ما هي مظاهر أزمة التعليم ؟ هل هي أزمة عقلية مغربية تستعصي على المنظومات الإصلاحية المستوردة؟ هل هي أزمة تفاوت حضاري بين المنتج والمتقبل؟ هل هي أزمة تخطيط , أم هي أزمة تقنيات وتكتيكات واستراتيجيات ؟ أم هل هي أزمة تاريخية تتفاعل فيها أزمات اقتصادية وسياسية وغيرها ؟ في ركن ” على مسؤوليتي ” المعنون ب” المشكل في الذهنيات ” والمنشور بالصفحة الأولى لجريدة الأحداث المغربية بتاريخ 25 غشت 2012 عدد 4751, جاءت إشارة ذكية من كاتب المقال إلى ما يمكن اعتباره – من ضمن كثير – أساسا من أسس نجاح تطبيق وتنفيذ كل المخططات الإصلاحية في قطاع التعليم, ألا وهم رجال التعليم الذين يبقون كما قال صاحب المقال الفئة الأساسية التي يوكل إليها تطبيق المخططات والرؤى والمناهج وغيرها. نعم, فرجل التعليم يبقى كما قلنا أساسا من ضمن كثير الأسس التي يجب الإهتمام بها, ولكن محاولة حصر أسباب أزمةالتعليم في بؤرة واحدة هوعمل يحتوي على كثير من أحادية الرؤية ويدفع إلى تضييق أفق التحليل والقضاء على أية محاولة من طرف الفاعلين والمسؤولين للنظر إلى المسألة بصفة شمولية وعقلانية, لأن من بين أسباب فشل التدخلات الإصلاحية في مجال التعليم: عدم شمولية الرؤى والتبئير الأحادي المنظور مع رفع سقف الإنتظارات والنتائج. ولكن, دعونا نكن شجعانا ولنسم الأشياء بمسمياتها, ولنبدأ بطرح السؤال التالي: هل بالإمكان القضاء على الأزمة التعليمية التي هي أزمة مجتمع بالإعتماد على مخططات عشرية أو خماسية أوغيرها, كأننا نتهيأ لتشييد مدينة أوبناء قناطر؟ المشكل هوأننا لا نريد أن نعي بأننا بصدد ” بناء ” مجتمع, أي بناء إنسان متكامل, وبكل مقوماته النفسية والعقلية والمعرفية والقيمية, أي بكل مقوماته الشخصانية, وليس من العقلانية في شيء أن نحصر مصير بناء شخصية إنسان – أي المجتمع – في مخططات ورؤى ومنظومات تربوية يحكم نتائجها سقف زمني, لأننا بسبب ذلك سوف نحكم عليها بالقصور مهما كانت مقارباتها واقعية وعقلانية وشمولية. وإذن فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو : ما هي مظاهر الأزمة التعليمية, وما هي المعايير التقييمية التي ارتكز عليها القائلون بأزمة التعليم ؟ هل هي معايير مرتكزة على أزمة النتائج, أم أزمة القيم, أم أزمة المنظومة ككل, أم أزمة الذهنيات والعقليات المسؤولة عن التنظير والتخطيط, أوالأخرى المسؤولة عن التنفيذ والتطبيق؟ الخطاب الملكي الأخير, بلا شك, دق ككل مرة, ومرة أخرى, ناقوس الخطر بخصوص قطاع التعليم, وفي نفس الوقت فتح الباب مشرعا أمام مختلف المتدخلين سواء من قريب أو من بعيد ليتناولوا أزمة قطاع التعليم – كل من جهته, وكل من زاوية نظره – بالتحليل والتنقيب والتمحيص, وفي بعض الأحيان بكثير من الضغط والتشنج الناتجين عن الشعور بضرورة إرضاء جهات خارجية ما, تماما كما تعودنا كل سنة أو سنتين أو أقل أو أكثر دون الخروج بأية نتيجة اللهم إلا بلورة رؤى بيداغوجية وديداكتيكية تفتقر