«مهمة المدرسة هي مساعدتنا على فهم قدرنا وتغييره» إدغار موران أيها السادة، تحية طيبة و بعد،يؤسفني ويؤسف كل تربوي صادق أن نلاحظ بأن «المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم» دخل سنته الرابعة وهو يعيد إلى الواجهة نفس الاحتقانات الكبرى التي كنتم قد التزمتم أمام الأمة بحلها.. لقد استمعنا إليكم، وصدقناكم ثم تبين في النهاية أن وعودكم وإصلاحاتكم لم تكن سوى مناورات مفذلكة جيدا لإدامة قبضتكم على القطاع.. وبعد أربع سنوات كاملة من حرق الملايير في مئات المشاريع والوقت والجهد في آلاف الاجتماعات ماذا كانت النتيجة؟ أعتقد أننا لن نجد أفضل من هذا الجواب الذي قدمه السيد اخشيشن ذاته في لحظة مكاشفة سقراطية نادرة.. ففي جلسة برلمانية شهيرة (أواخر الموسم الدراسي الفارط) سمى الوزير الأمور بأسمائها وقال بالحرف: “للأسف لقد فشلنا، وها نحن أمام موت المدرسة العمومية التي أعطت للمغرب خيرة أطره و رجاله” !!.. إن من أقرب مظاهر هذا الشلل إلينا أنه مع المخطط لاالبرامج والمضامين تغيرت، و لا البيداغوجيا تطورت، ولا الإمكانيات و بنيات التدريس تحسنت ولا – وهذا مهم جدا أيضا- آليات اتخاذ القرار تدمقرطت، مثلما يشير السيد محمد حمزة في مقال جميل له حول “تصحر التعليم العالي”. أيها السادة، واضح أنه لم يتبقى لكم سوى الاعتراف بمسؤوليتكم الجسيمة عن الانهيارات المسجلة في بنيات التربية والتكوين.. ودون هذا الاعتراف-الذي يجب أن يكون واضحا وجريئا- فلن يكون من الممكن أبدا السير في المهمة التاريخية التي أنتم ملزمون بتنفيذها لإنقاذ مدرستنا، وإنقاذنا معها.. أنا من الذين يعتقدون أنه آن الأوان للقيام بتغييرات راديكالية في عقائدكم/مقدساتكم التربوية الرسمية (سبيلنا الوحيد للحاق ولم لا السير بنفس سرعة التحولات التربوية-العلمية-الوجودية غير المسبوقة لعصرنا)، والبداية يجب أن تكون بقطعكم الشامل مع ديكتاتورية التدبيرات التقنوقراطية للقطاع، وإطلاق مشاورات جماعية عميقة وصارمة حول أوضاعنا التربوية، مهما كانت درجة تعقدها، سعيا وراء التقاط أكثر الاقتراحات قدرة على معالجتها معالجة شمولية ومركبة وخلاقة وخارج أية إجماعات مهدئة لاتظهر مخلفاتها الكارثية إلا بعد أن يكون الله قد قضى أمرا كان مفعولا.. سأحاول في هذه الورقة الإشارة بعجالة إلى المحاور الأساسية التي يجب أن تحسموا فيها قبل الارتماء في حضن سنة دراسية أخرى.. أستغرب لكونكم- ومع كل المؤشرات السلبية بل والكارثية التي راكمتموها- لازلتم ثابتين على قناعاتكم “الإستراتيجية”، علما بأن معاينات الخضار والجزار والاسكافي قبل التربوي والديداكتيكي والمفكر تتوحد كلها في الإقرار بوجود تقيحات لم يعد من الممكن إدارة الأنف قبل العين عنها، وإلا ازدادت تعفنا مثلما تبين دائما مما حصدناه من إصلاحاتكم “الكبرى” منذ مناظرة إفران الشهيرة أواسط الستينات إذا لم تخني الذاكرة.. بعبارة أخرى، يصعب جدا النجاح في أية إصلاحات تربوية قادمة – هذا إذا كان لازال من الممكن السير في هذا الطريق مع كل تلك التشوهات الخطيرة التي ألحقتموها بالمدرسة- إلا بتخليكم عن كل نية في إعادة استعمال نفس آليات المعالجات السابقة، تلك التي وظفتموها (ومنذ إطلاقكم لسياسة التدمير المنظم للمدرسة المغربية) لإرضاء حسابات تافهة، هي في النهاية حسابات/مصالح من لاتعنيهم لاحياة ولاموت المدرسة المغربية.. أيها السادة، يمكن القيام بقراءتين مختلفتين للإصلاح التربوي.. الأولى، ذات