كان أول شيء تذكرته وأنا أفكر في كتابة هذا النص حادثة وقعت لي منذ سنوات مع طلبة في السنة الأولى من تخصص “علوم الحياة والأرض” بكلية العلوم والتقنيات بفاس.. أتذكر جيدا أني كنت قد سألتهم – في سياق محاولة لتقديم مفهوم المقدرة التحليلية/التركيبية الشمولية التي يجب أن تتوفر في أي طالب وكيفما كان تخصصه – قلت سألتهم حول أهم الملفات/المشاكل البيئية لمدينتهم.. وبعدما لاحظت اندهاشهم بل استغرابهم، سألتهم مرة أخرى بشكل افترضت أنه سيساعدهم أكثر: “ما هي الجرائم البيئية الثابتة في حق مدينتكم والتي لايمكن أن تخطأها العين المجردة لأي واحد منا”؟ وأمام استمرار ذات الاستغراب المريب، حاولت مساعدتهم مرة ثالثة طالبا منهم أن يرفعوا أعينهم قليلا فيما وراء أسوار كليتهم والنظر إلى ما “يحدث” في المناطق شديدة الخصوبة الشاسعة المحيطة بهم على مستوى طريق ايموزار وطريق عين الشقف وطريق صفرو لعلى وعسى أن “يرووا” ما قصدته ب “الجرائم البيئية” المترامية (ومنها ذلكم الاجتثاث “العسكري” غير المسبوق لآلاف أشجار الزيتون).. في الحقيقة، لقد صدمت بجهل الطلبة بما يحدث أمام أنوفهم.. لكن الكارثة ليست هي هذه.. ففي اللحظة التي كنت أحاول أن أجرهم نحو الحديث والتأمل حول التأثيرات الكارثية لاجتثاث آلاف الهكتارات الفلاحية على مستقبل الحياة البشرية والحيوانية والنباتية بالمنطقة، تدخل طلبة عديدون في نوع من الرد الحازم المتيقن من ذاته قائلين بالحرف: “ولكن يا أستاذ، كيف يمكن أن يحصل كل واحد منا على سكن إذا لم نقتلع الأشجار؟!”. وكأي أستاذ عليه أن يستغل أي شيء يقدم له ليدفع برسائله قلت لهم: “حسنا، لم لا ننطلق من هذا الجواب وننخرط جميعا في ورشة من العصف الذهني في الموضوع!”.. في تلك اللحظة طلبت من الطلبة أن يتركوا مؤقتا جوابهم ويفكروا في السؤال التالي: هل توجد إمكانية أخرى لتشييد المدن غير تلك التي تمر عبر تدمير الفضاءات الطبيعية غير القابلة للاسترجاع (نحن هنا في سهل السايس ذي الموارد الفلاحية الغنية جدا).. بعد التمرين، الذي يكمن أساسا كما يعلم المدرسون في دفع الطلبة إلى طرح أقصى ما يمكن من الأفكار والاقتراحات حول الموضوع حتى وإن كانت أفكارا واقتراحات “تافهة” أو”خارجة عن السياق”، خرجنا – خرجوا- بقناعة مفادها أنه من الممكن جدا “إقامة الحضارة” دون المس بالتوازنات الاستراتيجية الكبرى للطبيعة بكل مكوناتها العضوية والنباتية والمائية و.. ما هي الدروس التي يتوجب استخلاصها من هذه القصة؟ هي في اعتقادي ثلاثة أساسية: أولا، وحتى وإن بدا الأمر مستفزا شيئا ما، لا يمكن ألا أن نقارن بين هذا التدمير المنظم للمجال الذي تقوده عصابات جشعة غير مكترثة بما تخلفه من كوارث في أجسادنا وعقولنا، وما تقوم به دولة إرهابية معروفة عندما تضطر – أقول تضطر- إلى اجتثاث زيتونة أو زيتونتين انتقاما من عائلة مقاوم فجر نفسه في مكان ما من جغرافيتها الموبوءة.. ثانيا، لايمكن للمرء إلا أن يرتعب من فشل النظام التعليمي وعلى كل المستويات في منح الطلبة معرفة (حتى لا أقول أخلاقا) بيئية.. إن من أكبر مشاكل التعليم عندنا ربطه لكل التكوينات بحاجات سوق الشغل وحده، دون فتحها على الأنساق الأخرى الأساسية للحياة، ومنها، وبل وعلى رأسها، الأنساق البيئية.. (يعود غياب أو على الأصح التغييب المبيت للمباحث البيئية من برامجنا إلى خوف أوساط نافذة مستفيدة كثيرة من أن تفتح مثل هذه المباحث أعين الطلبة على حقائق “الاستثمار” العقاري والصناعي الزاحف على مدننا وعلى