشبه المستوصف يأتيه الطبيب مرتين في الأسبوع للإطلالة الخاطفة قبل العودة فارا إلى خنيفرة.. حكى لنا السكان أنه وقعت مآسي حقيقية في الحالات المستعجلة وحالات الحوامل و.. لكن هناك ما هو أثقل على القلب.. ففي كروشن حيث لايوجد شيء تقريبا، شيد مسجد على الطراز الفاسي الرفيع.. استفسرنا بعض الناس ففاجؤونا بهذه النكتة: «المسجد بناه مسؤول سامي بالدولة من مواليد المنطقة جاءه «حكماء» من القرية يشكونه العوز والحاجة.. استقبلهم وسألهم عن مطالبهم.. قالو- بعد تردد و تفكير عميق : «نريد مسجدا».. ثانيا، التكوين.. لم تعرف المنطقة كما صرح مصدر عارف أية تكوينات لتعليم الناس تقنيات خلق المقاولة و التتبع و.. ثالثا: التثمين: الحلقة الحاسمة الأخرى في أي مشروع تنموي.. يعني التثمين مواكبة الساكنة لافقط على مستوى إطلاق المشاريع ولكن أيضا على مستوى تسويقها (من خلال مثلا شراء الدولة للمنتوجات الفلاحية في حالة الفلاحة).. يوم 23، استيقظنا حوالي السادسة صباحا لاكتشاف المنطقة مع طلوع الشمس.. كان البرد قارسا جدا في تلك اللحظة.. صعدنا نحو بعض المرتفعات المطلة على كروشن.. بعد حوالي ساعة و نصف من المشي أحسست بتيارات هوائية رائعة تخترق جسدي وتنعشه بشكل غير مسبوق.. تذكرت حينها واحدة من نصائح دافيد سرفان شرايبر: إن واحدة من وسائل العناية بالجسد و تقويته ضد الأمراض بما فيها السرطانية هو المشي صباحا وكل يوم إن أمكن وسط الطبيعة.. المشي لاغير.. يقول هذا المتخصص العالمي في السرطان أن المشي وسط الطبيعة يمنح مناعة أكيدة.. هذه واحدة من الأفكار التي يمكن استثمارها لتنمية المنطقة: السياحة الجبلية التي تزاوج بين المتعة و العلاج من أورام الحياة المعاصرة.. إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي كمحاولة علاج سرطان بمهدئ للحمى، أو كمحاولة بناء منزل انطلاقا من الطابق العلوي.. يجب المرور الى مقاربات أخرى.. مقاربات تكون شمولية، مركبة، متعددة الأبعاد..إن خطاب الاكراهات (الذي سمعته أكثر من مرة خلال العشاء اللطيف الذي نظمه لنا سكان المنطقة ليلة 23) لامكان له في ظل مانشاهده بالعين المجردة.. لا يمكن أن أفهم كيف أن الدولة تضع التيجيفي (4 مليار أورو) والمازاغان و الموروكومول ومركبات الكولف المترامية و تحف «تنموية» أخرى على رأس أولوياتها و تدير ظهرها لبشر يعيشون العزلة في أعنف صورها.. ألا يرى تقنقراط الدولة بأن الرؤية اللبرالية للاقتصاد كما نفذت في مناطق كثيرة من العالم («نعلفوا المجموعات الاقتصادية الكبرى وحدها القادرة على جر الكل نحو التنمية») قادت نحو احتقانات كانت نتيجتها هي ما نراه اليوم في بقاع كثيرة من تدفقات غير مسبوقة لسيولات ثورية حاقدة ليست إلا في بدايتها؟.. إن التطبيق الأعمى للتعاليم اللبرالية على واقع مغربي أعقد من أية نظريات اقتصادية يعمق الاختلالات الموجودة أكثر مما يساعد على كسر الحلقات الخبيثة.. ماذا أعطتنا سياسة «علف لكبير باش يهز معاه الصغير؟» مغربا بقسمين بينهما الفواصل الشاهقة: قسم يزداد انتفاخا (سنة 2012 وحدها عرفت نمو عدد الملياردرات المغاربة بشكل مثير للغاية)، وقسم شاسع يعيش خارج التاريخ و الجغرافيا، لكن في قلب الفقر والجوع واليأس من وقوع التحولات المنشودة.. يجب الخروج نهائيا من سياسة مد اليد للكبار للصعود أكثر و ترك الآخرين يهوون أكثر نحو القاع.. عدونا، هنا و الأن، هي هذه اللبرالية المتوحشة التي تخدم مصالح أقليات لم يعد يعنيها مصيرنا.. في كروشن، رأيت عن قرب أثار عضات هذه اللبرالية على الأجساد و الأرواح.. من المهم أن نفهم أن نظريات «التنمية البشرية» جائت في الأُصل «نصيحة» من المحافل الدولية المتحكمة في الاقتصادات الذيلية للحد من أثار سياسة/مؤامرة إطلاق يد الرأسمال الخاص ل «حل» المشكلات الاقتصادية.. كان لإطلاق يد اللبرالية علينا أثار تسونامي هائل لم تكن هي نفسها على الكل.. ففي الوقت الذي استطاعت فيه البواخر الكبرى المقاومة والبقاء خارج دائرة الخطر، دفعت أمواج التسونامي بالزوارق الصغرى غير المجهزة لمعالجة مثل هذه الأحداث نحو الشواطئ الصخرية الخطرة لترطمها بقوة.. الزوارق الصغرى هي هذه الأغلبيات المغربية التي ألقت بها سياسات «التنمية اللبرالية» نحو المصائر المجهولة.. أنا لا أريد أن أفكر بنظرية المؤامرة.. لا أريد القول بأن الدولة تريد الحفاظ على الفقر لضمان بقاء البشر داخل دائرة التفكير في القضايا الخبزية.. لكني سأكتفي بطرح هذا السؤال: كيف لدولة قمعت الفرد ومنعته من التفكير وفرضت عليه الإقامة الوجودية الجبرية تأتي وبدون مقدمات وتطلب منه ( المبادرة الوطنية…) أن يتحول فجأة إلى فاعل، إلى منتج أفكار، إلى قائد مشاريع، إلى خالق ثروة، إلى شريك استراتيجي؟.. أنيروني رحمكم الله.. منير الحجوجي [email protected]