نزوعات تقنوقراطية واضحة، وهي المهيمنة داخل عقولكم وتدابيركم، تختزل قضايا الإصلاح في ملفات السيما والطوب والمارشيات والتعيينات والترقيات والتعويضات وإعادة الانتشار.. والثانية، شمولية، ومركبة، ومتعددة الأبعاد، ومفتوحة ترى- على النقيض تماما من القراءة المشوهة والمشوهة الأولى- أن قضايا الإصلاح تتجاوز بكثير أوهام السيما والطوب والزفت والرخام والحفلات.. تعتقد القراءة المنتبهة إلى تعقد أحوالنا التربوية أن القضايا الإستراتيجية لتعليمنا هي تلك التي تتعلق بسؤال المدرسة في ظل ما يجرفها (نا) من تحولات غير مسبوقة، وبنوع الأهداف الكبرى للتكوين، وبقيمة البيداغوجيا المطبقة، وبدرجة الانتباه إلى العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية المركبة والعميقة المؤثرة في العملية التربوية، وبطريقة “بناء” القرار “الاستراتيجي” داخل المؤسسات التعليمية، وبتقنيات “التواصل” مع مختلف “الفاعلين” التربويين، وبفلسفة تدبير العنصر البشري، وبحجم/جودة حضور الفكر الفلسفي والسوسيولوجي والنفسي في التدبير والإصلاح.. أيها السادة، إن أكبر فضيحة يمكنكم أن تفتتحوا الموسم الدراسي بها هي الاستمرار في التنفيذ الأعمى/الأصولي ل”مشاريع” المخطط دون القيام بوقفة صارمة لمساءلة الأعطاب المتراكمة.. وستكون الفضيحة أفدح إذا ما قمتم بتنظيم لقاءات “تقييمية” يكون هدفكم السري منها هو منع أو على الأقل الالتفاف على أي توجه صوب طرح القضايا المغيبة الكبرى مما ذكرت بعضها للتو.. سيكون ذلك تدميرا لأخر أمالنا في مدرسة مغربية عمومية جيدة، قوية، إنسانية، وذات قدرة تنافسية عالية على مستوى سوق العرض التربوي/العلمي المحلي والدولي.. في هذا السياق، إن الاستمرار في الاعتقاد بأن ربط التكوين بسوق الشغل هو منقذنا من الضلال يشبه ذلك الاعتقاد بإمكانية بناء منزل انطلاقا من الطابق الرابع.. من المهم أن تخدم المدرسة حاجات السوق الصناعية والمالية.. ولكن عليها أن تخدم أيضا بل وأولا الحاجات/الأبعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية والجمالية والوجودية التي لايمكن تحقيق أي تقدم حضاري دال دون الانتباه إليها والعمل الجاد على تحقيقها.. وليس هناك سوى مدخل واحد لإنجاز هذا الهدف التاريخي الكبير: تكوين الطالب على الوعي بوجود أبعاد في الحياة أكبر من الأبعاد التقنية والصناعية والتجارية للسوق.. يجب توجيه الطالب نحو ربط تكويناته العلمية بحاجات وأولويات مدينته ووطنه وقارته وكوكبه.. يجب توجيهه نحو خدمة المغرب/العالم لا نحو الخدمة الحصرية لسوق لايخدم في النهاية سوى أقليات لا ترى إلا نفسها.. إن تكوين الطالب على الانضباط العسكري لأوامر المصنع/السوق يجعل منه، وهو الحاصل للأسف الشديد، عبد سخرة رهن إشارة رهانات -التنافسية /الإنتاجية/الجودة- هي في الواقع غطاءات السادة في سعيهم نحو سحق الآخرين والاستحواذ المتوحش على أرزاقهم وأعناقهم- وهذه رهانات، كما هو واضح، لا تكترث في المطلق بما تحدثه من مخلفات جرثومية على البشر والأرض والحياة والمستقبل.. إن تربية أولادنا وبناتنا على الرؤية المفتوحة والمتعددة الأبعاد للذات وللعالم يتطلب شيئا أخر غير تلك السياسات البيداغوجية الاستسهالية بل والفولكلورية التي تدبر بها ملفات ثقيلة لا تحتمل اللعب من مثل ملف نوعية من نريدهم صناعا لأقدارنا المستقبلية.. في هذا الصدد، يجب أن توضع “الثقافة” (التي تعني هنا مجمل أدوات فهم/معالجة/تحويل/صيانة – وألح على كلمة “صيانة”- المغرب والعالم) في قلب المقررات الدراسية لا خارجها.. يجب أن تكون العلوم الإنسانية، ونظريات الأخلاق، وسوسيولوجيا الديانات، وفلسفات الوجود، وتقاليد وآداب الشعوب، والثورات العلمية، والابستمولوجيا، ملازمة بقوة لكل المواد، كانت “علمية” أو “أدبية”.. لماذا يتوجب وضع العلوم الإنسانية والفلسفية والدينية والأخلاقية والجمالية في قلب المضامين والمقررات؟ ببساطة لأنها وحدها القادرة على لجم المخلفات الخطيرة التي بدأ يفرزها التوجه الأعمى نحو فرض وتعميم البيداغوجيا التمهينية (البيداغوجيا التي تعتبر السوق- وما أدراك ما السوق، وخصوصا في نسخته المغربية- إطارا/أفقا جاذبا متعاليا وحيدا وأوحدا لكل التكوينات الممكنة).. لا أفهم على الإطلاق تلك اللامبالاة الغريبة التي يكشف عنها الكثير منا أمام قضايا مصيرية تتطلب معالجات ساخنة شمولية ودائمة.. في اجتماعات “تربوية” لاتعد ولاتحصى، أصدم ببرودة دم الحاضرين عند طرح أحدهم -ممن لم تروضه آلات المؤسسة- قضية تربوية أو “فلسفية” حادة- من مثل التهام الأطروحة اللبرالية/السوقية للتفكير/التدبير التربوي- لاتحتمل الصمت أو التفوه بالكلام السطحي.. في الواقع، الكل يعترف بوجود أفات كبرى، لكن القليل، والقليل جدا، يبدون استعدادا حقيقيا للصراخ ضدها.. أيها السادة، تمعنوا جيدا ما سأحكيه اللحظة.. في برنامج جميل جدا على قناة الجزيرة الوثائقية، صدمت لطريقة عمل الوزراء في البلدان الاسكندينافية الثلاثة. إن الوزير في هذه الدول التي تمكنت من أن تضع بصمتها بشكل لاغبار عليه في قلب ميزان الإنتاج/التجارة الدوليين- حيث تبلغ مساهمتها في الإنتاج الخام العالمي حوالي أربعة بالمائة وهي نسبة محترمة جدا في بلدان بلاموارد طبيعية باستثناء بعضا من أبار البترول المتناثرة هنا وهناك ببحر الشمال-، قلت بأن الوزير الاسكندينافي غالبا ما يلتحق بعمله فوق دراجته الهوائية حاملا فوق ظهره حاسوبه النقال ومحفظته البسيطة.. وعند وصوله إلى مقر عمله يسارع لأخذ مكانه على مكتبه وجها لوجه أمام سكرتيرته في غياب تام لأية عوازل بيروقراطية بروتوكولية متخلفة.. ثم تبدأ رحلة دراسة الملفات.. وفي فترة الغذاء، يجتمع الوزير والسكرتيرة وعامل النظافة وأي مكلف أخر بمهمة داخل المؤسسة على نفس الطاولة للالتهام الجميل للمأكولات نفسها في لحظة إنسانية بسيطة باهرة.. وأنا أشاهد البرنامج تذكرت كل تلك الفخفخة التافهة التي يصر وزراؤنا والمسؤولون “الكبار” داخل المؤسسات العمومية ومنها المؤسسات التربوية على أن يلفوا خواءهم المعرفي بها.. (نموذج ذلك الوزير الذي اكترى سيارة بأكثر من ثلاثة مائة مليون سنتيم، بحجة تنقلاته الكثيرة، كما لو أنه مكلف بإعداد خطة تاريخية غير مسبوقة لرفع الناتج المغربي الخام من 600 مليار درهم إلى 6 ألاف مليار درهم، مقدمتنا الأولى كما يعلم الاقتصاديون قبل البدء في أية تغييرات جدية !!! ).. إن العمل الذي يهدف إلى خدمة المغاربة ياسادة لايحتاج لدواوين عملاقة ولا إلى تجهيزات باذخة ولا إلى سيارات “فارهة” صبيانية ولا إلى جيش من المعاونين مما يحرق أموالنا ف “تبناد لخاوي”. إن العمل الجيد يحتاج إلى وعي صارم بدقة وبخطورة رهانات مغربنا/عالمنا، وإلى استعداد أخلاقي دائم لخدمة الأغلبيات بلا حماية، وقبل هذا وذاك إلى شجاعة القيام بمراجعات جذرية للخطط والتدابير المتبعة إذا ما تبين غلطها.. يا صناع القرار “الاستراتيجي” التربوي بالمغرب، أنا لا أطلب منكم