إلى أهم ركيزة : ألا وهي الطابع الهوياتي, والبحث, مقابل ذلك, وب”استعجال” واستلاب عن أحدث المنظومات للقيام باستيرادها ومحاولة تطبيقها عبر آليات لا تمتح من العمق الهوياتي للمجتمع, ولا تأخذ بعين الإعتبار طبيعة المجتمع وخصائصه الثقافية والحضارية التي لا يمكن أن تسمح إلا بما يستجيب لخصوصيتها , وقطعا لن تستجيب لأي حلول إسقاطية مستمدة من خصوصيات غريبة. أود أن أتساءل كما يتساءل الجميع عن السبب الذي يجعل الكل لا يستفيق فجأة ويقيم الدنيا ولا يقعدها إلا بعد أن يدق الملك ناقوس الخطر حول بؤرة ما من بؤر الأزمة في البلاد, وهذه عادة تعودنا على ملاحظتها منذ أن أصبحنا نعي بأنفسنا ككائنات تنتمي إلى بلد اسمه المغرب, ماذا كان سيفعل المسؤولون عن قطاع التعليم من أجل الدخول المدرسي المقبل لو لم يتطرق الملك في خطابه الأخير لأزمةالتعليم ؟ بدون شك سوف يمر كل شيء كأنه لا أزمة في الأفق, وسوف تسير الأمور باعتيادية ورتابة. أما الآن, وبعد أن تكلم الملك, فسوف تقوم الدنيا ولا تقعد إلا بعد أن تطبخ – على عجل مرة أخرى – حلول مستعجلة تحمل هذه المرة شعار الهوية والمواطنة وتمجد الحلول النابعة من صلب الأرض والعقل المغربيين, ووداعا للتجارب المستوردة. لنكن صرحاء : الملك لا يريد أن تتبلور رؤى إصلاحية في قطاع التعليم إرضاء له, بل هو يريد أن تصب كل الرؤى في نفس الخط الذي يهم مستقبل البلاد والعباد, ذلك الخط الذي يجعل المواطن المغربي كيفما كان وضعه الإعتباري هو أصل وصورة البلد أمام الذات وأمام الآخر. ولا أظن إلا أن من أسباب استمرار الفشل في الخروج من الأزمة هو البحث عن حلول استعجالية وترقيعية من أجل إرضاء ملك البلاد, مع ما يصاحب ذلك من تعبئة وجعجعة على كل المستويات من أجل إضفاء الكثير من اللمعان المزيف الذي ظهر بأنه لا ينتج دقيقا,وإنما أنتج فراغا ومزيدا من التأزم, وحتما ليس هذا ما ينتظره لا الملك ولا المجتمع. إن إصلاح التعليم يجب أولا أن يبدأ بترتيب الأولويات وتحديد الغايات, والتخلي عن التسقيف الزمني ذي الأمد القريب والمتوسط : فأولويات أزمة النتائج الدراسية تختلف عن أولويات أزمة طرائق الديداكتيك, وأولويات أزمة المعرفة واكتساب القيم تختلف عن أولويات أزمة المهارات وتحقق الأهداف والإندماج المجتمعي…إننا بصدد العمل من أجل ” صنع ” مجتمع مستقبلي يساير الركب الحضاري العالمي ويندمج فيه, ويستطيع المساهمة في بناء تاريخ الإنسانية بعد أن يكون قد ساهم في بناء صرحه الحضاري الخاص. وهذا لن يتأتى في ظرف عشر سنين أو عشرين سنة, ولن يتأتى بفبركة حلول استعجالية مستوردة يتضح في الأخير أنها تعقد الأمور أكثر مما تتيحه من حلول, ولعل الرغبة في الخروج من الأزمة بأخف الأضرار وفي أزمنة قياسية, وعدم الإيمان بقدراتنا الذاتية وعقلنا الجمعي, وبخصوصيتنا الحضارية, والرغبة في التخلص من الضغط الذي يشعر به البعض جراء المسؤولية, كل ذلك ساهم في خروج المخططات الإصلاحية عن أهدافها, لتسفر