أطرافها والمدر كما نعلم لأرباح لايمكن تصورها.. وهذا أمر خطير جدا سأعود إليه في نص لاحق).. ثالثا، لايمكن إلا أن نندد بغياب سياسة بيئية قوية وبعيدة المدى لدى الدولة المغربية.. إن تدمير المجال تحت ذريعة توفير السكن من جهة وخلق دينامية عقارية اقتصادية موفرة لمناصب الشغل من جهة أخرى هو مما سوف نؤدي عليه الثمن غاليا.. أتصور أن من ضمن كبرى المشاكل التي سوف تتفجر بحدة نادرة في السنين القليلة المقبلة ما سنحصده مما نمارسه اليوم من ضغوطات غير مسبوقة على الموارد/التوازنات الطبيعية التي لايمكنها أن تتحمل إلى ما لانهاية.. الدولة التي تحترم نفسها لا تفكر أبدا بمنطق “سكن ليا بنادم ودور لحركة وماشي شغلي فليجاي”..الدولة التي تستحق اسمها هي التي تضع الدينامية العقارية والاقتصادية عموما في خدمة أنساقنا البيئية وليس العكس.. (بالإمكان هنا الانفتاح على التجربة الألمانية الرائدة عالميا في هذا المجال).. في الواقع، ليست الدولة وحدها من تصادر مستقبلنا .. فالشركات الإنتاجية العمومية والخاصة الكبرى تبدو وكأنها غير معنية على الإطلاق بترابنا ومائنا وهوائنا، والدليل أن الغالبية الساحقة لهذه الشركات تزور وتنفخ يوميا في “مجهوداتها” ونتائجها البيئية.. سأكرر ما سبق أن قاله البيئيون العظام ( ادغار موران، جان زغلر، نيكولا هيلو...) كل واحد بطريقته: إن هذه الشركات هي العدو الأول لمغربنا/كوكبنا، لأنها تخرب يوميا وبشكل مبيت التوازنات البيئية الكبرى الأساسية جدا لاستمرارنا، نحن والأجيال التي ستأتي “بعدنا”.. ليسمح لي هنا بالعودة بسرعة إلى نظامنا التعليمي.. من السهل أن نلاحظ أن هذا النظام المفروض فيه أن يكون فضائنا الأول للتدريب على المبادئ والأخلاق البيئية يوجد مفصولا عن كل أشيائنا/حاجاتنا الأساسية. وإذا كان التعليم “الأساسي” يتحرك خارج الفكرة البيئية، فإن أقصى ما نجده في نظامنا التعليمي الجامعي المهووس بنظرية سوق الشغل، هي مادة أو نصف مادة تحمل اسم محيط Environnement لا تتجاوز تدريس ما يسمى التطهير Assainissement.. وليس من الصعب أن نلاحظ أن هذه المواد لاعلاقة لها على الإطلاق بالرهانات البيئية الكبرى كما طرحها زغلر وهيلو ويان أرتوس برطراند وفيليب دوبروس وغيرهم.. هل يجب أن ننتظر الكارثة حتى نبدأ في التفكير في ما يتوجب فعله للخروج من جهنم نصنعها يوميا دون علم منا؟ يجب الخروج من سياسات “تنموية” تفصل سؤال التنمية عن سؤال البيئة.. ستكون كل سياسة “تنموية” بلا أية قيمة إن لم تسعى نحو الحفاظ على الإنسان في شموليته.. يجب وقف التدمير غير المسبوق الذي نمارسه على الهياكل البيئية التي ترعانا صباح مساء دون أن تتعب ( لحد الساعة) من وقاحتنا.. يجب الخروج الفوري من تدبيرات أنانية متطرفة تدفع بشراسة نادرة نحو تأزيم وضعنا ومعه وضع مجموع شركائنا فوق الكوكب.. وفي كلمة واحدة، يجب إعادة بناء سؤال “التنمية” في اتجاه ربطه وتقييده بالسؤال البيئي المحلي والكوكبي.. تربويا، يجب إدخال إصلاحات جذرية في المنظومة التعليمية بشكل يجعلها قادرة على دمج المعارف/الأخلاق البيئية داخل برامجها.. إن مدرسة لاتدرس القضايا البيئية الكبرى ليست بمدرسة. إن مهندسا وكيفما كانت كمية/جودة دبلوماته لاقيمة له ما لم تكن له نظرة بيئية شمولية ثاقبة للعالم وللبشرية وللمستقبل.. استراتيجيا، يجب على الدولة أن تعيد بناء علاقتها بالشركات الإنتاجية الملوثة الكبرى (وهي معروفة لديها).. إن الحل هنا لايوجد في إرهاب الرأسمال المستثمر.. انه