المستحيل.. أنا أطلب منكم فقط أن تفكروا.. ليس من سبيل أمامكم –أكرر: في هذه اللحظة التاريخية المفصلية- سوى أن ترفعوا أعينكم قليلا وتحاولوا النظر أبعد من أسوار مكاتبكم المعقمة ضد مغرب/عالم يغلي تحولات/احتقانات غير مسبوقة لاقبل لعقولكم المروضة على التبسيط والاختزال والتجزيء والتقطيع وكل التناولات الفولكلورية على رؤيتها فبالأحرى فهمها وحلها.. عليكم أن تغيروا جذريا خلاياكم الذهنية المنتهية الصلاحية.. وفي حالة عجزكم فيمكنكم أن ترسلوا فرقا عالية الالتزام الأخلاقي والعلمي للإطلاع على سياسات الدول التي حققت تقدمات جدية في مجال التربية والتكوين والبحث العلمي.. إن من شأن القيام بعمل تحليلي نقدي تركيبي صادق و صارم لتلك السياسات أن يجعلكم تتوفرون على أدوات/بوصلات بيداغوجية/ابستمولوجية غنية وفعالة ستحول لا محالة الكثير جدا من قناعاتكم وخياراتكم المشكوك جدا في “بداهتها” (أفكر هنا في التجربتين الألمانية والكورية ونقيضها المتخلف التجربة السعودية للمقارنة الكارثية).. سيكون من العار أن نضطر سنة 2013 أو 2014 إلى أن نتحدث عن مخطط استعجالي أخر.. سيكون ذلكم المخطط دليلا أخر على أننا ربما لانستحق “التعلم” في هذا القرن الواحد والعشرين. سيكون ذلكم المخطط شاهدا آخر على أن كل تلك الوجوه التي تتحدث إلينا الآن من مكاتبها المصنوعة على مقاس استيهاماتها البالية لاتقوم في العمق إلا بممارسة كفاءتها الأولى التي لايمكن لأي ساذج مثلي أن يضاهيها فيها: الكذب الأنيق والمدمر لمستقبلنا.. أيها السادة، أتذكر في تلك السنوات السبعينية الجميلة كيف أن أحد معلمي في الابتدائي رحمه الله كان يغلق باب الفصل بمجرد دخوله. كنا نستدخل ذلكم الفعل كما لو أنه شروع في عملية احتجاز أو أي شيء أخر مما يخيف طفلا من سني.. وكان أي شيء يريد المعلم أن يوصله لنا بعد ذلك لايمر البتة بسبب ذلك السور العظيم الذي وضعناه داخل وعينا/لاوعينا بيننا وبين ذلكم “لغول” المتربص بنا والقادر كما توهمنا على أن يفعل فينا أقبح الأمور.. يتعلق الأمر هنا بواحد من أهم أوراش إصلاح التربية والتعليم: إنها المتابعة النفسية الدقيقة للمتعلمين بشكل عام.. يا من يحددون مستقبل المدرسة المغربية، من الغريب أن تفلت لكم هذه البداهة التربوية: إن التلميذ المغربي ليس رقما باردا في لائحة، إنه إنسان مركب، إنسان بأحاسيس ومخاوف وترددات واحباطات يمكنها أن تشكل حاجزا حقيقيا في وجه تقدمه العلمي بل و الحياتي إذا لم تعالج في لحظات “تبنينها” الأولى.. أيها السادة، يامن تملكون التراكيب السرية لمستقبلنا، إن العطب البنيوي الأخر الذي يتوجب عليكم أن تفكروا فيه يتعلق بتلك القطيعة الخطيرة الحاصلة بين مسؤولي المؤسسات التربوية ومختلف العاملين بها.. إن ما نلاحظه هنا هو استمرار التدبيرات الفوقية المتعالية على كل الآخرين الذين يتم اختزالهم في دور منفذي سياسات هم جاهلون بطريقة طبخها وبالرهانات غير الواضحة التي يراد تمريرها.. أيها السادة، يجب أن تعلموا أن التدبيرات الديمقراطية لمؤسساتنا هي سبيلنا الوحيد لإنقاذ تعليمنا، وبالتالي إنقاذنا.. إن الاستمرار في الاستحواذ بالقرار- مبررين ذلك ببداهة تصوراتكم ونباهة تحليلاتكم وعمق استشرافاتكم وتخلف كل الآخرين غير الصافيي السريرة- لايمكن إلا أن يكرس واحدا من أخطر أعطابنا التاريخية: عطب الاستبداد التربوي الذي يشكل سندا هائلا للاستبداد السياسي العام.. وتقبلوا فائق مشاعر التوجس من كل مبادراتكم المقبلة..