لم تكن مشكلة اتحاد كتاب المغرب، انتخابَ رئيس جديدٍ، أو تجديدَ أعضاء المكتب التنفيذي، بعد ما كان عاشَهُ الاتحاد من أزمات، كانت السبب في تعطيل المعنى الثقافي لهذه المنظمة الثقافية، وفقدان الثقة، في دورها الطليعي، الذي كان بين أهم ما ساعد في نشر الفكر الحداثي، وفي تكريس الانفتاح والتعدُّد الثقافيين وفي خلق مناخ من المواجهة مع ثقافة المحافظة و التقليد، وفي مواجهة أيديولوجية اليمين، الذي كان جزءاً من بنية النظام السياسي، الرافض، آنذاك، للتغيير، وللشراكة في الحكم وفي تسيير الشأن العام، بما يعنيانه من انتقال ديمقراطي حقيقي، يكون فيه الشعب هو من يختار حاكميه، دون إكراه، أو تزوير. بل إن مشكلة الاتحاد، كانت، في جوهرها، مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى. فإذا كانت مراحل التأسيس ساعدت في إثارة الانتباه إلى وجود شريحة من الناس، يختلفون في فكرهم، وفي رؤيتهم، عن باقي شرائح المجتمع الأخرى، بما كانوا يخوضون فيه من قضايا ثقافية وإبداعية، وما كانوا يطرحونه من أسئلة، كانت، ربما، غير مألوفة، وذات سياق، المجتمع، فيه، لم يكن، آنذاك، مُؤَهَّلاً، بما يكفي، لاستيعابها، فإن انتقال قيادة الاتحاد من اليمين، الذي يمثله « حزب الاستقلال »، إلى اليسار الذي كان يتزعَّمُه حزب « الاتحاد الاشتراكي »، كان أحد أوجه الصراع الأيديولوجي الذي انخرط فيه اتحاد كتاب المغرب، وأصبح هذا الصراع، أو المعنى الأيديولوجي، هو ما يحكم بنية الاتحاد، ويهيمن عليها، فيما بقي المعنى الثقافي مؤجَّلاً، أو كان تابعاً، بالأحرى، للمعنى الأيديولوجي، وخاضعاً له. بالعودة لِما كان يُكْتَبُ ويُنْشَر في عقديْ الستينيات والسبعينيات، وبعض سنوات الثمانينيات، وما كان يُنْشَر من مواد ثقافية وفكرية، في مجلة « آفاق »، ونوعية الندوات واللقاءات التي كان ينظمها الاتحاد، وما كان يَنْشُرُهُ من بياناتٍ، سيدرك هيمنة السياسي على الثقافي، وأن المعنى الثقافي للاتحاد لم يكن سوى دريعةٍ لتزكية المعنى السياسي، أو الأيديولوجي. بل إن المعنى الثقافي سيأتي من خارج الاتحاد، وسيشرع عدد من الكتاب والمفكرين، في العقد الثاني من الثمانينيات، بشكل خاص، في وضع المعنى الثقافي، في مقابل المعنى السياسي أو الأيديولوجي، رغم أن الندوات التي دارت بهذا المعنى، في بعض الجرائد الحزبية، وبعض المجلات، الثقافية التي كانت ظهرت، في هذا الوقت، كانت تسير في اتجاه تغليب السياسي على الثقافي، بالمعنى الذي يجعل الثقافي يبقى أسيرَ الانتماء الأيديولوجي، أي خاضعاً لِتَوَجُّهاتٍ سياسيةٍ معينة، وليس بالمعنى الذي يجعل من «السياسة»، وفق التمييز الذي كان اقترحه هنري ميشونيك، بين « السياسة » و« السياسي»، أفقاً للمعنى الثقافي، وليست شرطاً لهذا لمعنى. هذا ما عادَ بعض أعضاء اتحاد كتاب المغرب، في الموتمر