بعدما مرت عشر سنوات على عودة الملك إلى عرشه كتب «جون واتر بوري» في أطروحة «أمير المؤمنين والنخبة السياسية المغربية» على ضوء معاينته الميدانية للحالة السياسية التي ورثها مغرب الستينيات عن الصراعات السياسية لبداية عهد الاستقلال بأن «الملكية خاضت مناوراتها للتأثير على النخبة السياسية، في موقف دفاعي امتد من نهاية سنة 1955 إلى عام 1960 ثم كانت المرحلة الهجومية التي ابتدأت في 1960». وما يعتبره الباحث الأمريكي «مرحلة دفاعية» هي بالذات فترة السنوات الحاسمة لتصفية التركة الاستعمارية والتي يمكن اعتبارها امتدادا للمراحل التي خرجت فيها الحركة الوطنية إلى الواجهة وعرفت كيف تثبت وجودها في المجابهة المستمرة مع الإدارة الاستعمارية. طوال هذه المراحل (المجابهة مع الاستعمار والعمل على تصفية التركة الاستعمارية في فجر الاستقلال) كان مازال على قيد الحياة من يمكن اعتبارهم فاعلين أساسيين أو زعماء كان المغاربة ينظرون إليهم كقادة أو كنخبة سياسية أنتجها المجتمع من خلال معارك سياسية أو معارك أخرى للمقاومة المسلحة. آنذاك فالمواجهة السياسية مع المستعمر أو طوال مراحل الكفاح المسلح وتخطيط بعض العمليات، لم يكن المغرب يعرف ما أصبح يحدث اليوم: البحث عن إنسان لا علاقة له بالانشغالات السياسية وهموم الشعب، يطلب منه أن يصبح وزيرا وبعد ذلك يصبح زعيما أو على الأقل عضوا في قيادة حزب بدون أن يسبق له أن حضر اجتماعا لخلية حزبية ولا حتى تجمع سياسي. وكم عندنا من هؤلاء «الزعماء» ممن يظهرون على الشاشة الصغيرة ويتحدثون بكل قلة حياء ولا تظهر علامات الخجل على وجوههم. ومن هنا يمكن للإنسان أن يتخيل المسافة بين ما كان عندنا من مستوى حياة سياسية عادية والمستوى الهزيل الذي أراده هؤلاء الناس للحياة السياسية في هذا الزمن. كانوا في سنوات الرصاص ينصحون السكان بالابتعاد عن السياسة واليوم وقد أصبحت السلطة الإدارية تطوق المجتمع، فلم يبق عندهم خوف من حياة سياسية لا تثير حماس الشعب. منذ أكثر من سبعين سنة عندما وضع الوطنيون يدهم في يد ملك شاب هو سيدي محمد بن يوسف وجعلوا منه قائدا لحركتهم، أصبح المجتمع المغربي في منتصف الثلاثينيات مؤهلا ليُخرج من صفوفه زعماء سياسيين جدد، لا يقلون وطنية عن بطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي المبعد من طرف الفرنسيين إلى جزيرة «لارينيون»، بعد نفاد إمكانيات المجابهة المسلحة في جبال الريف سنة 1926 مع الجيش الإسباني والجيش الفرنسي وسلاح طيرانه. هكذا بدأ المغاربة يعبرون عن تعلقهم بالقادة الوطنيين بتداول صور للملك الشاب وبطل حرب الريف والزعماء الجدد بعد الثورة الخطابية كشيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، محمد اليزيدي، علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني والحاج أحمد بلافريج وجلهم أقران لملك البلاد. إلى جانب هؤلاء ستُظهر معارك الأربعينيات ثلاثة زعماء شباب ولدوا على التوالي سنة 1920 (المهدي بن بركة) و1922 (عبد الرحيم بوعبيد) و1924 (عبد الرحمن اليوسفي). وباستثناء اليوسفي أطال الله عمره، رحل إلى دار البقاء، كل أفراد هذه النخبة الوطنية ممن كانوا يمارسون حضورهم على الدوام في وجدان المغاربة، بعيدا عن الحق في استعمال أمواج الإذاعة أو محطة تلفزة التي لن تشرع في بث برامجها إلا في مارس 1962 وحتى الصحف والجرائد القليلة التي كانت تتحدث عنهم كانت خاضعة لمنطق «حذفته الرقابة» قال بوعبيد في إحدى الاجتماعات: «المهام النضالية التي نقوم بها لم نتسلم في شأنها ظهيرا أو مرسوما للتعيين بل اندفعنا لها بصفة تلقائية وبطواعية». كان أول من رحل إلى دار البقاء هو محمد الخامس (فبراير 1961) ثم محمد بن عبد الكريم الخطابي (فبراير 1963) وشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي (يونيو 1964)، المهدي بن بركة (أكتوبر 1965)، علال الفاسي (ماي 1974)، محمد حسن الوزاني (9 شتنبر 1978)، بلافريج وبعده اليزيدي (عام 1990) وأخيرا عبد الرحيم بوعبيد (يناير 1992). العشرة كانوا على قيد الحياة طوال الفترة التي اعتبرها «جون واتر بوري» مرحلة «الموقف الدفاعي» وكانت لهم مستويات متفاوتة للتأثير على الرأي العام وتوالت أجيال المغاربة ممن أصبحوا من طائفة تسمى بأقوياء النفوس بعد اتصال أو احتكاك مع هؤلاء الزعماء أو فقط مع واحد منهم، يصبح الإنسان قادرا على الصمود لأنه لا يخاف من سلطة عهد الاستعمار أو عهد الاستقلال. ومازلنا لا نتوفر على معلومات مضبوطة حول ما كان يجري في الدهاليز السياسية طوال الفترة الممتدة ما بين 16 نونبر 1955، يوم عودة الملك إلى عرشه و26 فبراير 1961، يوم رحيله رحمه الله إلى دار البقاء. مات الملك محمد الخامس بعد مرور شهور على ذكرى ميلاده الحادية والخمسين في غشت 1960 وخمس سنوات وثلاثة شهور ونصف بعد عودته المظفرة إلى الرباط عاصمة ملكه. وما بين عودته ووفاته توالت على إدارة الدولة خمس حكومات: - الأولى ترأسها المرحوم البكاي في دجنبر 1955. - الثانية البكاي كذلك في 22 أكتوبر 1956. - الثالثة الحاج أحمد بلافريج في ماي 1958. - الرابعة عبد الله ابراهيم في دجنبر 1958. - الخامسة ترأسها الملك وولي عهده في ماي 1960. ولكل حكومة ظروف وملابسات بداية عملها ونهايته ولا علم لعامة الناس لحد الآن بأسرار وخبايا «الموقف الدفاعي لمناورات التأثير على النخبة السياسية»، وإلى أي حد كنا مانزال «تحت المجهر»، أي استمرار علاقات «الترابط الحر» مع فرنسا وهي حالة سياسية ستتحول مع الأيام إلى علاقة شراكة استراتيجية. آنذاك كان المغرب مازال لم يتخلص من الاحتلال العسكري للجيش الفرنسي أو الإسباني أو وجود قواعد عسكرية أمريكية. هذا الوجود العسكري كان لا يخلو من انعكاسات وتأثيرات على حوادث وأحداث «مناورات التأثير على النخبة السياسية». من هم الذين يعرفون اليوم أسرار وخبايا ما حدث في إقليم تافيلالت في يناير 1957؟ سافر محمد الخامس رحمه الله بعد سنة من تعب المسؤوليات الجسام الجديدة لعهد الاستقلال، إلى إيطاليا طلبا للراحة والاستجمام وكان مازال في الباخرة عندما وصله خبر يقول بأن عامل تافيلالت قد قام بعصيان ضد الحكومة التي يتولى أغلبيتها حزب الاستقلال وادعى أصحاب العامل «عدي وبيهي» أن حزب الاستقلال «قام بنفي الملك»، وهذه المرة، إلى إيطاليا. هذا ما قاله أناس بسطاء شاركوا في «انتفاضة» عدي وبيهي في يناير 1957 أمام محكمة عقدت جلساتها بالرباط في نهاية 1958. يوم نتعرف على ما جرى في إقليم تافيلالت ومن كان يسعى إلى خلق متاعب سياسية للمغرب وهو يخطو خطواته الأولى لبناء دولة مستقلة، إذاك سنكون في الصورة الحقيقية للجانب الخفي في الصراعات السياسية لما يسميه «جون واتر بوري» الباحث الجامعي الأمريكي «مناورات التأثير على النخبة السياسية». ثم هناك الأحداث التي عرفتها منطقة الريف بعد عامين أي في نهاية 1958 وبداية 1959 بتزامن مع نهاية حكومة بلافريج وبداية حكومة عبد الله ابراهيم. وأحداث الريف كان الخطيب وأحرضان وراء اندلاعها، ويدعي الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمه الله في كتابه «مسار حياة» بأن الحركة الشعبية لم يكن لها دور في هذه الأحداث على اعتبار أن لا علاقة لعملية إعادة دفن المرحوم عباس المسعدي (فاتح أكتوبر 1958) باندلاع التمرد الذي انفجر في جبال الريف والذي اتسع مداه، الأمر الذي سيتطلب تدخلا عسكريا حاسما من القوات المسلحة الملكية بقيادة ولي العهد الأمير مولاي الحسن، للحد من خطر بدأ يهدد الوحدة الترابية والوطنية للمملكة المغربية. فالدكتور عبد الكريم الخطيب يحاول تجاهل خطورة الدور الذي لعبه وهو دور مثيل لأي إنسان يرمي في الغابة بأعقاب سيجارة انتهى من تدخينها ويكون ذلك سببا في اندلاع حرائق مهولة. وما كان يزيد في خطورة أحداث تافيلالت أو جبال الريف، وقوعها في مناطق غير بعيدة عن التراب الجزائري في مرحلة كانت تحتد فيها معارك الحرب من أجل تحرير القطر الشقيق علاوة على وجود قواعد عسكرية للجيش الفرنسي في الجنوب والجيش الإسباني في الشمال.