عندما برز الوطنيون بالمشهد السياسي في عقد عشرينيات القرن الماضي، كانوا جلهم ما زالوا شبابا، وكان ثلاثة منهم من أقران الأمير سيدي محمد بن يوسف، الذي سيعتلي العرش يوم 18 نونبر 1927، بعد بلوغه الثامنة عشر من عمره في غشت من تلك السنة، والشباب الثلاثة هم علال الفاسي، أحمد بلافريج ومحمد حسن الوزاني. كان المجتمع في البداية ينظر إلى الوطنيين كشباب يثيرون لآبائهم مشاكل كثيرة مع المخزن أو بالأحرى مشاكل مع سلطات الحماية الفرنسية الوصية على المخزن. ولكن، في عقد الثلاثينيات، وبفضل العلاقات التي ستربط الوطنيين الشباب مع الملك الشاب سيدي محمد بن يوسف، ستتغير نظرة المجتمع إلى هذه الفئة من الناس الذين يعملون على توحيد كلمة المغاربة ضد الفرنسيين الذين يحتلون البلاد عسكريا وسياسيا واقتصاديا. وشيئا فشيئا سيصبح للوطنيين شأن كبير وسيرى فيهم المجتمع القدوة الحسنة، والمجموعة القادرة على محاربة الاستعمار الفرنسي رغم ما كانت تقوله بعض العناصر الرجعية أي من المستحيل أن يتغلب الوطنيون على دولة عظمى هي فرنسا. والعناصر الرجعية في المجتمع كانت تتحصن في مهام المسؤوليات المخزنية وبعض الفقهاء الانهزاميين، لكن هذا لم يمنع أن العديد من أصحاب المخزن والفقهاء كانوا متعاطفين مع الوطنيين أو أعضاء في الحركة الوطنيةْ. إلا أن الاعتبار الذي بدأ يخصه المجتمع لرجال الحركة الوطنية جعلهم يحتلون الصدارة في اهتمامات الرأي العام والأخبار المتداولة يوميا بشأن المواجهة مع سلطات الحماية. وفي المناسبات الاجتماعية سواء تعلق الأمر بالأعراس أو الجنازات، أصبح الناس يقفون احتراما وإجلالا للوطنيين مثل ما كان الأمر فيما مضى بالنسبة لأصحاب المخزن والفقهاء والشرفاء. وسيكون لهذه التغييرات تأثيرا على وضعية المرأة : - أولا لأن لا أحد من الوطنيين اعتبر أن من حقه أن تكون له زوجة ثانية على عكس أصحاب المخزن والفقهاء والشرفاء. - ثانيا لأن الوطنيين سيعملون تدريجيا على الدفع بالبنات إلى تلقي العلم والمعرفة، وسيكون تعليم البنات محورا لمذكرة رفعها أستاذ الرياضيات المهدي بن بركة إلى ملك البلاد سيدي محمد بن يوسف في مارس 1943. و خلق الوطنيون في إطار محاربة الوجود الاستعماري، ومطالبتهم باستقلال البلاد وحريتها، تماسكا اجتماعيا وتوحيدا وطنيا أخرج المغاربة من حالة التطاحن القبلي والتنافر الجهوي. وكل هذه عوامل رفعت من معنوية المغاربة ووعيهم السياسي بأن استرجاع السيادة الوطنية والحصول على الاستقلال سيمنحهم كل الحرية لبناء مجتمع جديد ومسؤول. وتجدرت تنظيمات الحركة الوطنية في تربة المجتمع المغربي الذي أصبح ملتفا حول الملك محمد الخامس على اعتبار أنه يقود الحركة في معاركها ضد نظام الحماية. ولم يسبق لأي واحد من السلاطين الذين تربعوا على عرش المغرب أن وصل إلى المجد والحظوة الشعبية والاعتبار الذي ناله الملك محمد الخامس لأن تنظيمات الحركة الوطنية عرفت كيف تضمن حضوره اليومي في ضمير المغاربة، سواء منهم سكان المدن أو العالم