الثامن عشر، لاستعادته، باعتباره شرط استمرار الاتحاد، وعودته لمَِاضِيه الذي كان عليه. أو كما قال أحد الأعضاء، فتَخَلِّي «الحزب» عن الاتحاد، كان من أسباب ما يعيشه الاتحاد اليوم من أزمات! بدا من خلال هذا النوع من الكلام، الذي يعيش أصحابه أزمة صيرورة في فكرهم ونظرهم، وفي معرفتهم الثقافية والسياسية، إجمالاً، أن ثمة من ما زال داخل الاتحاد يعيش على ماضي المعنى الأيديولوجي للاتحاد، ويسعى لوضع يد ال « الحزب !»، رغم ما يعيشه هذا الحزب نفسه من اختلالات وتَصَدُّع، في كل شيء، على الاتحاد، رافضين، التأكيد على مفهوم الاستقلالية، الذي طالما أكَّدْتُ عليه في ما كتَبْتُه عن اتحاد كتاب المغرب، واعتبرتُه من بين ما أوْصَل الاتحاد إلى ما هو فيه التباس في علاقته بالسلطة، وبغيرها من أنواع السلط الأخرى، التي هي ليست ضمن فكر الاتحاد، ولا ضمن اختياراته، وفي ما جاء في كلمة افتتاح المؤتمر، التي كان ألقاها الأستاذ عبد الرحيم العلام، باسم المكتب التنفيذي السابق، في تأكيده على استقلالية هذه المنظمة، التي كانت فَقَدَتْها، بشكل علني، مع انخراط الاتحاد الكُلّيّ في حكومة التناوب، التي كان يقودها « الاتحاد الاشتراكي ». لا يعني هذا أن الاتحاد كان مُسْتَقِلاًّ، تماماً، وكان يعمل وفق سياسة ثقافية بعيدة عن الدولة والأحزاب، فالاتحاد، بقدر ما كان بعيداً عن الدولة، وفي مُوَاجَهةٍ مع مختلف أجهزتها، كان تابعاً لل « الحزب»، يعمل تحت غطائه، رغم ما كان يفرضه التنوع السياسي والفكري، لأعضاء الاتحاد، من حرص على مبدأ الاستقلالية، وعدم التبعية لأي طرف كان. الذين عادوا لماضي الاتحاد، أو لسلطة « الحزب » على الاتحاد، كانوا يحتقرون الاتحاد، ويحتقرون الكُتَّاب، وينظرون إليهم باعتبارهم، قاصرين، أو غير قادرين، وغير مؤهلين لتسيير نفسهم بنفسهم، وأن وجود المثقف مشروط بوجود الحزب، وبوصاية السياسة على الثقافة. هذا النوع من الفكر السياسي الأرثوذكسي، الذي يُقصي المثقف، أو يجعله رهينةً في يد الحزب، هو صورة لأصولية سياسية، تشبه في جوهرها، الأصوليات الدينية المتطرفة التي ترى في الدين جواباً، أو حلاًّ لكل المشاكل، وأن الإنسان، لا يسير بنفسه، ولا بإرادته، بل إنه محكوم بإرادة غيره، أو هو آلة، ليس أكثر. هذا النوع من النقاش القديم، المُسْتَنْفَد، الذي حَنَّ إليه هؤلاء، كان أحد معضلات هيمنة السياسة على الثقافة، والخلط في العلاقة بين الثقافي والسياسي، بين المفهوم الحزبي للسياسة، وبين المفهوم السياسي، الذي هو داخِلٌ في رؤية المثقف، وفي أفقه، وفي حرصه على المعنى الثقافي الذي لم يكن الحزب معنياً به، إلاَّ باعتباره أداة لتزكية مواقفه، وتبريرها. إن مشكلة الاتحاد، وفق ما ذهبتُ إليه هنا، هي مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى. أن تكون منظمة ثقافية، بدون