عن نتائج عكسية إن لم نقل كارثية سوف لن تظهر آثارها إلا بعد أجيال من الآن, لأن المجتمعات, والعقليات والحضارات لا تبنى في عشرية, ولا تظهر نتائج الإصلاح أو الإفساد فيها إلا بعد أجيال وحقب. إن إشارة الملك إلى مسألة التعليم, لم تكن دعوة منه إلى إعادة نفس السيناريوهات النمطية القديمة التي تعود عليها المغاربة والتي تبدأ مع كل بداية موسم دراسي جديد بإصدار المراسيم والمذكرات والتوصيات, وتكوين خلايا أزمات ومجالس استشارية مركزية وجهوية في أزمنة قياسية ليتضح في الأخير أن عقولنا عاجزة عن ” خلق ” منظومة تربوية فعالة وواقعية وفوق ذلك منظومة تربوية مواطنة. لقد كان من الحري أن نكون الآن قد انتهينا من تشخيص بؤر الأزمة على الأقل كحصيلة للسنوات الممتدة من سنوات التقويم الهيكلي إلى اليوم, لأنها سوف تكون حصيلة ثقيلة بالكوارث التي اكتوت بها أجيال وراء أجيال, وأعطت في الأخير ما نشهده اليوم من أزمات متتالية على الأقل على صعيد قطاع التعليم, لأن أزمة قطاع ما, ما هي في واقع الأمر إلا تعبير عن وجود أزمة بنيوية عامة ومتداخلة المكونات… لا بد وأن هناك تقارير ودراسات معمقة قد أنجزت, ولا بد أن يكون من ضمنها دراسات رصينة وعقلانية وضعت الأصبع على مكمن الخلل في المنظومات التعليمية المجربة على مر السنين والتي لم يكتب لها النجاح. انطلاقا من هذه التقارير والدراسات, واعتمادا على نوابغنا من علماء الإجتماع, وعلماء نفس المجتمع, وأنثروبولوجيين, ومنظري البيداغوجيا وغيرهم من المتخصصين في مختلف الميادين التي يمكن أن تكون ذات نفع, يمكن أن نبلور رؤية واقعية ومحلية لمقترحات الحلول وتسطيرالأهداف والغايات ” المفصلة ” حسب حاجيات المجتمع المغربي وخصوصيته, وهنا لا بد من أن نذكر بالضرورة التي يكتسيها تشجيع البحث العلمي الهادف و المحتضن من طرف الدولة, لأن البحث العلمي الذي ترعاه الدولة لغايات معينة ومحددة, تكون له نفعية في مثل هذه الحالات, وإذن فإنه من الضروري أن يتم تشجيع البحث العلمي ذي الأهداف المؤسساتية العامة, وأن يسير في خط موازي للبحث العلمي الأكاديمي, لأنه لو كانت لدينا مثل هذه الدراسات المعمقة حول المجتمع والمنجزة خصيصا من أجل أن تكون أرضية للإصلاح لما سقطنا في معضلة التجريب تلو التجريب لمنظومات تعليمية جعلت من المجتمع المغربي فأر تجارب لحقب طويلة دون نتائج تذكر غير تعميق الأزمة تلو الأزمة. إذن, وكعودعلى بدء, ما هي مظاهر أزمة التعليم ؟ هل هي أزمة عقلية مغربية تستعصي على المنظومات الإصلاحية المستوردة ؟ هل هي أزمة تفاوت حضاري بين المنتج والمتقبل؟ هل هي أزمة تخطيط, أم هي أزمة تقنيات وتكتيكات واستراتيجيات ؟ أم هل هي أزمة تاريخية تتفاعل فيها أزمات اقتصادية وسياسية وغيرها ؟ لا بد من الإسراع بالقول أن أزمة التعليم هي كل هذا وأشياء أخرى : المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات له خصوصيته التي تفرضها عليه عدة عوامل مرتبط بعضها بالتاريخ والدين وبعضها مرتبط بالوعي بالذات, مما يجعله – ككل المجتمعات ذات العمق التاريخي – يستشعر خصوصيته ولا يستجيب إلا لما هو نابع من تربته, ولهذا فإنه من العسير أن يتقبل العقل المغربي منظومة تعليمية لا تتجاوب وخصوصيته المركبة إلا إذا تم تعديلها وفق الحاجيات الذاتية والخاصة, ووفق نمط التفكير السائد, ووفق الأهداف المسطرة والغايات الكبرى للوطن, وإلا إذا كانت أولا معالمها واضحة لدى من ” يستوردها “, وعلى هذا فإن الخصوصية كما تظهر في المقومات الحضارية كالدين واللغة والتاريخ والثقافة, تتمظهر أيضا في الشعور العميق بضرورة احترام سيرورة التاريخ في ما يخص التطور الحضاري, بمعنى أن المجتمع المغربي لا يستجيب لمنطق الطفرات الذي – وللأسف – كان من ضمن الأسباب التي جعلت جل محاولات الإصلاح تبوء بالفشل, وهذا ما هو إلا نتيجة حتمية للجهل التام بتركيبة المجتمع المغربي من طرف المسؤولين عن قطاع التعليم فيه والذين يخططون لنظريات الإصلاح, ولا أدل على هذا الأمر من البلبلة والخلط الكبيرين اللذين أسفر عنهما المخطط الإستعجالي وما يدعى ببيداغوجية الإدماج, ومن هنا وجب البحث عن حلول من داخل الخصوصية المغربية بكل تلويناتها وليس من خارجها. ولعل الرؤية ” الماكروسكوبية ” لأزمة التعليم والتي دأبنا على ملامستها من خلال مختلف التحليلات والتدخلات من هنا وهناك, لا يجب أن تنسينا أن للجوانب التقنية-التنفيذية ” الميكروسكوبية “ دورها الأساسي في تقليص نتائج الإصلاح, وما الغموض الذي اكتنف جوانب بعض البيداغوجيات من حيث المفاهيم والأهداف العامة والخاصة, ومن حيث المهارات والقدرات وغيرها, ومن حيث التداخل الظاهر بين مكونات منظومتين بيداغوجيتين أو أكثر, سواء على المستوى المفاهيمي أو على المستوى الإجرائي, إلا دليل على أن الغموض ليس من صميم ذهنية المدرس ولا من صميم عقلية المتلقي أو محيطه الإجتماعي, وإنما هو ناتج عن قصور في استيعاب الغاية القصوى التي من أجلها تم اعتماد هذه البيداغوجيا أو تلك, ومثلا, فالمقاربة بالكفايات هي في الأصل مقاربة – إذا أمكن القول – مقاربة ذات نفس طويل وأفق زمني بعيد, لا تتحقق غاياتها ( ومنظروها الأصليون يعلمون ذلك ) إلا بعد زمن, أي أنها ترى إلى خلق جيل حسب معايير وسمات خاصة يمكنه استغلال كفاياته وكفاءاته عندما يصير جزءا فعالا في المجتمع, ولعل من الأخطاء التي عجلت بفشل هذه المقاربة في بلادنا هو استعجال نتائج هذه المقاربة في زمن لا يسمح – على المستوى العام – حتى بتكوين شخصية فرد واحد من طرف أبويه…وعلى هذا, فإن حديثنا عن الأولويات, وعن ترتيبها, ما هو إلا إرادة منا القول بأن غاية التعليم لا ترتبط بنتائج سلك دراسي, أو دورة تكوينية, وليست مرتبطة برغبة شخص أو رؤية حكومة أو بالإستجابة لانتظارات جهة خارجية ما. إن مسألة التعليم مسألة مستقبل وطن ومجتمع وحضارة : والوطن والمجتمع والحضارة مكونات أساسية للهوية, والهوية لا يمكن أن تبنى في عشرية .