تتيح العلاقات بين مجالات معينة في ميدان الإنتاج الرمزي، الإبداعي خصوصاً، ومنها السينمائي، إمكانية للفهم المتبادل، وتفتح الباب على المعرفة بإنتاج مفاهيم جديدة أحياناً، تنتقل من حقلها الخاص لتتواجد معرفياً في حقول أخرى. وقد سبق لجيل دولوز أن أنشأ جهازاً مفاهيمياً فلسفياً كبيراً انطلاقاً من تأمل العمل السينمائي وأفلامه. والحديث عن البيئة يمكن أن يدور في هذا الفلك، كما ان الاهتمام بالقضية البيئية حالياً بوفرة، يحثنا على طرح السؤال حول أشكال الاهتمام، وكيف تم التطرق إليها، كما بالإضافات التي استخلصت عن ذلك، إبداعياً سينمائياً في وضعنا هنا، وبيئياً. البيئة بما هي مجال للعيش الجمعي، ومجال للإبداع الفردي. في الحالة الأولى، تشكل البيئة موضوعاً سينمائياً، عابراً أو رئيسياً، يختلف عن الموضوعات السينمائية الأخرى خاصة تلك التي تتسم بالحميمية والفردية والاستبطان بخصوص السينما الفنية. تكون عابرة في جل الأنواع المعروفة كأن تكون موضوع حبكة في فيلم بوليسي أو فيلم حركة أو فيلم رومانسي. على سبيل المثال يقول مخرج الفيلم الكارتوني «الحائط أ – Wall E» بأنه «وظف البيئة l'environnement لحكاية قصة حب لا غير». في الحالة الثانية، تكون البيئة هي الأساس، أي تصير قضية وذريعة للاستغلال السينمائي. بمعنى انها تصير جزءاً مهماً، كما في أفلام الكوارث وأفلام التلقين، وذلك بما تمنحه من قدرة على الفرجة والتسلية وإثارة غرائز الخوف والرعب والتنفيس. وهنا طبعاً نتحدث عن الأفلام الروائية بالتحديد. هنا لا تقدم السينما إلا تجاوراً وتوافقاً مع موضوع مطروح للتوظيف كأي موضوع. لكن البيئة حين تقدم لذاتها، فإنها تقدم من منظورين هامين، هما الجمال والقبح. كاستثمار لهما يمكن أن يضيف ألقاً وإعجاباً، كتجلٍّ للجمال بما يثيره من عواطف إيجابية متفاعلة في العمق مع الأشياء بخلاف حاله مع الإنسان، بل مع العالم مجرداً من البشر، النبات والصخر والعناصر الأربعة، ممنوحة كما هي في حياتها الخالصة العذراء، متروكة لعملها الحياتي المتضمن قدرات خارقة ومنطق عيش متناغم وقوي. السينما هنا تصور وتتبع وتتقفى بالرصد العجيب والمتقن والقبيح والأصيل من دون تدخل. أي أن السينما تزكي وتشهد. في هذا الصدد يمكن مشاهدة أفلام سينمائية رائعة مخصصة ك «الحيوانات العاشقة» للمخرج لوران شاربونيي. الإنسان وتدمير الجمال أما القبح، فهو يرتبط أساسا بتدخل الإنسان ضمنياً أو علانية وعن سبق ترصد، وذلك بتدمير الجمال السابق بالإعدام وبالتشويه وبالاستغلال المفرط للمنتوج الطبيعي الممنوح أو تحويله عن أهدافه. تمنح السينما هنا صور الموات والمحو والتسويد. وفي كلتا الحالتين، السائد هو السينما الوثائقية في حالة الجمال بشكل عام، والروائية في حالة القبح، بما أن القبح مادة للحكي ولاختراع القصص بتضمنه «ثيمة» الصراع، وهو ما تبحث عنه الدراما الحكائية. هذا من جهة، اما من جهة ثانية، وتبعاً للاهتمام الكبير أخيراً بالبيئة كما قلنا، ولتعميق الكلام العام أعلاه، تمت إضافة لون جديد للسينما، بعد اللونين التقنويين، الأبيض والأسود في البداية ثم الألوان «الطبيعية» في ما بعد، واللذين يشكلان مرحلتين مفصليتين في تاريخ السينما وسعيها كفن حديث لعكس الواقع أو اختراقه. واللون الجديد ليس تقنياً بل وصفياً لتيار فني عاكس لتيارات سياسية واجتماعية وثقافية هو اللون الأخضر، والآتي من مفهوم «السينما الخضراء» المعبرة عن عودة وعي عامة وعالمية. وقد أتت هذه السينما عقب نقاش عالمي واسع حول البيئة، والطبيعة والحياة، وعبر عدد هائل من الأفلام. الكبيرة والهامة. أفلام توظف الخوف والرعب، وأفلام هدفها التحسيس والإشعار والتوعية ودق ناقوس الخطر، روائياً وتوثيقياً وكرتونياً. السينما الخضراء هذه محددة سلفاً للحديث عن البيئة، كما هي مجال للإبداع الفردي الذي تحدثنا عنه. واللافت أن الذين تطرقوا للأمر شخصيات معروفة، بدءاً بالمرشح الديموقراطي الأمريكي آل غور الذي تحول من سياسي إلى اعتناق قضية الحفاظ على البيئة والتحول إلى منتج سينمائي من خلال فيلمه «هذه الحقيقة التي تزعج» ما منحه حضوراً جديداً بعد السياسة (التي تتقل البيئة بالكثير من قراراتها البراغماتية المصلحتية). ثم هناك أشخاص اهتموا من منطق نضالي، كالممثلة المعروفة إيزابيلا روسيلليني من خلال أفلام مثل «بورنو أخضر» تجسد فيها الحياة الجنسية للحشرات، أو لوك بيسون الذي أنتج أحد أهم الأفلام في هذا المجال، وهو Home لمخرجه يان أرتيس برتراند وساهم في كتابة سيناريو له الكاتب الفرنسي إريك اورسينا الذي يقول في هذا الصدد « بنفس القدر الذي يتوجب إيجاد أجوبة عديدة حول مسألة إرهاق الطبيعة، علينا إيجاد زوايا نظر متعددة. والكتاب هنا يكمل الفيلم، علماً بأن الأخير يثير العواطف أكثر ويؤثر مباشرة»... هذه السينما الخضراء التي تثير الاهتمام من طرف هؤلاء وآخرين، انما هي تجسيد لهمّ عالمي كبير يجب التصدي له، وكما يقول الفيلسوف الفرنسي إوليفي بورييل «استحضار الكارثة البيئية أمام العين عبر هذه الأفلام يرسخها في المخيال الجمعي، الشيء الذي لا يستطيع اي خطاب سياسي القيام به». وفي هذا الإطار لا يمكننا ان نختم هذا الكلام من دون الإشارة الى النجم ليوناردو دي كابريو، الذي أخرج فيلماً وثائقياً بعنوان «الساعة الحادية عشرة، المنعطف الأخير». يتناول قضية البيئة بدوره. التهويل للتنبيه فقط إذن ما ينبني عليه الانشغال بالبيئة في تجليها القيمي، جمال وقبح، وفي نسج مصطلح خاص لتيار سينمائي (سمعي بصري للتدقيق أكثر) هو السينما الخضراء كما قلنا، ما ينبني عليه هو الخطر. وهو أيضا مثير حكائي قوي ومبتغى، مثله مثل القبح. الخطر من فقدان الحياة، من انحسارها، من تلويثها، من انهيار مقومات استمرارها. أفلام مثل تلك التي يدأب الفرنسي نيكولا هيلو على انتاجها وإخراجها كثيراً، لكن أيضاً أفلام الفرجة العامة، «2012» مثلاً. وذلك باستعمال آلية التهويل والمبالغة الأكبر بتجسيد المشاهد الصادمة للانفجارات والانهيارات والقتل الجمعي بالأوبئة الخارجة من المختبرات أو المصانع ، بفعل عدم التحكم في قدرات الطبيعة بالقدر المنطقي وفي حدود التجريب العلمي. يتساوى في ذلك البحر والبر والسماء. كل شيء ممكن سينمائياً حين وجود فكرة خطر أصيلة.