يوجد في التواصل الايجابي القادر على منح الثقة.. يجب مثلا منح تحفيزات ضريبية أو غيرها لكل شركة تحقق نتائج بيئية جيدة أو تبدع اجراءات أو حتى تكنولوجيات غير مسبوقة في مجال الصحة البيئية.. في الأخير، لابد أن نفهم أن المسؤول والراعي الأول للألة التدميرية للبيئة محليا ودوليا هي الرأسمالية، تلك “الفلسفة” التي تنظر إلى الأراضي الخالية والبحار العذراء والأنهار الصافية المعطاءة بوصفها “غربا” far west شاسعا يتوجب “استثماره”، وعلى الأصح افتراعه، تحت ذريعة تحقيق النمو “الحيوي” لبقائنا.. وحتى تنجح الرأسمالية في تمرير سياستها، تلجأ إلى تكتيك ابستمولوجي نادر فتقدم افتراع العالم بحسبانه حلنا المقدس لكل “الانحسارات” الاقتصادية الناجمة، “بداهة”، عن ضعف الحركية الاقتصادية .. وما إن توقعنا في فخ هذه الخدعة المفبركة جيدا حتى تمر نحو أخرى أشد وأقوى تتمثل في إيهامنا بأن اللهث وراء ما توفره لنا من منتوجات وخدمات “باهرة” و”لانهائية” هو ذاته رغبتنا الطبيعية والأصلية والبديهية والنهائية، حاجبة “التسخينات” الإيديولوجية وراء هذا اللهث باعتباره من إنتاج ورعاية من لهم مصلحة في أن يرغب ويلهث البشر وراء منتوجاتهم/خدماتهم ويربطون سعادتهم بهذا اللهث وبديمومته.. واضح إذن أن أخطر ما في الرأسمالية هو سعيها القوي لمحو أثار الاختلاف بين واقعها أو رغبتها ( الافتراع، الاستنزاف، التحكم، القوة، الاحتكار، التدمير..) والواقع الحي لسكان الكوكب، القادرين في مجملهم على العيش خارج قانون التوحش، أي خارج التطلع نحو “التمتع” على حساب الحياة والأرض والمستقبل.. لندقق أكثر في هذه الفذلكات البلاغية.. تبذل الرأسمالية جهودا خرافية لتفصلنا عن واقعنا النفسي/الأخلاقي الداخلي ( الديني، الكانطي، الايكولوجي...) وتوجهنا نحو عوالم منتوجاتها وماركاتها حتى تربطنا كليا بما يحدث ويمر ويعرض من مواد في الخارج، الذي هو خارجها. لنأخذ مثلا ما يحدث داخل مختلف الفضاءات التجارية.. فعندما تدخل سيدة إلى فضاء سوق ممتاز مثلا، فإن شيئا ما بداخلها يتحرك، أحاسيسها، رغباتها كلها تتأثر جذريا أو جزئيا بما يوجد فوق الأروقة المختلفة. من المفيد هنا الإشارة إلى الجذور العميقة لهذا “الاستفزاز”: فعندما تريد شركة تجميل مثلا بيع منتوج معين، فإنها تقوم بإيهام المرأة ( مستغلة الخلفيات/الرغبات النفسية اللاواعية لهذه الأخيرة، وهذه الرغبات كما نعلم هي إنتاجات تاريخية/عائلية ولا تنتمي إلى سجل الخاصيات “الجينية” للمرأة كما يروج صناع الخدع الرأسمالية لتبرير استبلادهم لنا) بحاجتها الحيوية إلى المنتوج المذكور، وإلا حدث تشويش خطير في مسار تحقق نفسيتها وذاتيتها ك”امرأة”. هذه هي اللعبة الأساسية للعالم الحالي كما يوضح المحلل النفسي الفرنسي الكبير شارل بوازيس Bouazis في كتابه الهام التحليل النفسي للرابطة الاجتماعية: يتعلق الأمر – ويجب أن لا نمل من قول ذلك- بإفراغ داخل الفرد من قيمه ومعاييره وأخلاقه ثم ملئه بحاجات ومنتوجات وعلامات و”أخلاق” ( أزبال) الخارج (السوق السلعية الاستهلاكية المخربة الموسعة)، في أفق تحويله إلى كائن لايتحرك إلا من أجل الاستهلاك والاستعراض والاستنزاف والمصادرة والنفي.. نحن مدعوون، وأكثر من أي وقت مضى، للتفكير الصارم والمؤلم في هذه اللعبة المسمومة.. هل سنظل على حالنا، حال من يفعل كل شيء وأي شيء للاقتراب كل يوم أكثر من الهاوية؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يعلو على كل الأسئلة الأخرى.. (*) أستاذ باحث