القروي، بينما كانت علاقة السلاطين مع سكان المملكة فيما مضى من العصور تقوم على أساس تحركات متوالية هنا وهناك عبر جهات المملكة للقضاء على حركات العصيان والتمرد. أما علاقة المغاربة مع ملكهم المحبوب محمد الخامس، فقد كانت السلطات الاستعمارية وعملاؤها من خدام المخزن، ينظرون إليها في بعض المناسبات كاستفزاز لهيبة المخزن ورموزه من الباشوات والقواد الخاضعين للسلطات الاستعمارية. كان الملك محمد الخامس يتقاسم هذا الإشعاع الشعبي مع ولي عهده الأمير مولاي الحسن الذي أصبح، مع توالي المعارك مع الإقامة العامة، وخاصة في عهد الجنرال ألفونس جوان (1947-1951)، بمثابة رأس الحربة ضد الوجود الاستعماري الفرنسي بالمغرب. واستمرت هذه العلاقات الخاصة التي ربطت الأمير مولاي الحسن بالقادة الوطنيين إلى ما بعد عودة الملك من منفاه، حتى أن ولي العهد هو الذي ترأس مؤتمر الشبيبة الاستقلالية بفاس في العطلة الربيعية لعام 1956 في مهرجان شعبي احتضنه ملعب كرة القدم المجاور لمحطة القطار. وارتجل “أمير الأطلس” خطابا كان كله تنويها بقادة حزب الاستقلال وفي المقدمة الأمين العام للحزب المرحوم الحاج أحمد بلافريج الذي كان حاضرا في مدينة فاس ذلك اليوم الذي عمت فيه الفرحة العاصمة العلمية، بمناسبة أول زيارة للأمير في عهد الاستقلال، بينما كان الزعيم علال الفاسي غائبا عن مسقط رأسه في تلك المناسبة وكان مضطرا لمتابعة وقائعها من مدينة طنجة. ومع توالي أيام عهد الاستقلال سيكون على كل واحد من القادة الوطنيين أن يتعرف أكثر على نوايا الأمير وما كانت له من تصورات لقيادة المملكة كولي للعهد أو كملك فيما بعد. في هذا الإطار دخل المغرب مرحلة حرب باردة ما بين مكونات المشهد السياسي للسنوات الثلاث الأولى من عهد الاستقلال وكان من أخطر تجليات الحرب الباردة ما عرفه إقليم تافيلالت (عصيان العامل عدي وبيهي ضد الحكومة) في شهر يناير 1957 وبعدها تمرد الكولونيل بن الميلودي في ولماس في شهر أكتوبر 1958 والذي أعقبه عصيان جبال الريف عند نهاية عام 1958 وبداية 1959. ويمكن القول بأن هذه حوادث وأحداث لم يخصص لها المؤرخون المغاربة ما يكفي من الدراسات والتحاليل الكفيلة بجعل الباحثين يستوعبون حقائق الصراعات السياسية لمغرب عهد الاستقلال. أما التحولات التي عرفتها الهيكلة الحزبية في مطلع سنة 1959، فيمكن اعتبارها وليدة عدة أسباب سياسية ونزاعات شخصية بين القادة والزعماء ولكن الجانب الذي كان حاسما في وقوعها هو عدم تمكن القادة الوطنيين من التوصل إلى أرضية مشتركة حول كيفية التعامل مع الحرب الباردة التي واجهتها الحركة الوطنية قبل حدث 25 يناير 1959. واعتبر بعض المقربين من ولي العهد الأمير مولاي الحسن، أن حركة 25 يناير ما هي إلا الشطر الأول من انقلاب سياسي خطير، فاعتقدوا أن لا بد من القيام بإجراءات كفيلة بتلافي الوصول إلى الشطر الثاني لهذا الانقلاب، وهذا ما يفسر رد الفعل العنيف الذي سيتكبده قادة حركة المقاومة من مؤسسي حركة 25 يناير 1959. (يتبع)