معنًى ثقافي، فهذا ما ينفي عنها صفة المعنى الثقافي، ويجعلها، بالتالي، غير ذات معنى، كونها صَدًى لغيرها، وليست لها سياستها الثقافية الخاصة بها، بما يعنيه ذلك من عجز وتبعيةٍ وخضوع. رَفْضُ المُؤْتَمِرين، في المؤتمر الأخير للاتحاد، للورقة الثقافية، وانتقادها بقوة، هو تعبير عن غياب سياسة ثقافية، وغياب أفق ثقافي واضح. ما يعني أن الاتحاد كان فاقداً للرؤية، ولم يكن مالكاً لزمام أمره. كيف يُعقَل أن يقوم عضو واحد، بلون سياسي محدَّد، بكتابة الورقة الثقافية، في الوقت الذي تفرض طبيعة التكوين الفكري للاتحاد، عمل لجنة كاملة من أعضائه على صياغة هذه الورقة، نظراً لأهميتها، في عمل الاتحاد، و لكونها خارطةَ طريقٍ، وليست مجرد تعبيرات لغوية إنشائية، تفتقد للوضوح في الموقف والرؤية، خصوصاً حين يكون الأمر متعلقاً بمنظمةٍ للكُتَّاب؟ وكيف يمكن اختزال النقاش، في موتمر الاتحاد، الذي انعقد في ظروف استثنائية طارئة، في أمور تنظيمية، كان الهدف منها، تعطيل المؤتمر، وترجيح كفة طرف ضد طرف آخر، للظفر بمنصب الرئاسة، دون أن يذهب النقاش، في أية لحظة، للمعنى الثقافي للاتحاد، الذي لم يكن يشغل أحداً من المُؤتَمِرين، باستثناء ما كانت تفرضه أعراف المؤتمر، وأعني، مناقشة الورقة الثقافية، وربما البيان العام، الذي كان بيان حزبٍ، في ديباجته، ولم يكن بيان منظمة ثقافية، لها مواقفها، ورؤيتُها الخاصة لِما يجري، في الواقع؟ لم يكن المؤتمر الأخير تعبيراً عن المعنى الثقافي للاتحاد، بل إن الاتحاد بقي خارج هذا المعنى، ولم يصل إليه، ما سيُضاعف من أزمة الاتحاد، التي بدا أن أغلب الأطراف المتناحرة، كانتْ مشغولة، فقط، بالمناصب، وبمنصب الرئاسة، تحديداً. في غياب المعنى الثقافي، في فكر الاتحاد، وفي سياسته الثقافية، إذا كانت له سياسة ثقافية، سيظل الاتحاد خارج المعنى الثقافي، وسيظل مجرد جمعية، مثل كل الجمعيات الثقافية التي تعمل على تنظيم لقاء هنا ولقاء هناك، دون أن يكون منظمة لها دور في تكريس فكر الحداثة والتغيير، ولا في شراكة الدولة في اقتراح الأفكار، وفي التأسيس لسياق ثقافي ومعرفي، يكون أحد دعامات بناء مجتمع المعرفة، بما تعنيه الكلمة من معنًى بعيد، وعميق، يكون فيه تغيير الأفكار، هو ما يذهب إليه هذا الفكر. ما لم يعقد الاتحاد ندوة وطنية، حول الاتحاد، وليس مؤتمراً، بالصورة التي جرت بها الأمور في المؤتمر الأخير، تكون مكاناً لطرح أسئلة جوهرية، من قَبِيل، الجدوى من استمرار الاتحاد بنفس الرؤية، وبنفس أفق النظر، وبنفس الآليات التنظيمية، وبنفس المواقف، التي بدا أن الاتحاد ما زال لم يخرج منها، بما تعكسه من ماض، كان فيه الاتحاد، ربما، في حاجة إلى هذا النوع من المواقف، لن يخرج الاتحاد من وضعه المأساوي الراهن، ولن يكون في مستوى ما يجري من انقلاباتٍ، في الفكر، وفي النظر.